كم نظرنا هلال” معاوية حامد شداد يرد شغفه بالفلك إلى صباه الباكر واهتمامات بدأت منذ الثالثة عشر من عمره

الخرطوم ? الزين عثمان
في مكتب يبدو متواضعاً بكلية العلوم في جامعة الخرطوم، يجلس الرجل ترافقه ابتسامته، يرد على الهاتف بين الحين والآخر.. يداعب هذا الطالب ويرد على أخرى محاولاً أن يفك تركيبة المعادلة الفيزيائية أو يضئ دياجر عتمة بالضوء عبر أسلاك الفلك في مكان آخر يحكي عن ضرورة الحفاظ على البيئة وحمايتها من التعامل غير الملائم من قبل البشر. البشر عند الرجل كثيراً ما يمضون عكس تفاصيل الواقع، هم يدعمون الفنانين والممثلين على حساب العلماء أو هكذا ينظر إلى معادلة السلطة في مقابل من يملكون العلم.
“السبت هو أول أيام شهر رمضان”، قبل شهر قالها الرجل.. قبل أن يترك الآخرون انتظار ما يؤول إليه الاجتماع السنوي لتحديد بداية الشهر من قبل هيئة الإفتاء بالبلاد.
معاوية حامد شداد الحاصل على الدكتوراة في علم الفلك، يرد شغفه بهذا النوع من العلم إلى مراحل صباه الباكرة، فهو منذ الثالثة عشر من عمره بدأ الاهتمام بمثل هذا النوع من العلم، وقال إن القراءة في كتب الفلك وبقية العلوم هي التي مهدت له الطريق نحو الجلوس في هذا المجال. فالرجل المنحدر من أسرة شداد العريقة في السودان، تلقى تعليمه بالخرطوم، وفي مدرسة الخرطوم الثانوية كان له الشرف في تكوين الجمعية السودانية لعلوم الفلك التي كونها معاوية شداد في العام 1965 برفقة آخرين في ذات المدرسة.
شداد يعتبر من أكثر النابغين في علم الفلك بمنطقة الشرق الأوسط، وهو عالم الفلك الوحيد بالسودان بحسب إفادة أحد طلابه في جامعة الخرطوم محمد التيجاني المعروف بالزعيم. عندما أخبرته بأني بغرض الكتابة عن البروفيسور شداد معاوية، رفض الحديث باعتبار أن كل الحروف، قال إنها لا تصل إلى درجة علمية وإنسانية وسودانية البروف معاوية.
تحديد يوم السبت بأنه أول أيام رمضان بحسب تحديدات الفلكي شداد تقود إلى حالة من الشد والجذب أو للصراع بين العلماء والفقهاء ورؤية أي الفريقين يجب اتباعها، البروف له وجهة نظر في هذا الأمر. حيث يقول في حوار سابق (التطور الذي حدث في الفلك تقدم طبيعي لتطور العلوم البحتة والتي تنمو بطريقة متسارعة، بمعنى كمية التسارع في إدراك معرفة أوسع أكثر بكثير مما كانت في السابق، إذ أننا في العصر الحالي انتشرت المعرفة العلمية والاكتشافات من التلفاز وأجهزة اتصالات وهو الأمر الذي يجعل العملية محسوبة بدقة، وبالتالي يقل فيها هامش الخطأ طالما أنها تقوم على المعرفة، وبالتالي فإن كثيرا من الأحوال ثبتت صحة رؤية شداد العلمية في عملية التحديد.
يقول (الزعيم) إنه في أحد المرات وقبل رمضان بأربعة أيام قام البروف بالعمل على أجهزته وحدد اليوم الأول لرمضان. ودعت الحكومة لمؤتمر صحفي تم فيه توضيح الحساب وطريقة الوصول إلى النتيجة، وتمت الإجابة على مجمل الأسئلة التي طرحت، وجلسنا أمام التلفاز في انتظار إعلان تحديد السودان لمواقيت الصيام، لكن عقب ذلك أعلنت السعودية أن رمضان سيكون بعد غد، وهو ما تم تبنيه. ذهبت في اليوم التالي للجامعة وإلى مكتب البروف الذي قام بسؤالي.. أها صائم؟.. فأجبت بالنفي، فضرب بكلتي يديه على الطاولة محتجاً. ويضيف محمد التجاني أنه في نهاية المطاف أُكدت عملية الصيام بأن رؤية البروف كانت هي الصائبة، وأثبتت لي بشكل شخصي أن معاوية شداد هو الميقات الصحيح والعلمي في تحديد مواقيت الصيام والعيد.
