عم التجاني… قلب عامر بالإنسانية ونفس أبية على الانكسار

عم التجاني… قلب عامر بالإنسانية ونفس أبية على الانكسار
فيصل محمد صالح
رحل التجاني الطيب وفي حلقه غصة، أظن أن كلّ من هم من عمره وجيله يحملها معه للقبر، فبعد عقود قضوها في خدمة الوطن والمبادئ التي ظلوا يحملونها،ها هم يشاهدون وطنهم مقسما وممزقا، وهو شئ أكبر من تصورهم واحتمالهم.
لم أزامل عم التجاني في حزب أو تنظيم أو صحيفة، لكني شاهدته واقتربت منه في العمل العام لعقدين من الزمان، تغيرت الدنيا والأشياء حوله، ولم يتغير هو، ظل الرجل نفس الرجل، كتلة من الالتزام والصبر والقدرة على العمل والنضال في أقسى الظروف.
شاهدناه في جريدة الميدان بعد الانتفاضة، لكن لم نكن نملك القدرة على الاقتراب منه، كنا نملك عنه صورة واحدة، إنه “صعب” وصارم، ولم تكن لدينا القدرة على التعامل مع صرامته تلك.
ثم دخلت سجن كوبر في أوائل التسعينات، وساقتني الظروف لأكون معه في قسم الشرقيات. وحرصت أيضا أن أكون بعيدا عنه، لكن أكثر من حدث جعلني اقترب منه واكتشف قدر الإنسانية والطيبة التي يحملها في قلبه، ويخفيها بذلك المظهر الصارم.
جاء مندوب من مكتب المدير ذات صباح ليبلغني بوصول طلب من جهاز الأمن باستدعائي للتحقيق، كان الناس يتهامسون حولي، ولم أكن أعرف السبب، حتى استدعاني عم التجاني لغرفته. كان صاحب خبرة طويلة في أمور المعتقلات والتعامل مع الظروف المختلفة التي يمر بها الناس في السجون. وكانت أسباب الاستدعاء للمعتقلين من السجن لمكاتب الأمن مرة أخرى كثيرة، لكن كان السبب الأغلب هو إعادة التحقيق في أمر ما، وغالبا ما يتعرض المعتقلون، في تلك الفترة، لصنوف من أنواع التعذيب. كان الرجل يراعي صغر سني ويحاول أن يهيئني نفسيا ومعنويا لما قد ألاقيه. قدم لي حزمة من النصائح والتطمينات، كان حريصا خلالها على ضبط نبرات صوته حتى لا تكشف عن أي قلق او اضطراب، ثم ربت على كتفي وأنا أتهيأ للخروج، بحنية أحسستها في أعماقي، واستدار ومضى بعيدا.
عدت بعد ساعات للسجن ، ولم أتعرض لحسن الحظ لما كان الناس يتخوفون منه، وكان ذلك من الاستثناءات النادرة في تلك الفترة، لكن ظلت نصائح عم التجاني في ذهني دائما.
وجدت السجن فرصة لأرتاح من الحلاقة وأطلق لحيتي، سألني مرة: إنت أصلا بتخلي دقنك؟ أجبته: لا، فسارع بالرد: يعني بتفتكر السجن مكان البهدلة؟ أمشي أحلق دقنك. ثم روى لي انه حتى أيام الاختفاء كان يستيقظ مبكرا، يستحم ويحلق ويغير ملابسه، ويدخل لغرفة المكتب. وبعد الظهر يعود للغرفة الأخرى ليغير ملابسه ويمارس برنامجا منزليا عاديا.
في السجن أيضا داعبته قائلا: يا أستاذ لقد وجدت دليلا ماديا على تورطكم بالتخطيط لانقلاب مايو، أخذ الموضوع بجدية كعادته، فأخذته لحائط قريب حفر عليه اسمه ، كما يفعل المعتقلون، وبجواره التاريخ 25 مايو 1959، فضحك وهو يقول: يعني معقول نكون مخططين قبل عشر سنوات؟.
أخبرنا من كان وثيق الصلة به بيوم مولده، فقررنا أن نعد له مفاجأة نبتهج بها في ليل السجن، تكونت لجنة كنت في عضويتها مع محمد محمد خير وطارق فريجون وآخرين.أعددنا كل لوازم الاحتفال، وأرسلنا المساجين لشراء اللبن والحلويات والبسكويت من خارج السجن، وانهمك البعض في إعداد كارت تهنئة ضخم وقع عليه كل المعتقلين.
