النفرة الخضراء والحكومة الجوفاء

النفرة الخضراء والحكومة الجوفاء
عبدالله مكاوي
[email protected]
تناول الأستاذ الكبير والصحفي المخضرم محجوب محمد صالح قبل فترة في عموده أصوات وأصداء بصحيفة الأيام الغراء مشكلة القطاع الزراعي وأزماته المتكررة مستهلاً عموده بهذا التساؤل لماذا يظل الفشل ملازماً لكل المحاولات التي تبذلها الحكومات المتعاقبة لإنقاذ القطاع الزراعي في السودان من أزمته المستحكمة رغم كل الشعارات الهلامية البراقة التي تتبناها تلك الحكومات بدءا من (السودان سلة غذاء العالم) مرورا بشعار (نأكل مما نزرع) وانتهاء بالنفرة الزراعية وابنها الشرعي (النهضة الزراعية)؟ وموضوع مفارقة هذا النظام بالذات لشعاراته ذكرني بطرفة تحكي عن لقاء تم بين الجنرال عمر البشير ونائبه علي عثمان والرئيس المصري المخلوع مبارك قال فيه الأول نأكل مما نزرع ورد عليه الثاني ونلبس مما نصنع فتبسم الأخير ضاحكا وعندما سُئل عن سبب ضحكه قال نضحك مما نسمع وكل ما ذكر يؤكد بجلاء ما ظل يتردد كثيرا عن مفارقة نظام الإنقاذ لشعاراته كأنه ما جاء إلا ليعمل عكسها فهو يتحدث عن إنقاذ الوطن ويعمل بالفعل علي تحطيمه وتقسيمه وما فعله هذا النظام بالوطن لم يفعله طفل بلعبته الجميلة ويحدثنا بلسان فصيح عن القوي الأمين ويقدم لنا قيادات تمثل ابرع من تفنن في نهب البلاد والعباد بطريقة جعلت الشيطان يستلقي ضاحكا ويفكر بصورة جدية في الرحيل عن هذه البلاد فهي تطل برأسها من كل منافذ الخدمات وتمد ازرعها الأخطبوطية في كل طرق السفر البرية لامتصاص دماء المواطنين وعصرهم وسحقهم لاستخلاص آخر فلس من هيكل فلسهم العظمي بل حتي الأجيال القادمة الموجودة في رحم الغيب لم تنجي من إهدار مستقبلها بعد ان جيرت كل الدولة لصالح أفراد النظام وعائلاتهم و محاسيبه ومواليه، وعودنا هذا النظام طوال الفترة الماضية علي الإشارة يمين لينعطف يسار والعكس صحيح حتي سبب الدوار لراس الشعب وأصاب جسمه بالرضوخ والكسور من كثرة الاصطدامات وهو يقود عربة الوطن في الطرق الوعرة بعيدا عن درب السلامة ومازالت هذه الحكومة تطرح وتتحري الوعود والمشاريع الجوفاء حتي كتبت عند الشعب حكومة جوفاء وعجفاء ، لذلك عندما طرحت الحكومة النفرة الزراعية او النفرة الخضراء وضع الكثير من الحادبين علي مصلحة البلاد أياديهم علي قلوبهم خوفا وهلعا وعلموا ان هذا الشعار يعني إعلان حرب الجوع علي الشعب الأعزل من المال وصلاح الحال وذلك لان ابسط مزارع يعلم أن الزراعة تحتاج لأساسيات منها توفر المياه والأسمدة والتقاوي الجيدة وغيرها من الأساسيات وهو الشئ الذي لم يحدث ناهيك عن شعار تتبناه دولة لديها من علماء وخبراء ومهندسين زراعيين يسدون عين الشمس وتعلم الحكومة ان ابسط أساليب التخطيط العلمي في الشأن الزراعي يتطلب منها معرفة طبيعة كل ارض والظروف المناخية المحيطة وتحديد نوعية المحصول الذي يتلاءم مع هذه الظروف وتحديد إحتياجاته وكل ذلك خاضع لاشراف مراكز