البعض ينظر إلى الرجل من خلال الموسم المتعلق برمضان وأنه صاحب الرؤية العلمية للتحديد في مقابل الرؤى الفقهية، لكن ثمة من يخبرك عن الإمكانيات الأخرى المتوفرة للرجل في سعيه للنهوض بالتجربة السودانية في علوم الفلك وهو صاحب المبادرة لإقامة وشراء القبة السماوية السودانية، لكن الميزانية المرصودة من قبل الجامعة لهذا المشروع تم تحويلها لشراء معينات خاصة بمستشفى سوبا الجامعي لإعانة المرضى دون أن ينتهي الحلم في ضرورة الحصول عليها من الرجل المعتز بسودانيته وانتمائه.
لعل المساهمات التي قدمها معاوية لم تقف عند حد محاولة شراء القبة السماوية وإنما تمثلت في عمله على جلب علماء أمريكان للمشاركة في المؤتمرات السودانية رغم أنف المقاطعة المعلنة، هو ذات الأمر الذي دفع بمحمد التيجاني للقول إن ما قدمه معاوية شداد للسودان يتفوق على ما قدمته الحكومة المنعوت دعمها لمجال الفلك بأنه صفر على الشمال.. الشمال مكان القلب وفي القلب الانتماء للأرض، والناس الانتماء الذي دفع بشداد لأن يرفض جنسيات عدة دول مكتفياً بالإجابة (عفوا فأنا أمتلك هوية) لا أريد أن أقوم بتغييرها أو تبديلها بأخرى، فالسودانية تكفيني في جانب آخر.. البعض يقوم بتوصيف التعامل بين البروفيسور في علم الفلك وبين الطلاب بأنه دائما ما يبتدر بحالة من الوجل والخوف حتى من الوقوف أمامه، لكنه خوف سرعان ما يتحول إلى حالة من المحبة يمنحها طلاب جامعة الخرطوم لرئيس قسم الفيزياء بكلية العلوم سابقاً، والأستاذ حالياً بالجامعة.. حالة مردها لكثير من المواقف الإنسانية التي تبدوا في تعامل الرجل مع طلابه أو لتقارب مواقفه مع مواقفهم في كثير من الأحيان.. محبة ما كانت لتحدث لولا حالة التواضع في تعامل الرجل. أحد طلاب الرجل يقول لو أن معاوية شداد لم يفعل أي شيء سوى تمسكه بالبقاء في الوطن.. مع أن كل الأبواب مفتوحة له وعلى مصراعيها أن يكون أحد مستشاري وكالات الفضاء الأمريكية.. ويختار البقاء في المكتب المتواضع على شاطئ النيل وفي الجامعة التي بناها الإنجليز لخاطر عيون السودانيين.. فإن هذا وحده كاف لأن تجري له شلالات المحبة بامتداد النيل.. أن ترى انفعالات الرجل مع قضايا أهله حين يخرج للعمل الميداني، فهذه عوامل أخرى تجعل من المحبة واجبا وطنيا. معاوية إن كان خارج السودان لصنع له تمثالاً، ولكن يكفينا أن نتمثل بعض مواقفه وأن نحصل على بعض من علمه.
الستيني يستمتع بمشوار الصباح بين منزل الأسرة في الخرطوم ومباني كلية العلوم، يستمتع برؤية تلامذته والنقاش معهم في معادلات الفيزياء المعقدة، وفي معادلات الحياة الأكثر تعقيداً، يستمتع بزيادة ارتفاع ضربات القلب مواصلاً مقاومته لمرض الضغط وبارتفاع السكر، لكنه يظل موقناً أن الناس هنا أروع ما فيهم بساطتهم ومعدنهم أغلى من الذهب، ويستمتع طلابه أيضاً بالنظر إلى صاحب الشعر المميز وهو يتجول بينهم في ردهات الكلية تاركاً أبناءه خارج السودان مع أمهم الأجنبية.
اليوم التالي
لو عملت مع البروف معاوية أو قضيت الى جانبه فترة ولو قصيرة لأدركت أنه النيل أو جبال التاكا أو سهل من سهول السودان الممتدة فهو صبور ومثابر ومحلل ودقيق وناقد بناء لايحقد على أحد وحينما يثور تجد أن هناك خلل أو تقصير في تنفيذ الخطط والبرامج التي أشرف عليها وشارك في وضعها مع اتيام العمل ودائما ما يشرك الجميع في قراراته التي يتخذهاوله كاريزاما العالم الجليل المتواضع جدا مع علم نادر موفور عنده.. نسأل الله ان يمتعه بالصحة والعافية ويعينه في عمله فهو معلم الاجيال ومعلم في هذه البلاد.
بروف معاوية ما تظهر الا في رمضان