أزمة المياه..أزمة إدارة وسياسة.2.

دكتور هاشم حسين بابكر
ما ذكرت في المقال السابق أن المياه تلعب دوراً أساسياً في حياتنا، وأن تطور أي بلد ونموه يعتمد اعتماداً كلياً على قدراته المائية، فإن توفرت هذه المقدرات كانت التنمية وكان الرخاء.. وعلى ذلك فقط قامت الحضارات على ضفاف الأنهار، وقص القرآن الكريم جاء بالكثير من الأمثال على ما أقول، وما قصة سد مأرب إلا يدل على ذلك..!!
لا تستطيع دولة أياً كانت أن تنمو وتخرج من خط الفقر إلا إذا تحسست مواردها المائية واطمأنت عليها فهي الثروة المتجددة التي يجب أن تحصرها أي دولة تريد النمو وتحسين المعيشة لشعبها..!!
كيف يمكن لدولة راشدة أن تضع ميزانية سنوية وهي لا تدري مقدرتها المائية وشعبها يعيش تحت خط الفقر المائي الذي جلب معه كل انواع الفقر الأخرى.. وأورد مثالاً على ما أقول، عندما كنت أعمل بالهيئة القومية للمياه الريفية كان هناك مشروع هولندي سوداني مولته هولندا، والمشروع نفذ في دارفور. قامت صداقة بين مدير المشروع الهولندي والمدير السوداني، وعندما اكتمل المشروع واصل الاثنان المراسلة بينهما، وحدث أن ذهب المدير السوداني إلى هولندا وقرر زيارة صديقه الهولندي ولما ذهب إلى مقر عمله ذكروا له أنه غير موقعه وانضم إلى حزب سياسي ووصفوا له المكان فذهب إلى دار الحزب ووجد صديقه هناك، ولكن ما لفت نظر الخبير السوداني أن المبنى كله وهو تابع للحزب السياسي، انما هو مركز دراسات مياه. سأل الخبير السوداني صديقه هل يمارس الحزب دراسات علمية للمياه وما علاقة السياسة بذلك؟
أجابه صديقه نحن هنا نرصد كل قطرة ماء في هولندا، إذ لا نستطيع تقديم ميزانية أو برامج تنموية ما لم يكن لدينا المعلومات الكافية لمقدراتنا المائية. إذ يمكن لأي حزب آخر أن ينتقد البرنامج الذي نزلنا به للناخبين أن يثبت للناخبين أننا نكذب عليهم، يستطيع أي حزب أن يسقط برنامجنا اعتماداً على أن البرنامج يفوق المقدرة المائية للبلاد..!!
أما نحن في السودان فالأمر مختلف تماماً، فأي نظام يأتي لحكم السودان يُعلن أول ما يعلن أنه سيقوم بزراعة عشرات الملايين من الافدنة، دون أن يكون لديه أية فكرة عن الامكانات المائية التي يمكن أن تحقق للنظام هذه الامنية المستحيلة..!!
لم يسلم النظام الحالي من هذا الوهم، فأعلن في بواكير أيامه في أحد المؤتمرات انه سيزرع ثلاثين مليون فدان، دون ان تكون له أدنى فكرة عن القدرة المائية للبلاد فزرع الاماني وحصد الوهم..!!
هذا ما يخص الزراعة أما الصناعة فحدث ولا حرج إذ يقوم المصنع وبعد افتتاحه تظهر أزمة المياه، والصناعة لدينا ضعيفة ومن اهم اسباب ضعفها ندرة المياه فالزراعة تأخذ ما يعادل «95%» من المياه المتاحة وتبقى «5%» للاستخدامات الأخرى بما فيها الصناعة. الجدير بالذكر أن الصناعة تستهلك في الدول المتقدمة ما يعادل «50%» من الامكانيات المائية بينما تستهلك الزراعة «40%» وتبقى العشرة في المائة لبقية الاستخدامات..!!
