سايكولجية المقهورين

ثمة متغيرات جذرية مرعبة ضربت أساسات الوضع الاجتماعي السوداني من اقصاه الي اقصاه في ربع قرن الاخير نقصد به بعد مجيء ثورة الانقاذ، ليس بسبب تردي الوضع الاقتصادي الذي تركله الحكومة الي الحصار الغربي المفروض علي السودان فحسب كما يقولون، بل في حدوته خصخصه دين الله، واصبح الدين اداة من ادوات اللقف والنهب والسلب السريع في واقع مأزوم.

قبل مجيء الانقاذ قل ما نسمع عن جرائم انتحار تحدث مثلا، وان حدثت فكل عامين أو ثلاثة اعوام، وكنا نحوقل ونسبح ونسال الله اللطف والسلامة، اما الان وفي عصر المشروع الحضاري اصبح الانتحار وكأنه موضة، وكانه جماعي وكاد ان يتحول الي ظاهرة اجتماعية تستدعي الوقوف عندها من قبل المتخصصين، حتي وصل بنا الحال ان يذبح رجل خمسيني نفسه وفي قارعة الطريق نهارا جهارا وامام الخلق!!

ثمة سادية ياقوم ضربت مجتمعاتنا، واصبح الاغنياء ينظرون الي الفقراء نظرة تشفي وانتقام ، اكثر من نظرة ملؤها الود والحنان وكأن هؤلاء الفقراء ليس من بني السودان بل من كوكب اخر، أو كأنما حروب طاحنة دارت بين الفقراء والاثرياء الجدد، الا قليل، انهتكت وانسحقت قيم التعاون والتعاضد، وحلت محلها الشوفينية والبوبار، واصبح الفساد هو الآمر الناهي، وتحولت السلطة وتطبيق القانون بيد الغني الفاسد والمتحزب الا من رحم ربي، وانعكس ذلك علي سلوك الفرد في المجتمع وتحول المجتمع نفسه الي حاضنة من حواضن الفساد، وذلك عن طريق الصمت والقبول بمعطيات الواقع الماثل المائل ومخافة فقدان رزق اليوم مقابل مجهول غامض، يموت المرضي في المستشفيات من نقص في الكفاءات ولا منتصر لاهل الضحية، ويتسمم الناس بالادوية المنتهية الصلاحية ولا حساب ولا عقاب طالما ان ثمن هذه الادوية ملاييين خرجت من احد البنوك وانه ينبغي غض الطرف عن المفسدين كي تعود الغروض المنهوبة الي خزينة الدولة وهيهات ان تعود، وتموت القضايا في دهاليز المحاكم من بطء الاجراءات، وعصابات بيع لحوم البشر والحمير والغربان والكلاب محمية حماية كاملة وتامة من الطاغوت الاكبر، كي تمارس فسادها وافسادها لقتل الاطفال والنساء والحوامل بالمنتجات الفاسدة.

وامست اللامبالاة تاكل مع الناس وتنام، فالموظف الحكومي في بعض الدواثر الحكومية كاره لوظيفته ويعمل من غير اخلاص كونه لم يتحصل علي مرتبه الا بعد مرور اسبوع أو اسبوعين في الشهر الجديد، أو ان مرتبه لا يكفيه هو لوحده ناهيك عن عياله واقساطه مدارسهم، انسداد كامل للافق يعيشه المواطن، ولا توجد حلول جذرية استئصالية.

ان العمارات السوامق والمشاريع والطرق التي عبدت والمدارس والجامعات التي شيدت تكون عقيمة وسقيمة ان لم تجعل المواطن يعيش حياة كريمة، ان لم تجعل الخريج والخريجة الجامعية تتوظف وظيفة تسد له أو لها رمق العيش، وتجعل الخريج لا يعيش عالة علي والديه.

ان المستشفيات والمراكز الصحية التي انشئت تكون بلا جدوي ان لم يجد المواطن السوداني البسيط علاجه المناسب لسقمه.

اخر التقليعات هو بروز اصوات تنادي بعدم تعين ابناء الولايات بالخرطوم ان صحت هذه الرواية، فانه غباء بكل ما تعنيه الكلمة من معني، لايمكنك حرمان ابن الهامش من ابسط مقومات العيش الكريم في ولايته، لا يمكنك تجريد ابن الهامش وسائل الكسب الحلال في ولايته وعندما يحج الي الخرطوم تطبق عليه سايكلولجيا الفناء والقهر، علي القائمين علي الامر ان كان هناك قائمين اساسا، عليهم انقاذ ما يمكن انقاذه لانه ببساطة معظم القادمين من الهامش شهود عيان علي القتل والسحل بمعني انهم شاهدو ذلك بام اعينهم كيف قتل وحرق ذووهم في معارك قبلية دنكشوتية أو كيف احترق نخليهم وجفت بواديهم و تصحرت مشاريع الزراعة في اراضيهم فلم يعد امامهم الا الخرطوم، وان اخر ما كان يتوقعون سماعه هو عدم توظيفهم وكأنما الوظائف علي قفي من يشيل، ولكن عندما يبدا الجوع في قتلهم فلن يجدون امامهم الا الثورة أو التشكيلات العصابية الاجرامية كي يواصلون رحلة البقاء بدلا عن رحلة الفناء.

لم يعد هناك وقت، المطلوب تسوية سياسية نهائية، وايقاف الحرب التي تستنزف من خزينة البلد وقوت الشعب، فاما نظرة ايجابية عملية لارض الواقع والبدء في عمل خطط اسعافية لمحاربة الفساد أو خراب لا قبل للجميع به، وكما تكونوا يولي
عليكم.

[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. كتب عالم الاجتماع الفرنسى اميل دوركايم، فى اواخر القرن الثامن عشر عما سطره يراعك من ملاحظات،، واسماها الانومى او اللاانتماء و هى حالة تحس فى المجتمع عندما يمر بحالة من التغير الاجتماعى المتسارع و حينها تضعف مقدرة وسائل الضبط الاجتماعى فى التحكم فى سلوك الافراد. و مما لاشك فيه ان مجتمعنا يمر بتحول بنائى من مجتمع 70٪ من افراده يقطنون الارياف و اكثر من 70٪ منهم يمتهنون الزراعة و الرعى وبوسائل تقليدية اقرب للبدائية الى مجتمع خدمى استهلاكى حيث يقدر سكان الخرطوم بحوالى 11 ملبون نسمة وهو ما يقارب ثلث سكان السودان
    والحالة هذه والتى عبرتها اوروبا فى بدايات القرن العشرين مرت بجيراننا المصريين منذ نحو عقدين (زمن الانفتاح). فهى مرحلة يبدو و كانها حتمية فى تطور الشعوب، وان شاء الله سوف نعبىرها ولكن لربما كان علينا ان نعتبر بغيرنا حتى نسعى فى تجنب شرورها تخفيف وقعها علينا.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..