محجوب شريف: يابا مع السلامة.. ترحل يا حبيبي من باب الحياة لي باب المنون

أم درمان: أحمد دندش
الساعة تجاوزت الرابعة بقليل.. اكتظاظ غير عاديٍّ بكبري أم درمان القديم.. الوجوه كلها تشير إلى شيء واحد، وهو الحزن، ورفيقي الذي يقاسمني المقعد الشفيع أحمد الشيخ، يقول لي وبمنتهى الهدوء: (كلهم ذاهبون إلى عزاء وتشييع محجوب شريف)، وأصمت لدقائق قبل أن أجيبه: (هو يستحق أكثر من ذلك). وقبل أن يتواصل الحديث كانت الحركة تنساب بداخل الكوبري معلنة اقترابنا من منزل شاعر الشعب الراحل محجوب شريف، واقتراب ميقات جديد من الحزن الذي يبدو أنه أدمن مصافحتنا بين الفينة والأخرى.. و.. يالَه من حزن هذه المرة!.

عزاء كل الشعب
أرتالٌ من السيارات تكسدَّتْ بشارع السلام، بالحارة 21 أم درمان، وهو الشارع المؤدي لمنزل الراحل المقيم، وأجساد على طرفي الشارع تناثرت في لوحة حزينة للغاية؛ بينما توفرت كل مقومات الصدمة في الوجوه التي تصطدم بك، وأنت تعبر خيمة العزاء المنصوبة حديثاً، لتؤدي واجب العزاء، وفي هذا الأمر صعوبة أخرى: فعزاء محجوب شريف، لم يقتصر على أهله أو أصدقائه، بل تعداه إلى أن يصبح عزاءً لكل الشعب، وهو ما تلحظه من حميميَّة وتقالد الأجساد المتعارفة مسبقاً، وغير المتعارفة كذلك، وكان ذلك أحد أحلام الراحل: أن يجتمع شملُ كل الناس بمختلف أجناسهم وسحناتهم واهتماماتهم وتوجهاتهم، فكان له ما أراد، ولكن في عزائه الحزين.

سيرة حزن
الطريق إلى مقابر أحمد شرفي بأم درمان، كان قصة أخرى؛ فالموكب المهيب الذي تحرك حاملاً النعش، كان بالفعل من المشاهد التي تستحق التناول، خصوصاً والكل يتناوب في حمل النعش، وكأنه يحاول رد الديْن لذلك الرجل الذي منح هذا الشعب إبداعه وما استبقى شيئاً، بينما كان الهتاف الذي يملأ الدنيا: (شريف شريف يا محجوب)، ذلك الهتاف الذي اختلط بدموع المشيِّعين، وبصرخات الوجع الأليمة التي تسللت من الحناجر بلا حول منها ولا قوة.. بينما كان المشهد يشبه إلى حدٍّ كبير تعبير محجوب شريف في إحدى قصائده: (لمَّا يبقى الجرح عرضة… ولما نمشي الحزن سيرة)، وبالفعل كان ذلك المشهد أشبه بـ(سيرة الحزن).

التقاء الجموع
في مقابر أحمد شرفي، كانت العشرات من جموع المعزِّين والمشيِّعين تنتظر وصول النعش، ولم تمضِ دقائق حتى بدأت أفواج المشيِّعين بالمقابر تتحرك صوب الشارع الرئيسي لتستقبل الجثمان، ليمضي الجميع في كتلة واحدة نحو ساحة الميدان المواجه للمقابر، لأداء صلاة الجنازة على الراحل، وقبل أن يُحمل النعش مجدداً لمرقده الذي أعده شباب السودان، وبلَّلوه بالدمع السخين، قبل أن تتم مواراة الجثمان الثرى، وترتفع وتيرة البكاء الحار، الرجال قبل النساء، والأطفال قبل الكبار، فالحزن كان شاملاً لا يستثني أحداً على الإطلاق.

ثلاث قصائد جديدة
الشاعر محمد طه القدال، أحد أصدقاء الراحل المقرَّبين، أكد خلال مخطوطة قام بإدراجها ضمن صفحته الرسمية بموقع الواتساب؛ أن الشاعر محجوب شريف كتب ثلاثة أعمال جديدة، وهو طريح الفراش بالمستشفى، وكتب القدال التالي: (ثلاثُ قصائدَ كتبها محجوب شريف مؤخراً: اثنتان يوم 31 مارس، إحداهما إهداء لزوجته أميرة الجزولي، والثانية تحية إلى الشعب السوداني، والثالثة كتبها يوم واحد أبريل لحفيده حميد، وقام بإملائها لابنتيْه مريم ومي، من تحت كمامة الأوكسجين، أعطاني القصائد قاسم الجزولي زوج مي). ويضيف القدال خلال المخطوطة: (كان محجوب حريصاً بشكل غير طبيعي على أن تنزل هذه القصائد في الإنترنت، ولقد حرصت أن يعرف أنها نزلت، وكان ذلك حوالي الساعة 11 مساءً البارحة، وكان في قمة سعادته).

