جون قرنق دمبيور.. رؤية لم تكتمل.. مــن الوحـــدة إلى الانفصـــال

رأي

جون قرنق دمبيور.. رؤية لم تكتمل

مــن الوحـــدة إلى الانفصـــال

حسن أحمد الحسن

طرحت حكومة جنوب السودان مسابقة للشعراء والفنانين الجنوبيين لاختيار النشيد الوطني الجديد لدولة الجنوب المرتقبة، مع اقتراب ساعة انفضاض السامر. والشعراء والأدباء الشماليون المنتمون للحركة الشعبية وحدهم سيكون قاسيا عليهم المشاركة في مثل هذه المسابقة التي تعبر عن هزيمة أحلامهم التي أشعلها الراحل جون قرنق بأطروحة «السودان الجديد»، فبموت قرنق ماتت أحلام هؤلاء الأصدقاء وأصبح حالهم أشبه بحال أتباع الراحل الأستاذ محمود محمد طه بعد إعدامه، مع اختلاف الظروف والملابسات حيث التشابه فقط يبدو في حالة الضياع والتقهقر. فتحول القتال من أجل الوحدة على تحفز من أجل الانفصال، حيث طوى قادة الحركة شعاراتهم وراياتهم القديمة تحت ستار كثيف من المبررات، إلى حيث تهزم الحركة شعاراتها القديمة وتحبسها بين أسوار دولة حبيسة. وتعود بنا الذاكرة إلى تلك المروج الخضراء في ارض الحبشة قبل ان تزداد أوزان القادة الثوريين وتتضاءل أمامهم الرؤية.
فلاش باك:
في صيف مارس 1990م استضافت العاصمة الإثيوبية أديس أبابا أول لقاء لمعظم أعضاء تجمع المعارضة الذين قدموا إلى العاصمة الإثيوبية مع الدكتور جون قرنق بعد أشهر من انقلاب الإنقاذ في منزل السيد دينق ألور. وتم اللقاء خلال جلسة عشاء جمعت عددا من المعارضين بعد انتظام عمل المعارضة السياسية ضد النظام الانقلابي الجديد، حيث لعب حزب الأمة بالتنسيق مع الحركة الشعبية في تلك الفترة دورا أساسيا في ترتيب اجتماع مجموعة من القيادات السياسية التي قدمت من القاهرة لتنظيم وتنسيق عمل المعارضة مع الحركة الشعبية.
وهي النشاطات التي بدأت مباشرة بعد تشكيل التجمع الوطني الديمقراطي في الخارج، وكان اللقاء في إطار استكمال الإجراءات المتعلقة بانضمام الحركة الشعبية للتجمع. وسبقت تنظيم ذلك اللقاء لقاءات مكوكية بين لندن وطرابلس وأديس أبابا بين ممثلي حزب الأمة والحركة، وبعد التوصل إلى خطوط عامة جاء التحضير للاجتماع الذي هيأ لعقد أول لقاء للمعارضة في أديس أبابا بمشاركة الحركة عام 1990م لمناقشة الصيغة المطروحة لتعديل ميثاق التجمع وتضمين ملاحظات الحركة للميثاق.
في أحد اللقاءات التي جمعتنا بالدكتور قرنق في أديس ابابا تلك الأيام، تحدث زعيم الحركة الشعبية بثقة وتفاؤل كبيرين حول رؤيته للتغيير المطلوب في السودان، وقد كان حديثه لا يخلو من سخرية وطرفة في بعض الأحيان. تحدث عن التجربة السويسرية في الحكم باعتبارها مثالا يمكن أن يقوم في السودان، وهي صيغة تحقق مشاركة جميع الأقاليم في الحكم على مستوي المركز. كما تناول رؤيته لمعارضة النظام على الصعيدين العسكري والسياسي، وضرورة تنظيم مساهمة القوى السياسية في ذلك المشوار، والتوحد من أجل سودان قوي موحد.
والحقيقة أن قرنق يتمتع بشخصية كاريزمية وثقافة عالية، وتعمق في دراسة التاريخ لاسيما التاريخ الاجتماعي وتاريخ الحضارة النيلية، ومع تطور الأحداث تطورت صورة جون قرنق من كونه الزعيم الثوري الماركسي في الثمانينات، إلى زعيم وطني في التسعينيات يسعى إلى التحالفات مع القوى السياسية في الشمال والجنوب، فيبدو تارة اقرب إلى المفكر والمنظر، وتارة أخرى إلى السياسي الليبرالي المناور البارع، وثالثة إلى سياسي يسعى إلى تطويع خصومه من الحلفاء بإثارة التناقضات، مستفيدا من بريقه الإقليمي والدولي الذي بدأ في الظهور تلك الأيام، لاسيما بعد تحالفه مع الدوائر المسيحية في الغرب.
يقول بيتر موسزينسكي، وهو متخصص في تغطية أخبار الحرب الأهلية السودانية لعدة سنوات، إن من الصعب إقامة علاقة شخصية مع هذا الرجل: يقصد جون قرنق، ويقول «لديه مظهر بارد، يعطيك الانطباع أنه فوق الآخرين».
ويصف جيل لاسك نائب رئيس تحرير أفريكا كونفيدينشيال والمتخصص في الشؤون السودانية، قرنق بأنه رجل فخور، ويقول إنه «رجل ذو كاريزما وقدراته القيادية واضحة».. «هو رجل عسكري محترف.. رجل يؤمن بأنه ماهر.»
