النسيان في الأغنية السودانية.. كبرياء وانكسار وتربص وبكاء

تقرير: آمنة عمر
يقولون إن ليالي العشق الطاعنة في النسيان هي التي رفدت الأغنية السودانية بلوعة استعصت على ذاكرة العشق المكلومة من فقد حبيب، لعلها رشوة جمالية قدمها شعراء الأغنية في محاولة لإزاحة حبيب تمدد على تجاويف القلب وتملك منه الشغاف، ولربما كانت دعوة مشرعة لآخر ترك باب العشق موارباً، لكن آخرين استوقدوا للنسيان محرقة جعلوا قلوبهم حطباً لها، قلوبهم المضطجعة على نيران حبيب أشعل مراقدهم بفراق ضارٍ فجاء قصيدهم مضرجاً بالهجران. على هذه الطرائق اكتنزت الأغنية بكلمات منسوجة إثر حبيب غادر، منهم من مد المفردة يستجدي قلبا صابئا ويرده الى دين المحبوب وقلوبهم لا تقوى على السلوان “عشت بعدك كلي ذكرى/ أمسي بطيفك واقيّل/ الليلة قلبك لو نساني/ غير عيونك وين أقبّل”.
بيد الحبيب لا بيد عمرو
أحاديث العذول الضالعة في شتات المحبين لا تلبث تحرض ذاكرة النسيان في الأغنية، تود لو يستقوي صاحب القلب الرهيف و(ينفض) عنه ذكرى ماضٍ ما يزال أخضر في وجدانه: “قالوا لي أنساه وامسح عن خيالك ذكرياته/ وانسى كل الماضي/ وأبعد عن طريقه وعن حياته”. وربّ عاشق ينقب قلبه المجروح عن ما يعلق عليه قسوة قلب ما، اعتاد صاحبه أن يأتي (فعايل) الهجران، يسوق المفردة شعراً لعل كلماته تهطل على قلب لدن فيعود صاحبه إلى رشد الغرام: “مين قساك مين قسى قلبك؟/ إيه نساك.. يا ناسي حبك؟”.
بيد الحبيب لا بغيره سكب النسيان على الأغنية السودانية وقلب العشوق بهاطل من الآلام، فخنجر الفراق هذه المرة يستله صاحب (المقام) الرفيع بنفسه ويجهز على سنوات الحب غير آبهٍ بعد أن بلغ به دلال الحب أن يكتب وصفة النسيان ويرمي بها بصلف في مواجهة الحبيب: “ظلموني الحبايب وقالوا لي أنسى/ من بعد المحبة العشتها همسة همسة/ قالوا لى انسى وماعرفوا العليا”. وآخر يحاول دحض حجة الحبيب ودعوته له الى النسيان “انساك؟.. انت انت بتتنسي؟/ ما إنت روحنا وحبنا”. وأخال الحبيبة ابتسمت ملء الحب حين جادلها العاشق، وهو يستبطن مقولة (من فمك ادينك) شعارا: “جاوبي إنت نيابة عني/ حد يقدر ينسى نفسو؟”. وآخر بلغ به الشوق منتهاه فلم يقدر على شيء غير التضرع والتوسل: “يا ناسينا يا مجافينا حن علينا”.
قناعة مفخخة بالتراجع
ليالي العشق الخالدات لا تنفك أبداً تحاصر ذاكرة المحبين، فكما صدح ابن زيدون (سرّان في خاطر الظلماء يكتمنا) ها هو الشاعر يستدعي أيام سمره المتوهجة بحضورها الدائم: “ما بنسى ليلة كنا تايهين في سمر/ بين النجوم.. أنا وإنت والنيل والقمر”. وعاشق آخر يستبق الفراق ويتلوى قلبه لذكره وقد (غلبه الثبات)، يخاف على أيام الهوى المترعات أن تداهمها سكتة الهجران، ويحاول أن يجعل عاقبة النسيان مهولة فينثني الحبيب عن تهديده: “آه.. خوفي منك خوفي تنساني وتنساها الليالي/ يا حبيبي أنا خايف ياما بعدك أنسى حالي”. ولعل أبسط وأطرف ما جاء في النسيان يحمله صوت أمير العود حسن عطية: “يا زول أنا قلبي حباك..أنا مالي بنساك”. ونسيان آخر يغلفه (القنع) المفخخ (بالتراجع) بأوتار عثمان الشفيع: “خلاص ما تنسى/ وأنا أنسى” و……”ومهما أجرب النسيان/ ألاقي الشوق يمتد”.
