االخطاب العاطفي في الغناء السوداني بين تدليل الحبيبة والتمرد عليها “2-2”

مانشستر: آمنة عمر
قديماً لم تعرف أغنيات العشق الضاربة في مهامه الهجران طريقاً للتمرد على الحبيبة ولم تخرج المفردة الشعرية عن تيه محبوبة موغلة في الدلال، ربما أكثر ما يمكن لشاعر أن يفعله ضجراً على ليالي الفراق الضارية أن يسكب الدمع والقصيد سيان لعله يفلح في طرق قلبها الموصد بكبرياء الحسن ونرجسة الجمال، ومنذ الحقيبة التي لم تنج من وصفها محاسن امرأة توسد فحول الشعراء استسلامهم لحبيب غاضب بعد أن أشهروا خيار قصائدهم لعودته، أبو صلاح ود الرضي، العبادي، سيد عبدالعزيز وغيرهم ممن طوع المفردة لإثراء الوجدان الغنائي، جميعهم ما بلغت كلماتهم (ندية) الخطاب لحبيبة وما بارحت أشعارهم محطة مغادرتها لعل عودة غريبة تكون.
منكوب مثلي
ما زالت لهجة عمر البنا العنيدة تقفز به سنوات إلى الوراء، وإبراهيم الرشيد يحكي: أول زول جابهني كان عمر البنا، ومن بعده العبادي، أما سيد عبدالعزيز وود الرضي أرسلا في طلبي (نادوني في دكان علي محمود التنقاري) وقالوا لي: ياولدي إنت ود ناس فلان وفلان أهلك فقراء وشيوخ دا شنو السويتو دا؟! وأول من ساندني بقلمه كان الكاتب والصحفي الكبير حسين عثمان منصور والشاعر إسماعيل حسن لأنه (منكوب) مثلي.
واستطرد الرشيد: صادف وقتها بداية تأسيس الاتحاد النسائي، فجاءت إليّ بعض الأخوات المدرسات بمظاهرة لإيقاف الأغنية لأنها أثّرت في الرأي العام ضد مشروعهن الجديد، كانت هناك خالدة زاهر وفاطمة أحمد إبراهيم، حاجة كاشف وغيرهن ولما نزلت الأغنية صار الناس يحاصروهن بالحديث (أها دايرت مرة تعملوا إتحاد ومرة يتحدّوكن) فقلن لي: (وقف الأغنية دي عشان عبيد وسيد والعبادي ديل يريحونا شوية) فقلت لهن اتصلن بإبراهيم عوض وكان وقتها الأغنية انتشرت والناس حفظوها خلاص، إبراهيم عوض قال لي (يعني لو مشيت حفلة والناس طلبوا إتحداك ما أغنيها ليهم؟ أنا جاي أطرب الناس).
كان (توديها في جواب)
نساء الاتحاد النسائي ذهبن الى اللواء طلعت فريد وكان وزيراً آنذاك، وطلبن منه إيقاف الأغنية فبعث في طلبي، وقال لي (ياولدي مالك ومال الشبك دي نحن عندنا تراث وقيم تجاه المرأة)، ولما أخبرته أنها تجربة شخصية خضتها واكتويت بنيرانها أردف طلعت فريد (طيب ماكان توديها في جواب مش كان أحسن من إنتشارها دا)، تركني طلعت فريد لقناعاتي لكن النساء لم ييئسن وذهبن إلى السيدة الفضلي (سكينة) حرم رئيس الجمهورية الفريق عبود وبعد أن استمعت اليهن قالت: (أنا مقدرة موقفكن يابناتي لكن الشاب دا متكوي بالنار وعنده جرح كبير خلوه يعبر)، وفي النهاية أصبحوا يأثروا على إبراهيم عوض حتى يمتنع عن غنائه لكنه كان (لو ما غناها في حفلتين يغنيها في الثالثة).
رقة الحلنقي
للشاعر إسحق الحلنقي تجربة لا تقل عن تجربة الرشيد، فرغم رهافة حسه ووصفه للمرأة بالوردة والعصفورة، إلاّ أن شاعريته أُتهمت بالنرجسية من لجنة النصوص التي كان على رأسها الشاعران محمد المهدي المجذوب وإبراهيم العبادي، يعود الحلنقي إلى سبعينيات القرن الماضي ويحكي قصة (والله إنت سعيد يالبريدك أنا)، فيقول: إسماعيل حسن هو الذي قاد التمرد على تدليل أمام المرأة والتذلل أمامها، أما أنا ورغم تصنيفي ضمن المتمردين، لكن بعض قصائدي كنت على طريقة البنا (أجلس أمامكم خاضع ذليل)، وحين كتبت (والله إنت سعيد يالبريدك أنا) اتهمتني لجنة النصوص بالنرجسية واعترض العبادي على هذا المقطع باعتباره تطاولاً على المحبوبة، ووجه بسحبه من القصيدة، لكن محمد المهدي المجذوب رئيس اللجنة، وقتها قال له إن المسألة مجرد فوران عاطفة، فكان أن غناها أحمد ربشة والتاج مكي في العام 1973م.
وفي إجابته عن سؤال كنت وجهته له، هل يقسو حلنقي على المرأة، أحياناً؟ قال: لا أتفق مع الصوت القاسي والمرأة في النهاية اتكاءة نستظل عندها من ظلم السنين وبسمة تضيء حياتنا.
انهيار العزيزة
الشاعر سعد الدين إبراهيم وبعد (عزيزته) الشهيرة، خرج في في أخرى عنها سمّاها (إنهيار العزيزة): (إتحررت خلاص من أسرك/ ومن صحراك الولدت صحراء/ واتخلصت خلاص من سحرك/ وبان للوردة ملامح الصخرة). يحكي سعد الدين: أن هذه القصيدة كانت حينها جديدة في خطابها وتمردها على المرأة، فبعد أن كتبت لها (العزيزة) عدت لأكتب عن انهيار هذه العزيزة، هذا الخطاب وجد نقداً لاذعاً من كبار الشعراء (ما كانوا بفوتوها لينا ساكت)، وهم الذين لم يتركوا كلمات (عن حبيبتي بقولكم)، فطلبني الشاعر الكبير عبدالرحمن الريح، وعاتبني (كيف أحكي عن حبيبتي)، فهذا غير مقبول عندهم وعندما كتب صلاح حاج سعيد (يخلق من الشبه أربعين)، وبّخه الشاعر عتيق على أنه لم يجعل شبه محبوبته فريداً وقصيدة (عشان أهلك بخليك) وجدت نقداً كبراً من عتيق وعزمي أحمد خليل، فكيف بمن يقف أمام المرأة بندية عاطفية مثل هذه.
أنشودة القلوب الكسيرة
أغنيات أخر في خريطة الغناء السوداني خرجت عن طوع المحبوبة وبارحت محطات التذلل والخنوع في الهوى حتى صارت أنشودة تحتويها القلوب الكسيرة وما حدث ليس بمعزل عن التغيير المجتمعي الكبير من خروج المرأة للدراسة والعمل على غير عادتها القديمة، ويبقى البون شاسعاً ما بين خطاب أبو صلاح: (ياحبيبي فوادي طبعاً بهواكا/ أنا أرضى هلاكي ولا أرضى سواكا)، وبين: (غدار دموعك ما بتفيد في زول حواسو اتحجرت).
? صحفية سودانية مقيمة في بريطانيا
اليوم التالي