إهداءات أخيرة
القصائد الثلاث التي كتبها محجوب شريف، وهو داخل العناية المكثفة، كانت هي (من وجداني… صحة وعافية لكل الشعب السوداني)، وهي قصيدة قام بإهدائها لكل الشعب السوداني؛ وقصيدة أخرى قام بإهدائها لحفيده حميد ويقول مطلعها: (أنا ليك مشتاق مشتاق مشتاق… تكبر سباق… بالأيد والساق… بالحب والخير… من سهل فسيح أو من رقراق… ترزي وسواق… تعمل زقزاق… من ورد جميل… تهدي العشاق… أما الدقداق… سهلاً يا زول… تحتك بنطاق)، والثالثة كانت إهداءً لزوجته، وقال في مطلعها: (صفِّقوا غنوا.. دقوا الترمبيتة… حبتني حبيتا… ربتني ربيتا… ما بطيق النوم بره من بيتا… إلا في منفاي صورة ختيتا… إن شاء الله ما يحصل… ينقطع خيتا).

يابا مع السلامة
تشييع شاعر الشعب محجوب شريف ليلة أمس، أكد بالدليل القاطع على المحبة الكبيرة لهذا الرجل في دواخل كل الناس، فمُشيِّعوه بالأمس لم يقتصروا على طبقة واحدة، بل تنوعوا بمختلف مهنهم واهتماماتهم، فـ(ستات الشاي) و(الموظفات) كُنَّ في حيز واحد، والعمال والمثقفون قالدوا بعضهم بالكثير من الحزن، أما الطلاب فهول الصدمة كان بادياً على ملامحهم، بينما ألسنتهم تردد بعفوية تامة: (يابا مع السلامة.. يا سكة سلامة.. في الحزن المطير.. ياكالنخلة قامة.. قامة واستقامة.. هيبة مع البساطة.. أصدق ما يكون.. راحة إيديك تماماً.. متل الضفتين.. ضلك كم ترامى.. حضناً لليتامى.. خبزاً للذين.. هم لا يملكون.. بي نفس البساطة والهمس الحنون.. ترحل يا حبيبي من باب الحياة لي باب المنون)!.

هيبة مع البساطة
من الملامح العامة للراحل محجوب شريف، تتربع (البساطة) على أوج الأولويات؛ فالرجل كان بسيطاً للغاية في كل شيء، وكان مهموماً بالآخرين، وتكفي مبادرة (رد الجميل) كأبلغ دليل على ذلك، بينما تأتي إنسانيّته في مثام رفيع آخر، فقد كان إنساناً بكل ما تحمل الكلمة من معانٍ، إلى جانب شغفه الكبير بالأطفال ومحبته لهم، فنالوا ضمن قصائده الكثير من الاهتمام. أما الميزة التي منحت الراحل لقب (شاعر الشعب)، فهي أن همَّهُ الأكبر كان الشعب، فقد كتب الراحل لكل فئاته وقطاعاته، لم يترك ملمحاً سوداني الهوى، إلا ووضع عليه بصمة إبداعه، ولم يعرف مشكلة ما إلا وعالجها من خلال سياق شعري إبداعي مميز، إلى جانب الكثير من الصفات الأخرى، والتي ربما لن تتوفر إلا في رجل اسمه محجوب شريف.