ويرى الدكتور جون قرنق في نفسه مخلصا ليس للجنوب فحسب، وانما لكل أولئك الذين يعتقد أنهم ضحايا لهيمنة الثقافة العربية الإسلامية التي لم تحترم ثقافات الآخرين، وقد لعبت ظروف وعوامل كثيرة دورا أساسيا في تشكيل هذه الشخصية التي لعبت دورا دراميا في بداياتها، وانتهي دورها أيضا بطريقة درامية في حادث تحطم طائرة بطريقة مأساوية. وكما سبق فالقرب من شخصية العقيد قرنق يعطيك الفرصة لاكتشاف أنه قارئ جيد لتاريخ السودان، راجح العقل، تسري فيه روح الدعابة والإدراك لأبعاد الشخصية السودانية للمواطن الشمالي، وهي معرفة تراكمت مع سني تواصله مع جميع أطياف وقطاعات المجتمع السوداني التي كانت ممثلة في التجمع الوطني سياسيا واجتماعيا. ويزخر خطابه بالنوادر والأمثال الشعبية السودانية.
وفي تلك الفترة التي اتسمت بالشفافية الوطنية، كانت النظرة للسودان واعدة بالمستقبل العادل لجميع أبنائه دون تمييز. كما شكلت تلك الفترة من عمل المعارضة التي امتدت لعقد من السنوات، فرصة حقيقية للتعارف السياسي بين جميع القوى السياسية في الشمال والجنوب. ومن خلال التعارف صُحح العديد من المفاهيم الخاطئة المتبادلة.
ورغم قصر المدة التي التأم فيها شمل المعارضة الجنوبية والشمالية، إلا ان تحولات مهمة حدثت على شخصية زعيم الحركة وعلى فكره، حيث أصبح ينادي بأطروحة السودان الجديد او الوحدة على أسس جديدة دون أن يكون مطلب الانفصال حاضرا، كما أنه قام بدور أساسي في كبح جماح الانفصاليين في الحركة الذين كان من اهم أعلامهم الدكتور رياك مشار والدكتور لام أكول، وهو ما دعاهما في نهاية المطاف للاصطدام والمواجهة العسكرية مع د. قرنق وتياره الرئيسي في الحركة.
ففي صيف عام 1991م وبينما كانت العمليات العسكرية تحتدم في الجنوب مخلفة أعدادا كبيرة من القتلى والجرحى في صفوف الجانبين، قامت إحدى المجموعات التي انشقت عن الحركة بإعلان ما عرف «ببيان الناصر» بقيادة د. رياك مشار ود. لام أكول، وذلك في أغسطس عام 1991م، حيث رفعت جماعة الناصر شعار الانفصال، فيما أبدت الحكومة آنذاك موافقتها واستعدادها لبحث تفاصيل مطلب الانفصاليين في مجموعة الناصر. وبالطبع كانت الحكومة تهدف من وراء ذلك إلى إحداث مزيد من الانشقاقات داخل الحركة وإضعافها، دون أن تدرك أو أن يدرك مهندس مفاوضاتها آنذاك علي الحاج أن الموافقة المتعجلة على مطلب الانفصال ربما تغري مجموعات أخرى لإعلاء صوتها بالمطالبة بتقرير المصير، وقد كان الأمر حتى تلك المرحلة لا يعدو المطالبة بفيدرالية ذات صلاحيات موسعة.
ونجحت الحكومة باستجابتها السريعة لحوار الانفصاليين في وضع خصمها الرئيسي «الحركة» في موقع يبدو الأقل دفاعا عن مطالب الجنوبيين، حيث تطرح الحركة شعار الوحدة والتحرير للسودان كله وليس الجنوب فقط، وحل مشكلة الجنوب في إطار قضية السودان المركزية وليس بوصفه جزءا منعزلا.
وأسهمت سياسات الحكومة في تلك الفترة وإطلاق يد الدكتور علي الحاج في التعامل مع الملف الجنوبي، في تعزيز مطلب الانفصال رغم أن هدف الحكومة كان إحداث انقسامات داخل جسم الحركة واختراق الحركة بعمل داخلي لإقناع قياداتها بالتفاوض معها، والسعي لمساومة مجموعة الناصر من ناحية أخرى، وكسب الوقت للإعداد لمواجهات فاصلة مع الحركة في ظروف بدت فيها الحرب تأخذ طابعا دينيا واقصائيا، لكن الحكومة لم تكن تحسب أن التطورات ربما تقود إلى نتائج غير التي تريدها، بحيث يصبح تقرير المصير أمرا واقعا لا يمكن تجاهله.
وبالفعل فقد أحدث إعلان الناصر ارتباكا كبيرا في صفوف الحركة، مما دعا الدكتور جون قرنق الى الدعوة لعقد اجتماع مهم لقادة الحركة في مدينة توريت لبحث تداعيات إعلان الناصر على مسيرة الحركة في ظل وجود تأييد كبير للرأي العام الجنوبي لمطلب الانفصال. وتداول الاجتماع حول كافة المعطيات على الساحة الجنوبية، وحول مستقبل علاقات الحركة مع حلفائها الشماليين إن هي أقدمت على تبني خيار الانفصال لسحب البساط من تحت أرجل خصومها في مجموعة الناصر، وحاولت الخروج بعد جدل دام لعدة أيام بين مناصري الانفصال ومناصري الوحدة، بحل وسط يخاطب مشاعر الجنوبيين، ويعمل في نفس الوقت على عدم إحراج شعارات وتحالفات الحركة وخطابها المعلن مع حلفائها الشماليين، وذلك من خلال معالجة مطلب تقرير المصير بما لا يخل بالتزامات الحركة بوصفها فصيلا داخل التجمع الوطني، وأسفرت المداولات عن إصدار ما عُرف «بإعلان توريت» الذي تمثل في تبني الحركة لثلاثة خيارات محددة هي:
