في هجير الدولة الدينية : حول قرار مسجل الأحزاب برفض تسجيل الحزب الجمهوري

بقلم/ عثمـــان عبد الله
قرار السيد/ مسجّل الأحزاب برفض تسجيل الحزب الجمهوري لم يكن مفاجئاً لأي متابع لمآلات الواقع السياسي الراهن في سودان ـ ما بعد انفصال الجنوب ـ حيث توهم الإسلاموييون أن انفصال الجنوب ( المسيحي) هو بمثابة ترتيب للبيت السوداني الشمالي أو ما تبقى من السودان القديم، ووضعه تحت طائلة(بيت الطاعة) وتوهموا أيضاً أن( دعاوى) التعددية ـــ العرقية/ الإثنية / الثقافية ـــ قد أنتفت، وصار بوسعهم إكمال مشروعهم الإسلاموي التمكيني، هذا يؤكده حديث رئيس الجمهورية في القضارف عقب الانفصال مباشرة، حيث قال وهو في قمة فرحه بهذا (الحدث التاريخي) : تاني ماعايزين تعدد ثقافي ولا (دغمسة)?.!!
تبع ذلك أو تزامن معه إنطلاق (المارد الإسلاموي) من قمقمه بعد إنحباس ــ نسبي ــ مؤقت في (هدنة) الفترة الإنتقالية، فتعالت الأصوات التكفيرية من بعض المساجد وتم الإعتداء على دار الحزب الشيوعي بالجريف من قبل ما يسمى برابطة العلماء المسلمين، وتوالت الإنتهاكات ــ المتعارضة مع دستور2005 ــ وشملت سريان قانون النظام العام والذي يعد من أسوأ القوانين المنتهكة لحقوق الإنسان، الإيقاف المتكرر للصحف، فض التجمعات والوقفات الإحتجاجية بالقوة المفرطة، استمرار وإتساع دائرة الحرب في دارفوروجنوبي النيل الأزرق وكردفان، إلى ضرب المتظاهرين(العزل) برصاص القناصة في إنتفاضة سبتمبر/ أكتوبر2013م الدامية والباسلة، وعلى الرغم من أن السلطة تجلس على( مائدتين) للحوار( الوطني) إحداهما مع (الحاملين للسلاح) والأخرى مع( الحالمين بالمناصب) نرصد تلك الإنتهاكات (اللادستورية) والتي تناقلتها الصحف السيارة في الأسابيع الماضية
· إغتيال الشهيد/ علي أبكر الطالب بكلية الاقتصاد جامعة الخرطوم، ولا تزال السلطة تمانع في نشر ما توصلت إليه لجنة التحقيق.
· الإعتداءات المتكررة على طلاب جامعة الخرطوم ورفض السلطة نزع أسلحة مليشيات الإسلاميين، رغم طلب وإصرار أساتذة الجامعة وطلابها على هذا الطلب البسيط والعادل، والذي بدونه لا يمكن أن تستمر الجامعة في أداء رسالتها.
. فض ندوة قوى الإجماع الوطني بشمبات
· رفض السلطات إقامة حفل تأبين لأحد( مراحيم) تحالف مزارعي الجزيرة والمناقل بقريته( حلة حمد) محلية الكاملين. في الوقت الذي كانت ومازالت السلطة تهدر فيه المال والجهد والوقت في تأبين منسوبيها أو في (أعراسهم).
· وأخيراً وليس أخراً رفض تسجيل الحزب الجمهوري، والذي سبقته حملة إعلامية( منظمة) ضد الأستاذة/أسماء إبنة الشهيد/ محمود محمد طه مؤسس الحزب الجمهوري، وإتهامها بأنها( كافرة بالميلاد أو بالوراثة) وقبلها مقالات و( نعيق) الكهوفيين القاضية بكفر وزندقة الأستاذ الشهيد/ محمود وهم بذلك يدوسون على (قرارات) المحكمة الدستورية والتي أقرت ببطلان الحكم الصادر ضد الأستاذ الشهيد قبل أكثر من ربع قرن، وعلى وجدان الشعب السوداني بإعتبار أن الشهيد محمود رمزاً للبطولة والشجاعة والتضحية والفداء، وهو بالنسبة لهم ليس أقل مقاماً من ود حبوبة أو عبدالفضيل الماظ .