البحوث لتلافي السلبيات والبناء علي الايجابيات ولاستنباط اصناف وشتول لها القدرة علي الانتاج العالي ومقاومة الامراض،والنشاط الزراعي عموما عملية متكاملة تحتاج للتنسيق بين جميع مكوناتها من مرحلة الزراعة والحصاد والنقل والتسويق والتخزين والصناعات التحويلية المرتبطة به وكمرحلة اولية كان عليها استهداف الاكتفاء الذاتي ومن بعده الاسواق الاقليمية كمصر (القمح) والسعودية (الاعلاف) ثم من بعد ذلك الاسواق العالمية بعد تحقيق شروط الجودة المساعدة علي المنافسة والاستفادة من المحاصيل والمنتجات التفضيلية التي تلائم مناخ السودان وتقل تكلفة انتاجها وبعد تحقيق فوائض الانتاج كان عليها مساعدة الجيران والمساهمة في تحقيق الاستقرار بالمنطقة لتحسين صورتها خارجيا وما يجلبه ذلك من استثمارات وبالتالي المزيد من الرخاء وتغير الصورة السلبية للوطن كدولة حروب وكوارث ومجاعات وهي طموحات ليست مستحيلة لشعب يملك قيادة رشيدة ونخب متبصرة ومتواضعة وشعب يملك إرادة صلبة وهمة ورغبة في التقدم والرخاء وهنالك تجربة ماليزيا وسنغافورة وجنوب افريقيا للإقتداء. ولكن الحكومة وبدلا عن ذلك أهدرت معظم أموال النفرة في شراء العربات والحوافز لأتباعها وإدخال الاموال في بنود ليست لها صلة بموضوع الزراعة والحسنة الوحيدة ان جزءاً من هذه الاموال وظفت في إقامة مشاريع جديدة ومعالجة بعض الصعوبات التي يعاني منها هذا القطاع ولكن عموما كانت المحصلة بئيسة (والدليل قائمة واردات المنتجات الزراعية من الخارج وهي كفيلة برحيل أي حكومة مسؤولة في بلد زراعي) وفشلت الحكومة في الاهتمام بقطاع يوفر لها دخل كبير ويخرج الكثيرين من دائرة العطالة والفقر الي دائرة الانتاج والاكتفاء بكل ما يحمله ذلك من علاج مشاكل اقتصادية واجتماعية وتخفيف لحدة الاحتقان الذي يحيط بالحكومة من كل اتجاه، وقبل ان يستفيق الشعب من صدمة النفرة الخضراء عاجلته الحكومة بالنفرة البيضاء وهي إدخال الحيوان في الدورة الزراعية وذلك باعطاء المزارع عدد من الحيوانات للاستفادة من المخلفات الزراعية في تغذية الحيوان والاستفاده من الحيوان في توفير الالبان واللحوم وكمصدر دخل إضافي يحسن من اوضاع المزارع ولكن كل ذلك تم بصورة عشوائية ومريبة وبغياب إشراف الاطباء البياطرة وخبراء الانتاج الحيواني وهم أصحاب الشأن والمؤهلون لإنجاح أي مشروع يتعلق بالحيوان بحكم التخصص والخبرة وهم الاقدر علي اختيار افضل السلالات ومكافحة ومعالجة جميع الامراض والنهوض بهذا القطاع الحيوي والذي يمثل مخرج للبلاد من ازماتها بالتكامل مع القطاع الزراعي ووفق رؤية شاملة للاقتصاد الكلي للبلاد ولكن الحكومة تركت الامر للشللية والعشوائية والفساد لتضيع فرصة ذهبية بإحراز هدف في مرمي الجوع والفقر والتدهور وهكذا اضاعت الحكومة علي نفسها وعلي البلاد فرصة استثمار عائدات النفط طوال سنوات اتفاقية السلام الشامل فهي لم تحافظ علي الوحدة كالرجال واصبحت تبكي علي ضياع عائدات النفط كالنساء.