أ ـ الوحدة المشروطة.
ب ـ الكونفيدرالية.
ج حق تقرير المصير.
وعلى صعيد مجموعة الناصر وسيناريو مهندس العلاقات الجنوبية الدكتور علي الحاج، قام الأخير بترتيب عقد اجتماع سري في مدينة فرانكفورت الألمانية مع وفد المنشقين عن الحركة بقيادة الدكتور لام أكول، لمناقشة موضوع تقرير المصير والبحث في تفاصيله. وبالطبع فقد استخدم د. علي الحاج كل مهاراته في إتمام التوصل إلى اتفاق مع مجموعة الناصر، وإبرام اتفاق يتضمن تزويد الحكومة للمجموعة بأسلحة وذخائر على أساس قبول الحكومة بحق تقرير المصير وقبول مبدأ الانفصال نهائيا، فضلا عن التعاون في تحقيق ذلك، لاسيما التنسيق الميداني بين قوات الحكومة وقوات مجموعة الناصر للإطباق على قوات قرنق وتصفيتها.
وهذا البند من الاتفاق الذي يتضمن التعاون العسكري للإجهاز على قوات الحركة، اعتبره عضوان في الوفد محاولة لإضعاف الجنوبيين بتزكية القتال بينهم، ودعاهما للاستقالة من المجموعة بصورة مسببة، وهما القاضيان تيلار دينق ودينق تيل، وقد أصدر القاضيان بيانا في فرانكفورت أشارا فيه الى أن د. لام أكول قد حرص على إخفاء كل تحركاته في ألمانيا عن أعضاء الوفد، بما في ذلك اجتماعاته السرية مع الدكتور علي الحاج. وأضاف القاضيان إن تعامل لام أكول بهذه الطريقة مع قضية الجنوبيين دفعهما للاستقالة من مجموعة الناصر، وهما في غاية الأسف.. وكان هذا البيان هو الذي نسف سرية المباحثات في فرانكفورت، وفضح الاتفاق قبل أن يجف مداد التوقيع عليه.
أما عن تفاصيل فحوى الاتفاق، فقد نصَّ على التزام مجموعة الناصر بالتعاون التام مع الحكومة مقابل قبول الحكومة بمبدأ الانفصال التام لجنوب السودان عن شماله وقيام دولة مستقلة في الجنوب، وأن يظل ذلك مبنيا على ترتيبات الفترة الانتقالية المتفق عليها، وأن يُكتفى بالتوقيع على الاتفاق في تلك المرحلة تفاديا لأي حرج يمكن أن يسببه بالنسبة للحكومة داخليا وإقليميا أو على صعيد المعارضة في الخارج. وباستقالة القاضيين وكشف تفاصيل الاتفاق، ما لبث أن دبت الانقسامات داخل مجموعة الناصر نفسها، بعد أن تحولت المجموعة الى آلية في يد الحكومة، حيث تم التنسيق بين الحكومة والمجموعة في هجوم قاداه على مواقع حركة قرنق، فدارت معارك ضارية راح فيها عدد كبير من الضحايا على الجانبين، إلا أن الفصيل الرئيس قد تمكن من إعادة السيطرة على عدد من المواقع التي خسرها وأعاد تأمينها.
وبفشل الهجوم في تحقيق أهدافه، تجاهلت الحكومة اتفاقها مع مجموعة الناصر الذي وقعته في فرانكفورت، مما حمل مجموعة الناصر كرد فعل على ذلك التجاهل، للقيام باقتحام مدينة ملكال التي توجد فيها القوات الحكومية، وقال لام أكول الذي عبر عن ذلك في إطار ابتزاز للحكومة، إن المجموعة المنشقة لا تزال عضوا في التجمع الوطني المعارض، وكنا قد أشرنا سابقا إلى أن الدكتور لام أكول هو الشخص الذي مثل الحركة في التوقيع على انضمامها للتجمع في القاهرة عام 1990م، لممارسة مزيد من الضغط على الحكومة التي تنكرت لالتزامها لهم.
والآن وبعد أكثر من عقدين أصبح الحديث عن الانفصال حديثا عاديا وطبيعيا، رغم الكارثة التي سيخلفها حدث الانفصال المرتقب، برغم إطلاق التصريحات التي تنم عن نوايا حسنة للجانبين في إطار ما يمكن أن يطلق عليه «دبلوماسية الضعف المتبادل»، لكن حتما سيكون هناك الوقت للجيل القادم لكي يتساءل عن الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبتها سلطة الإنقاذ حيال معالجتها لملف الجنوب طوال سنواتها، والتي ستؤدي إلى حصاد التاسع من يناير العام القادم، وبنفس القدر عن الأخطاء السياسية التي ارتكبتها القوى السياسية وهي تقدم التنازلات للحركة الشعبية طوال أيام المعارضة، بغية تضييق الخناق على نظام الإنقاذ بكل الوسائل وبأي ثمن، ومساهمة كلا الجانبين في تطوير آليات الانفصاليين وطموحاتهم التي ازدهرت مع ظهور مستجدات أخرى، هي البترول واستعداء المجتمع الدولي والتعثر السياسي الداخلي.
*واشنطن

