وطن الحروب

وطن الحروب
عبدالله مكاوي
[email protected]
الصراع الدائر في جنوب كردفان والنيل الأزرق يبين مدي التخبط وضيق الأفق الذي يعاني منه النظام الحاكم ويدل علي غياب الحكمة الأمر الذي لازم النظام منذ استيلائه الغادر علي السلطة بصورة مخادعة، فماذا نسمي دولة خارجة من عملية جراحية بترت فيها ثلث مساحتها وضاع منها أكثر من 75% من إيراداتها من النقد الأجنبي وفضل ربع سكانها التخلي عنها وتعاني من فقر الدم والجوع والإعياء وتحتاج للعناية المركزة والحلول الإسعافية ومساعدة الآخرين وقبل ذلك الحرص علي ما تبقي من موارد واستثمارها بصورة رشيدة لتتعافي وتخرج من دائر الخطر المحيط بها ولكنها وبغباء سياسي تحسد عليه فضلت الدخول في صراع مسلح مع أطرفها ليستنزف امكاناتها الضعيفة ويعمق أزماتها ولتعيد الكرة مرة أخري وتدخل في دوامة الصراعات كأنها كائنات حربية لا تعيش إلا في بحار الدماء والظلمات. وكما قيل تبدأ العضلات في التحرك عندما يتوقف العقل وكل المؤشرات تدل علي ذهاب عقل هذا النظام وبقاء الكتلة العضلية في الميدان لتفرض الحلول الأمنية والعسكرية لكل المشكلات السياسية والاقتصادية وغيرها وحضور الخطاب الانفعالي ألتبريري و الإتهامي الخالي من أي محتوي مفيد للمواطن والذي يتخلله الرقص و الألفاظ السوقية والإرهابية كآلية حماية نفسية وكأسلوب دخيل علي الساحة السياسية وأصبح كالبثور التي تشوه جسد النظام والذي يعاني أصلاً من كل العيوب الخلقية منذ ميلاده الفاجع. وقد يكون الخلل في بنية النظام والطريقة التي وصل بها الي السلطة لتتلبسه الحالة اللصية بكل ما تحمله من خوف وقلق ومبادرة بالعداء ومحاولة تخليص النفس بكل وسيلة والتستر خلف الشعارات الدينية والأخلاقية وارتفاع وتيرة الشك والتخوين للآخرين ومحاولة محو ذاكرة الشعب وبداية تاريخ جديد يتلاءم مع مصالحهم الخاصة لينسي الشعب جريمة الاستيلاء علي السلطة بصورة غير شرعية وان ما بني علي باطل فهو باطل ومن ثم تحويل كل الوطن إلي رهينة من أجل سلامتهم الشخصية.
بعد تجربة حرب الجنوب التي أهلكت الزرع والضرع وقتلت وشردت الملايين وأرجعت البلاد قروناً إلي الوراء وعاقت كل محاولات الإصلاح والتقدم ظننا وبعض الظن إثم أنها آخر الحروب وأن الآلام والتضحيات التي قدمت خلقت وعي وإيمان بجدوى الحوار والتصالح وابتدرت نهج وطريق جديد لحل الخلافات والخصومات وسوء الفهم بطريقة سلمية ومتحضرة خاصة بعد أن ثبت بالدليل القاطع أن الاغترار بالقوة لا يحقق النصر والاستقرار المستدام حتى من قبل دول تملك من الإمكانيات ما لم يخطر علي قلب بشر خاصةً عندما تواجه خصوم يؤمنون بعدالة قضيتهم أو دفاعاً عن ذاتهم و أرضهم وحقهم في العيش الكريم حتى لو أصابتهم هزيمة فأنها تظلل مؤقتة وذلك لبقاء جذوة النضال والمقاومة كامنة في داخلهم تنتظر نضج الظروف والرياح المواتية للانتصار لتعلن عن إشتعالها وإنجاز خلاصها. هذا بالإضافة إلي أن الحروب توقظ نوازع الشر والأحقاد والعدوان والهمجية في النفس البشرية وتهدر قيمة الإنسان وهي اسمي غاية وقد كرمه الرب وجعله خليفة له علي الأرض وحذر في كثير من آياته من الولوغ في دماء البشر. بالرجوع لمشكلة جنوب كردفان والنيل الأزرق ما هي المطالب التي يستعصي حلها بالحوار هل مطالب من قبيل حكم أنفسهم بأنفسهم أو التوزيع العادل للثروة أو تحسين الخدمات وخلق مشاريع تنموية وإيجاد فرص عمل لا بنائها تستدعي الحروب أليست كلها مطلب عادلة ومشروعة لأي حكومة رشيدة حتى لو حاولت جدولة هذه المطالب وحلها بالتدرج.
ظل المركز علي الدوام( ويمثل نظام الإنقاذ أسوأ تجلياته) يلعب دور الوصي علي الهامش فارضاً عليه دور التابع الذليل ولا يقدم له إلا الفتات من الخدمات بعد إن تفيض عن حاجته ومن باب (رضوهم سكتوهم) وهو ينظر لإنسان الهامش واحتياجاته بعين الازدراء وينظر لثرواته وخيراته بعين الرضا والنهم وعندما يرتفع صوت إنسان الهامش مطالباً بحقوقه البديهية واحتياجاته الفعلية يستنكر المركز(الأب المتسلط) هذه المطالب ويواجه الهامش(الابن العاق) بالجيوش والتجريدات العسكرية وتبدأ آلة المركز الإعلامية في الدوران وقلب الحقائق بتحويل المركز(السلطة الحاكمة) الجاني إلى ضحية وعرض وجهة نظره فقط وتحويل الهامش(سكان الريف-أطراف المدن-المعارضون) الضحية الفعلية إلى جناة وخونة وهكذا تستمر الدائرة الجهنمية من حرب إلى حرب مخلفة ملايين الضحايا وأشباه وطن.
لذلك علي المركز إن يعيد حساباته إذا أراد الحفاظ على هذا الوطن سالماً ومستقراً يخيم عليه الرخاء والتقدم وذلك بتأسيس عقد اجتماعي جديد يعدل الصورة المقلوبة ويضمن حقوق المواطنة المتساوية للجميع ويضمن حق الطعام والشراب والتعليم والصحة للفقير قبل الغني ويسمح بحرية الإعلام والرأي والفكر والضمير ويفصل بين السلطات و يعطي للمواطن الحق في اختيار الحاكم ومراقبته ومحاسبته وتحقيق دولة المواطنة والمواطن وعلي المركز أن يفكر جدياً في إرسال الآلات الزراعية إلى الهامش بدلاً عن إرسال المدرعات والمجنزرات العسكرية وبدلاً عن الطيران الحربي عليه إرسال طائرات المبيدات والأسمدة والأفضل من إرسال القادة العسكريين إرسال خبراء الزراعة والتعليم والصحة حتى تبني جسور الثقة بين المركز والهامش التي طال خرابها وإذا فشل المركز في كل ذلك فعليه مفارقة الهامش بإحسان و أن يتركه لحال سبيله ليقتات من خشاش الأرض وليتحمل مسؤوليته وليكتب لنفسه موعد مع التاريخ.