واذا كان استهلاك الصناعة للمياه أكبر من استهلاك الزراعة ففي السودان تبقى المشكلة وببساطة لا صناعة تذكر حتى لتلك المرتبطة بالزراعة..!!
ذكرت في الحلقة السابقة أن السودان من القلائل من الدول التي لا يوجد بها قانون لحماية الثروة المائية. ولو نظرنا عملياً للدول التي تحدث فيها كوارث الجفاف لوجدنا معظمها لا يحمي الثروة المائية بقانون، وفترات الجفاف تتعاقب علينا كثيراً، وحتى في زمن الأمطار الوفيرة تجد المواطن يعاني ذات المعاناة حين الجفاف فلا يجد ماءً صالحاً للشرب أما البرك التي تسببها السيول والامطار فتصبح مزارع للاوبئة الخطيرة والقاتلة، فالقانون ينظم استهلاك المياه حتى لا تحدث الندرة، كما انه يتيح زيادة المخزون المائي سطحياً كان أم جوفياً بالمنشآت التي تحفظ المياه كمخزون يرجع إليه حين الحاجة، لم تهتم الحكومات المتتالية لعمليات حصاد المياه إلا في نطاق ضيق جداً في شكل حفائر وسدود تجف المياه فيها في أشهر الصيف الأولى في انتظار أن تمتلئ هذا إن جاء الخريف..!!
يجب أن تكون هناك قوانين تنظم استخدامات المياه وأخرى تفرض حصادها فبالماء وحده تقدم الحياة الاقتصادية والازدهار..!!
أقول هذا وبين يدي نسب الهطولات المطرية والتي بلغت ألف مليار متر مكعب، وحسب معدل السريان «Runob Coebicenr» يمكن حصاد ما بين خمسة إلى عشرة في المائة من هذه الكمية، اعتماداً على نوعية التربة التي تجري فيها، بالحساب البسيط هذا يعني حصاد ما بين خمسين إلى مائة مليار متر مكعب، وهذا يتطابق مع ما ذكرته في المقال السابق حين قلت إن طبقات الجو العليا تحمل ألف ومائة كيلو متر مكعب يذهب منها سبعون ألف في المصبات أما الأربعون ألف الباقية فتذهب إلى البحيرات والأنهار الدائمة والموسمية، وعند الموسمية هذه يجب أن تكون لنا وقفة..!!
والوقفة مع الأنهار الموسمية ضرورة قصوى، فهذه الانهار تحمل كميات ضخمة من المياه وفي فترة زمنية وجيزة، وحين تبدأ السيول تغمر المياه كل شيء وتدمر القرى والزراعة في لحظات وحين ينتهي فصل الامطار يحل الجفاف فلا يجد المواطن من الماء الذي دمره ما يسد رمقه، سياسة بناء حفائر بأحجام متواضعة «ثلاثين ألف متر مكعب» في جو يتسم بالحرار المرتفعة يجعل من أربعين في المائة من تلك المياه عرضة للتبخر، كما ان نسبة مقدرة منها تغذي المخزون الجوفي، لذلك لابد من التفكير والدراسة لعمل بحيرات صناعية تستوعب النسبة المقدرة من هذه المياه، وكما ذكرت في المقال ا لسابق أن بحيرة تشاد تستوعب ستين في المائة من حجمها من وادي هور الذي يأتيها من السودان وبالتحديد من دارفور..!!
وفي السودان الكثير من المنخفضات التي كانت يوماً ما مجرى لأنهار وبحيرات وهذه المجاري تنشط في المواسم الممطرة، لذلك تجتاح القرى التي قامت على مجاريها وحجة إقامة القرى على تلك المجاري ان هذا الخور توقف قبل خمسين عاماً.. إن قضية المياه قضية شائكة وليست كما نصف الأمور السهلة فنقول «ساهل مويه»!!
نواصل
[email][email protected][/email]