جامعة الخرطوم.. تاريخ زاخر بالفعل الثوري لكنه يفتقد لمشروع مصالحة وطنية ناجح

الخرطوم – محمد الخاتم
كانت الأربعاء، وكان مارس محملاً بكوارثه السياسية فلم تجد السلطات ملاذاً غير إغلاق جامعة الخرطوم برتاجين؛ أحدهما لأكتوبر والثاني لأبريل، لا لشيء إلا ابتغاء الهروب إلى الأمام من مصير عبّود، الذي أرسل رجال الدرك لفضّ احتجاجات طلاب الجامعة على التصعيد العسكري ضد المتمرّدين الجنوبيين، فـ(كان القرشي شهيدنا الأول)، مؤرّخاً بذلك لأوّل ثورة شعبيّة تطيح حكما عسكريا في المنطقة ككلّ، لا السودان فحسب، تماماً كما كان سيؤول إليه الحال مع تظاهرة طلاب الجامعة الأربعاء قبل الماضي ضد موجة العنف التي اجتاحت دارفور، التي ضلت إحدى رصاصتها هدفها، وهي تقطع آلاف الكليومترات، لتخرج من صدر أحد الطلاب بعد أن ولجت من ظهره، دون استئذان أو شفاعة لكونه أعزل، في رحلة موت عبثيّة موازية لرحلة قلمه من الإقليم الدموي إلى الجامعة المسلّحة.
نحو (112) عاماً كانت جامعة الخرطوم خلالها بمثابة المكوّن الروحي والمادي لحلم الدولة الوطنية المتعثر بفعل غيرها. من بطنها خرجت مؤسسات البلد المدنيّة؛ سياسية كانت أو ثقافية أو اجتماعية أو اقتصادية، وحتى المؤسسة العسكرية أيضاً، والشاهد في الأخيرة ليس تبعية المدرسة الحربيّة للجامعة في سنينها الخوالي، بل أن المؤسسة العسكرية كانت على الدوام تتمظهر مدنياً لأنّ كثيرا من عناصر الجامعة المدنية حبّذت التمظهر العسكري.
عندما تعبر شارع (المين) الذي لا يتجاوز طوله (500) متر، وبصرك يرتد إليك كرة بعد أخرى يمينا ويسارا سترى مؤتمر الخريجين ساخراً من كتشنر، الذي جاء بعسسه لتخليد ذكرى غردون بمؤسسة، هي ذاتها من أخرجتهما معاً في ملحمة مدنيّة انطوى على حراكها وكتبت إثر مخرجاته نهاية سنين الاستعمار.. هي الأولى إذن في المنطقة التي أعيت شعوبها الملاحم العسكرية لطرد المستعمر.
ثبت قدميك إلى أيّ من الشارع الذي لا يتجاوز عرضه 5 أمتار سيتناهى إليك هدير الطلاب وهم يهتفون للقرشي والحرية كصنوين، وستسمع صليل معاولهم وهي تنازل الأيادي الحديديّة لتقبر القرشي بتحنان، وتشيّع نقيضه إلى حيث لا تتوقع الدكتاتوريات في نهاية عهدها مع السياسة.
تفرّس في الشارع عند تقاطعه مع موسكو، ستجده المنبّه المؤذي لأذني نميري وهي مشدودة إلى عده التنازلي على مدار 16 عاما، تظاهرة بعد أخرى وصولاً لأبريل، وهو مسترخيا على مارس.. احم ظهرك بهذا الشارع لتعرف لماذا كانت الأعوام (91، 95، 96، 2000، 2012) هي التي أرّخت للمحاولات الخجولة للإنقاذ للتسوية مع معارضيها، ولا تنس 2013، حين كانت الجامعة مغلقة وطلابها يرفعون “صلاة الإحتجاج بلا وجل”، ويديرون أقوى الحركات الشعبويّة في الحواري ضد النخبة الحاكمة طوال 25 عاماً.
اذهب إلى نادي الأساتذة للتعرّف على براعة الجامعة في تقسيم الأدوار الوطنية على محوريها؛ الطلاب وهم يتظاهرون، وأساتذتها وهم يطرحون مشاريع المصالحات الوطنية. وعندما يتمنّع الحكام -وهم دائما يتمنعون- يساند الأساتذة طلابهم فيكون إضراب نقابتهم الذي يجرّ إضراب بقية النقابات المهنيّة فتشلّ الحياة العامة، ويمزّق البيان الأوّل.