السوداني

تعليق واحد

  1. الله يرحمك ياعزيز يامحجوب شريف كنت اخ وصديق للكل وجمل شيل ياقيفه ياربوه يانخله ياقامه حليلك ياود مريم ويصبر الكل في فقدك ياغالي

  2. له الرحمه والمغفره ونسال الله ان يجعل قبره روضه من رياض الجنه
    لقد قابلته منذ زمن طويل وحتى الان فاكر هذا اللقاء كم كان جميلا وطيبا خلوقا يتمتع بانسانيه ورقى لا يوصف
    اللهم بدل سيئاته الى حسنات
    فالندعو له بالمغفره والرحمه وان يتقبل الله جميع موتانا ومت المسلمين والمسلمات قبولا حسنا ويغفر لهم ويدخلهم جنات النعيم
    اللهم امين يارب العالمين

  3. الا رحمك الله يا شاعر الشعب والمناضل الشرس …بالامس وفي حفل تابين الشهيد بالرياض

    قاعة نورماس ..كنت الي جانب الدكتور الصيدلي بكري …وهو من الاصدقاء المقربين للراحل

    وحكي لي الدكتور في انسانية واجتماعيات الراحل ..وانه في احدي اجازاته السنويه ذهب الي

    زيارته بالحارة 21 ام درمان ..وقال بانه علم من مصدر موثوق بان منطقة الجموعيه ..ما وراء

    الفتيحاب علي ضفة النيل ..عرب بسطاء يعيشون حياة بسيطه واناس كادحين …حكي بان اطفال تلك

    المنطقه يعانون من العشي الليلي ..ولا يكادون يخرجون من منازلهم ليلا …يحكي الدكتور ..ذهبنا

    انا والراحل الي تلك المنطقه ولا نعرف بها احد ..وكان الوقت عصرا ..وقابلنا بعض وجهاء المنطقه

    واكدوا لهم الوضع ..ورجعنا الي الخرطوم بعد ان شاهدنا الحقيقه ..واجرينا بعض الاتصال مع بعض

    الاصدقاء بالجامعات والاساتذة في مجالات تخصصاتهم واكد جميعهم بان المرض سببه عدم تناول الخضروات

    بكميات كبيره ..يحكي الدكتور بان الفقيد قال له الحل عندي …قلت له انت لا تملك شئ ..ماذا

    ستفعل …قال اترك الموضوع لي …ذهب الرجل اول الصباح الس سوق الخضار بالخرطوم وجمعهم جميعا

    وحكي لهم ..اتفق شيخ السوق بان ياتي يوميا اول الصباح ويستلم لوري كامل من جميع انواع الخضار

    رجله ..خضرة ..جرجير ..ملوخيه بطاطس ..فواكه ..يحكي لي دكتور بكري بان اللوري حتي تاريخ

    اليوم يذهب بالخضار اليهم مجانا …اللهم ارحمه واغفر له واجعله من اهل اليمين وثبته عند

    السؤال …

  4. أسكنه الله فسيح جناته..ما ظلت أبياتـه (مساكن شعبية)..وسعت كل أبناء وطنه..وتضحياته التى لم تسعها كل سجون السودان..يا رب أغفر وأرحم معلم الأجيال صاحب الخلق العظيم إقتداء برسوله الكريم..و(رد الجميل) زخرا ليوم لا تجميل فيه.. بتوخى القبول الحسن.وفى رحلته للقاء ربه.. يا رب هذا قضاؤك لاأعتراض عليه .. رحل للقائك عبدك المحجوب الشريف ..عاشق الحرية فحجبت عنا بسمته المستدامة..بسمة أمر سبحانه وتعالى رسوله بعرضها للأعمى!… شاعرنا نقـابــة مشاعرنـا..أطلالتة خالدة …ما (أصبح الصبح).. ومخيلتنا مفعمة بوجهه الباسم. الهاش .الباش.. وروح.الفارس .الصنديد..المتدثر بكفن الكرامة والنضال والإنسانية..ووداعة..إلى لقاء.. بجنات الخلد..بكل مستجير (بمساكنه الشعبية)…. نحن رفاق الشهداء..الصابرون نحن..*(إنا لله ,إنا اليه راجعون)….

  5. يا احمد دندش الراحل ابونا محجوب شريف كان شاعرا مناضل و جسور و مدافع عن حقوق البسطاء و المعدمين، و كان سياسيا ثوريا، و ينتمي الى حزب سياسي توافق مع افكاره، فهذه هي جوانب مهمه من حياته جعلت سيرته على كل لسان، و لا ادري كيف تغفل اشارات مهمه كهذه، فالراحل لم يكن مثلا كالحلنقي مهموم بشعره العاطفي و الجمالي فقط، بل كان رسولا للانسانيه والنضال الدؤوب لتحقيق ما كان ينشده في هذا الوطن، لذا كان من الاوجب ان تعطي الراحل حقه من هذه الادوار العظيمه التي كرس حياته لها، وادخلته السجون والمعتقلات. ف ياااااااا صحفيي الصفحات الفنيه، اما ان الاوان بالارتقاء بمفاهيمكم و كتابتكم ؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..