لا أريد الدخول في حيثيات رفض التسجيل من الناحية القانونية، فقد سبقني إليها من هم أكثر دراية مني بالشؤون القانونية والدستورية ــ راجع كتابات الأستاذ/ نبيل أديب ــ
إن وقوفنا مع ومؤازرتنا للحزب الجمهوري ليس نكاية في السلطة ــ التي أذاقتنا الأمرين ــ مع علمنا التام بأن الفكر الجمهوري هو الترياق المضاد للتطرف الإسلاموي ولمختلف أشكال ومسميات و(تقليعات) الدولة الدينية بكل مرجعياتها السلفية/ الأصولية . وكل مدارس الإسلام السياسي (مؤتمر وطني/ شعبي/ إسلام صحوة/ أو صفوة) تتهيب من الفكر الجمهوري، لأنه ينطلق من ذات المنهج الذي ينطلقون منه وهو في ذات الوقت يفضح تهافتهم للسلطة ويعري جهلهم بالدين .
ما كنا نتوقع أن يحصل الحزب الجمهوري على(التسجيل) من هذه السلطة، ومعظم سدنتها من الذين هللوا وهتفوا فرحاً بإعدام شهيد الفكر الأستاذ/ محمود محمد طه ــ هذا ليس حصرياً على الإنقاذيين وحدهم، وإنما يشمل أيضاً الجالسين الآن في مائدة حوارهم المزعوم ــ
الأيدلوجيا الدينية تدعي بأنها تمتلك تفسيراً شاملاً وكاملاً لكافة المعضلات الاجتماعية/ السياسية/ والثقافية، وهي بالتالي تجتهد وتهتم إهتماماً هائلاً بالقضاء على أي تفكير آخر، وأي ممارسة ثقافية خارج نطاق تفسيراتها، وهذا( الجهاد) أو الإجتهاد الفكري المتصل، غالباً ما يصل ــ في ذروته ــ إلى التوحيد بين الرأي الآخر من ناحية ومعنى (الكفر) من ناحية أخرى .
وفق هذا الفهم (المبسط) ــ وهو أعلى مراتب الأستبداد ــ فإن الدولة الدينية لا تحتمل أي رأي مخالف لها، وتتناسب هجماتها على الحريات العامة، طردياً مع تفاقم أزماتها الداخلية والخارجية. أي كلما إشتدت أزماتها كلما ضاقت وضيّقت على الحريات، والتي هي أصلاً لا تؤمن بها وليس في قاموسها السياسي ديموقراطية ولا حقوق إنسان، فهاهي وبعد أن سلبت الإنسان السوداني قوته وكرامته وحريته، هي الآن تدوس على إرث الشعب السوداني النضالي، السياسي / القانوني والثقافي.
ليس هناك أقسى وأمر على الوجدان السليم من وصف( موروثاته) بالبدع والوضاعة، وشهدائه بـ( الهالكين الكفرة) ، وثوراته وإنتفاضاته بــ(فوضي الرجرجة والدهماء) وليس من باب المبالغة أن الدولة الدينية الآن تحاول سلب الشعب السوداني حتى.. مشاعره وأحاسيسه الوجدانية تجاه منْ وما يحب !!
السؤال : هل يمكن التعايش أو العيش في (هجير) هذا النظام ؟؟ وهل يمكن (الحوار) مع دولة لا تعترف بحق رعاياها في الحياة !! غض النظر عن هذه الحياة .. كريمة أو ذليلة ؟؟
إذن آن الآوان لنؤسس منبر حر من كل القوى الديموقراطية، المؤمنة بحق الإنسان في الحياة، فوق الأرض لا تحت الطغاة، كل قوى الوعي و الإستنارة من أجل بناء الدولة المدنية ، دولة المواطنة، ومواجهة التطرف والهوس الديني ودعاة الجهل والتخلف، وبعد ذلك محو بثور ودمامل الدولة الدينية المستبدة. النداء موجه لكل الواقفين تحت(هجير) (وبقل) الدولة الاستبدادية الظلامية، وليس للجالسين حول مائدة السلطان في القاعات المكيفة ، الآن ? الآن فاض الكيل وبلغ السيل حد الوجع.!!
الميدان