قبل الحفل بساعات استدعانا، وقفنا أمامه كالتلاميذ، كان يتحدث بصرامة شديدة، قال إنه عرف بما نقوم به، شكرنا على ذلك لكنه قال إنه يرفضه.أضاف: ليست هناك تقاليد في السجون للاحتفال بأعياد الميلاد، ولا يريد أن يسجل سابقة كهذه. ثم أضاف بنفس الصرامة: أنا قبلت كارت التهنئة، لكن مافي احتفال ولاشاي ولا بسكويت، سلموا الحاجات للكميونة. ولمن لا يعرف تقاليد المعتقلات، فالكميونة هي المخزن الجماعي الذي يسلم إليه المعتقلون كل مايصلهم من هدايا أو مواد تموينية أو حتى سجائر، ليتم توزيعه على الجميع بالتساوي.
ثم التقينا في القاهرة في السنوات التسعينات، وفي أسمرا، أجريت معه عددا من الحوارات لصحيفة الخرطوم التي كانت تصدر من القاهرة، وكنت أتصل به في أوقات مختلفة نهارا وليلا، وسافرت معه مرات كثيرة بين القاهرة واسمرا. عبر لي عن رضائه عن بعض الحوارات بكلمات مقتضبة، وبنصف ابتسامة رضا أحيانا، لكن كانت هذه طريقته.
غضب مني غضبا شديدا عندما أجريت حواراً مطولا مع المرحوم الخاتم عدلان والباقر العفيف أول ما أعلنا قيام حركتهما الجديدة التي أعقبت خروج الخاتم من الحزب الشيوعي. كان الحوار مطولاً استغرق أربع حلقات، طوفت مع الخاتم في قضايا فكرية وسياسية عديدة، كان من بينها أسباب فراقه للحزب الشيوعي والمنهج الماركسي عموما، وشكل الحوار قاعدة مهمة لمعرفة أفكار وبرامج التنظيم الجديد. أظن أن الأستاذ التجاني اعتبره عملا دعائياً للتنظيم الجديد وعدائياً للحزب الشيوعي.
بعد فترة من الجفاء التقينا في إحدى المناسبات في دار الحزب الاتحادي في القاهرة، اقترب مني وقال لي: “إنت خاتي راسك مع الجماعة..موش كدة؟” ثم ابتسم، عرفت أنها دعوة للمصالحة، ولم أرد أن أفسدها بأي رد، فاكتفيت بالابتسام. بعدها بفترة قليلة اتصل بي يسأل: ألم تطلب مني حوارا قبل فترة، أنا جاهز.
اتصلت به مرة منتصف ليلة القاهرة أسأل عن معلومة، فأجابني بحدة: إنتوا يا أولاد مابتنوموا، أنا جاهز لأي اتصال من خمسة صباحا لحدي الساعة 11ليلا، بعد كدة ما في زول يتصل بي.
حين عاد بعد اتفاق القاهرة للخرطوم وبدأ في الإعداد لصدور صحيفة “الميدان” اتصلت بي إحدى الزميلات تسأل إذا كنت على استعداد لتثنية طلب الأستاذ التجاني الطيب للحصول على القيد الصحفي، مضيفة إنه طلب أن أكون المزكي له، قلت لها إنه شرف لي. كان المثني الأول هو الأستاذ محجوب محمد صالح، وكنت فخوراً أن أقرن اسمي به. لكني كنت مندهشا من طلب المجلس لهذه الخطوة، فرجل في قامة التجاني الطيب وتاريخه، كان يكفي أن يوقع بعض مسؤولي المجلس على طلبه بتأكيد معرفته وتاريخه في الصحافة الحزبية وكفى.
واتصلت بي الزميلة مديحة بعد ذلك لتتأكد من أنني قمت بالمطلوب، فقلت لها مازحا “نعم لقد أكدت معرفتي به وقلت أنه ولد كويس ويجي منه”، وكان هذا التعليق أيضاً سبباً لمداعبة منه عندما التقينا بعدها.
التجاني الطيب بابكر نوع نادر من الرجال، أفنى عمرا طويلا في النضال من أجل ما يؤمن به، كان يتصرف بزهد عجيب، وكان سعيدا وراضيا عن حياته. في السجن سأله رجل أمن كان يجمع معلومات ليضمنها ملفات المعتقلين، كانت مجرد معلومات أولية عن الاسم والمهنة والوظيفة والانتماء السياسي، منذ متى وأنت شيوعي، فأجابه منذ عام 1948، فرد رجل الأمن مندهشا، لا حول الله، وأدوك شنو؟ فأجابه، هم بيدوا إيه يا ابني؟ أنا رئيس تحرير الميدان وعضو السكرتارية المركزية، تاني في شنو؟.
رحم الله عم التجاني وأحسن إليه، فقد أحب هذا الوطن وقدم له عمره، والتزم طوال حياته بما يؤمن به، فلم يتلون ولم يحد عنه، ولم يعرف الانكسار.
الاخبار