كبرياء (الناسيك يا قلبي أنساه)
ودوماً يحمل السفر اختبارات البقاء في وجدان من تحب لذا شاع المثل (البعيد عن العين بعيد عن القلب)، جاءت أغنيات تبحث عن وصل محبوب حزم حقائب سفره ورحل: “يا مسافر وناسي هواك/ أفراحنا وقلوبنا معاك”. وهناك من أشهر الذكرى في وجه النسيان: “زمان ما كنت ما بتنسى/ وما بتخلف مواعيدك”. مدرسة أخرى حشدت الأغنية السودانية بكبرياء الذات، فضلت الهطول السري للحزن على انكسار العاشقين، شعراء جابهوا قلوبهم بصرامة وغلفوا عواطفهم بكلمات حشوها برصاص النسيان، فخرج قصيدهم ضاجاً بالحزن ومفرادتهم موصدة لا مكان فيها لعودة حبيب، كفروا بلعنة الأطلال في الشعر العربي وعلى كبرياء العاشقين وصبرهم حيكت كلمات: “جايي تفتش الماضي.. خلاص الماضي ولىّ زمان / وجفت مقلتي الباكية.. ونامت من سنين أحزان”. وآخر يقول: “الناسيك يا قلبي أنساه / والساليك يا قلبي سيبو”.
وهيهات لو يعود اليك فؤاد احترفت إهماله ردحاً: “ما نسيناك.. جايي تعمل إيه معانا بعد ما بدلتنا؟/ ما سقيناك.. أحلى مافي عمرنا”. وبعد أن كادت جراح الريدة تبلغ شفاءها ها هو الجرح (يتاور) مرة ثانية بيد حبيب يمتهن المراوغة، فلا يجد الشاعر غير كلمات باكية: “مين فكّرك يا حبيب.. مين الهداكا اليّا؟/ بعد جرحي قرب يطيب.. جددتو تاني عليّا”.
لوردة النسيان ملامح صخرة
أغنيات البنات الرافلة منذ (السباتة) القديمة لم ينج من سخطها حبيب غادر فقلن: “خلاص انساني.. وشوف ليك ريدة تاني”، ورددّن: “النساني ونسيتو/ كمان أنا ما شوية” و…. “حبيب قسانا.. النسى ريدنا ونسانا”، وأغنية قديمة غناها محمد وردي من كلمات الحلنقي: “يا ناسين الريد.. يا فايتين حبايبكم”. وعلى حذر مشوب بذاكرة موقوته يُخشى عليها من التداعي بذكرى الحبيب، وقف الشاعر المرهف سعد الدين إبراهيم على أطلال ماضيه وأنشد من كلماته: “ما بقدر على النسيان وما بقدر اخليكا/ يا قادر على الهجران وما بقدر أجاريكا”. وأردف من ذاكرة لم تخذله: “أقول انساكي يا ويلي/ بكل مشاعري أطراكِ”. قال على عجل من يخشى على نفسه: تناولت النسيان بأنه عصي لا أقدر عليه (متجرس منو)، استقطبت النسيان في قصائد كثيرة وأسميته فضيلة لصعوبته. في قصيدة غناها فتحي حسين كتبت: “علمني فضيلة النسيان/ يا زمن وفكر ريّحني”. وعاد ينشد في جمالية: “اتحررت خلاص من أسرك/ ومن صحراك الأضحت صحرا/ واتخلصت خلاص من سحرك / وبان للوردة ملامح الصخرة”. سألته: إنت لما خلاص اتحررت كاتب ليها مالك؟! فاكتفى بابتسامة من يقول: (هيهات).
صحفية سودانية مقيمة في بريطانيا
اليوم التالي

تعليق واحد

  1. معقولة كل المقال مافيهومقطع لزيدان….شكلك من جيل التسعينات الانقاذى وطه سليمان وال الصادق اخوان

  2. و إنتي يا أخيتي النساك ده منو ؟ و ريني ليو الماعندو قلب و لا زوق ده و لا نظر عشان أجيب ليك حقك منو تالت و متلت !

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..