“لكل هذا التاريخ كان عصيا على الجامعة أن تصمت إزاء الدماء التي سالت في دارفور ولهذا التاريخ أغلقت”.. هكذا قال إبراهيم الشيخ، رئيس حزب المؤتمر السوداني، الذي كان رئيساً للمجلس الأربعيني لاتّحاد طلاب الجامعة عشيّة انتفاضة أبريل، ثم صمت (ود الجامعة) وهو يجتر معها الذكريات بفخر ليستطرد في حديثه لـ(اليوم التالي): “الثقة والاحترام الكبيرين الذين يوليهما الشارع لطلاب الجامعة ينبعان بالأساس من التزامهم الدائم بقضاياه والدفاع عنها”. بشكل فوري يضيف الرجل، في معرض ردّه على سؤالي عن مبادرة الجامعة للحوار الوطني: “رغم محاولة التخريب المتعمّدة للجامعة لعزلها عن الشارع وقضاياه، إلا أنّها لا تزال تُحظى بقدر كبير من الاحترام، خصوصاً في محور طلابها، خلافاً لمحور الأساتذة، الذين تعرضوا للفصل التعسفي، واستدبلوا بآخرين موالين للنظام”.
بالمقابل يبدى مدير الجامعة صديق حياتي لـ(اليوم التالي) ثقته في “نجاح المبادرة لما تتمع به الجامعة من استقلاليّة وقبول لدى كل الأطراف”.
وبالنظر إلى كل هذه الأطراف نجد أن المبادرة طرحت فقط حتى الآن بشكل رسمي على حزب الأمة القومي حيث التقى وفد من الأساتذة الصادق المهدي قبل أكثر من أسبوعين، لكن حياتي يقول إنّ “كل القوى السياسية وافقت على المبادرة، بما فيها الحزب الحاكم، وسنلتقيها خلال أسبوعين”.
وكان وفد الجامعة قبل من المهدي مقترحاً بتبنّي ورشة كان يرتب لها حزبه، ودعا لها نحو (20) حزباً، وفئات نقابية وقبلية ودينية، ووجدت تجاوباً واسعاً بغرض تحديد المطالب الشعبيّة لمناقشتها في الحوار الذي دعا له البشير، طبقا لتصريح من المهدي الأسبوع الماضي، زاد فيه بالقول: “نتمنّى أن لا يؤثّر إغلاق الجامعة على هذه المهمّة الوطنيّة التي تليق بتاريخ جامعة الخرطوم العريقة”.. إفادة المهدي هنا عن قبول تبنّي الجامعة لورشته تدلّل على ما ظلت تتحاشاه إدارة الجامعة عن أيّ ربط بين مبادراتها، ومبادرة الرئيس البشير، التي تراوحت إزاءها ردات الفعل السياسي، وتعمقت بموجبها حدة الاستقطاب حتى راهن اللحظة، بدلاً عن الاستواء على جادة الحوار كما أنيط بها أن تكون، فهذا الربط يئد المبادرة ويؤكد على ما قاله الشيخ بـ(فقدان الجامعة لاستقلاليتها).
مما سبق يتضح أن الجامعة سيكون لها (كلمة) قديمة متجددة حيال الاحتقان السياسي، والتصعيد العسكري الماثل، وتوابعه المعيشية المتفاقمة صباحا ومساءً على المواطنين. وبلا ريب سيسعى طلابها للنطق بها في أوّل يوم من استئناف الدراسة كما هي العادة، وإمّا كانت الكلمة مطابقة للتي قيلت لنوفمبر ومايو، أو فعل (الوطني) خيراً، وأرخى أذنيه تلقاء نادي الأساتذة، لأنّه ما عاد ممكناً رسوب أو ترسيب القرشي في امتحانات الملاحق للمرة السابعة!
سيكون خيرا لأنّ الجامعة كانت دائماً تقذف بطوق النجاة الوطني، فيكابر من هم أحوج له. تاريخها زاخر بالفعل الثوري لتغيير الأنظمة لكنه يفتقد لمشروع مصالحة وطنية ناجح، رغم كثرة المشاريع التي طرحتها الجامعة، والآن تزداد حاجتها لأنّ أيّ تحرّك شعبي غير منضبط مع حالة الاضطراب الأمني التي تسود الأطراف ستكون نتيجته نهاية الدولة والصوملة، كما يحذر المهدي دوماً، في ذات الوقت الذي يؤكد فيه غريمه وابن عمه مبارك أنّ وضع البلد “دخل الميس”، وبينهما يتمدد حياتي، متهماً الأطراف السياسية بعرقلة كل مشاريع جامعته التصالحيّة، ممنيا نفسه بنجاح المبادرة التي بين يديه

آخر لحظة

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..