ازمة النظام في اعتقادي تكمن كما أتضح اخيرا في انه يتعامل بمنهجية وعقلية الجناح العسكري داخل النظام الذي فرض طابعه واكسبه الحلقة الضيقة المؤثرة لضمان البقاء(شبه الكاتب المميز ثروت قاسم الرئيس بالشمس والمجموعة المحيطة به بالتوابع التي تكسب قوتها من بقاء الرئيس ودعمه او كما عبر في كتاباته) ويؤمن الجناح العسكري بأنه استولي علي السلطة بالقوة وبالتالي يحق له امتلاك الوطن بإحساس المنتصر (بعد ان خاطر بحياته وقام بالانقلاب يصبح الوطن ملك خاص له ويمتلك حق التصرف المطلق فيه) وليس عليه إلتزام أخلاقي بتنفيذ شعاراته للآخرين او تقديم تبرير مقنع لفشل هذه الشعارات واقصي ما يقدمه هو طرح شعارات بديلة لتستمر حلقة الشعارات الفارغه ولتغيب عن ذهن النظام جذور المشكلة الاصلية وهي كيفية حكم البلاد وايجاد معادلة واضحة وعادلة تحدد العلاقة بين الحاكم و المحكوم وتضمين ذلك في دستور وقوانين تجد الاحترام من الجميع وليست القضية قضية حكومة عريضة او ضيقة ولا جمهورية ثانية ولا عاشرة ولا إشراك الجهة الفلانية او الحزب العلاني او ترضيات تقدم لزيد او عبيد لتزيد من ترهل جهاز الدولة علي حساب الخدمات المقدمة للمواطنين ولذلك امام الحكومة حل قليل التكلفة عظيم الفائدة ويظهر معدن القادة والرجال ويخلد أفعالهم ويتمثل في التنازل الطوعي عن السلطة وتقديم البلاد لحكومة انتقالية تعيد ترتيب البيت من الداخل لبداية جديدة وتقديم اعتذار رسمي لكل ضحايا الفترة السابقة وتعويضهم وأسرهم تعويضا مجزيا يتناسب مع ما اصابهم وتقديم كل من ارتكب جريمة لمحاكمة عادلة مع تغليب جانب العفو من قبل الضحايا وارجاع كل ما نهب من اموال البلاد وفتح ملفات الارضي الزراعية والسكنية والعقودات التي ابرمت خلال الفترة الماضية و مراجعة بيع المؤسسات والمصانع والمشاريع العامة وان تتعهد المؤسسة العسكرية بالابتعاد عن السلطة والقيام بدورها في حماية الوطن من الاطماع الخارجية وحراسة المؤسسات الحيوية وذلك من اجل تأسيس ارضية صلبة لبناء وطن ديمقراطي حر وهذه الحلول لا تقبل التسويف والمماطلة والانكار لأن ثورات الجيران علمتنا أن التأخير في الاستجابة لرغبات الشعوب ومحاولة شراء الوقت والافراط في استخدام العنف لا يطيل عمر الانظمه ولكنه يرفع من فاتورة الحساب ويقلل من مساحة التسامح ويزيد نوازع الغضب والانتقام. هذا الوطن قادر بامكاناته وثرواته علي إشباع الجميع ولكنه بالتأكيد غير قادر علي إشباع أطماع الجشعين او كما عبر الروح العظيم غاندي.
خاتمة
(اللهم ارحم التجاني الطيب واغفر له واسكنه عالي الجنان بما قدم وبذل وتمني لوطنه مواطنيه والهم اهله ومعارفه و أحبائه الصبر والمقدرة علي تجاوز الاحزان وعوض وطننا فقد قادته البررة بقادة اصحاب قلوب كبيرة وعقول نيرة وضمائر حية وإرادة قوية وقبول من المجتمع لبناء وطن رحيم بأبنائه. اللهم آمين)