الصحافة

تعليق واحد

  1. الاستاذ حسن, ان محكمه التاريخ وحدها لاتكفي لانقاذ مايمكن انقاذه وماجدوي التاريخ والوطن يتفتت امام اعيننا ولاسبيل لنا في انقاذه , ان التاريخ لن يحاكم حكومه الانقاذ وحدها ولكن كل الشعب السوداني في تركه الامور تصل الي ماوصلت اليه, تبا لنا من شعب جبل علي الخنوع وضن بنفسه ولم يضحي لانقاذ الوطن واستكان للذل ولمجرمي الموتمر الوطني يفعلو فيه ما يشاؤن

  2. لم تذكر ان في ذات 1991 بتوريت وعقب انفصال مجموعة الناصر خرجت الحركة من اجتماعها بتبني

    رؤية الانفصال او تقرير المصير في حالة صعوبة او استحالة تحقيق دولة علمانية ديمقراطية تعالج مسائل السودان القديم، لذلك لا صحة لكلام الذين يكتبون هذه الايام ان رؤية د. قرنق هي الوحدة !!! لا ليس هذا صحيحا …. يكون صحيحا فقط في حالة تطبيق شروط السودان الجديد المعروفة للجميع !

  3. انا اؤيد قاي وكما شرح لك للحركة الشعبية سيناريوهات للازمة السودانية وهي قديمة منذ 1991 (في حياة د. قرنق) والان، هذا احدي التصورات، اما ان الحركة لم تكمل مشروعها فهذا اجحاف في حق الحركة، ذلك ان الامور حتي هذه اللحظة هي مشروع للحركة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..