يتنفسون بأقلامهم..!ا

يتنفسون بأقلامهم..!

ضياء الدين بلال
[email protected]

الوصول لقلب الخرطوم نهاراً عملية شاقة ومرهقة. تهدر الوقت والصبر معاً. لا يخفف من هذه المعاناة سوى الاستماع لإذاعة البيت السوداني: (إنتو بيتكم وين؟).. وضحكة بطعم العافية وفائدة الدواء.
قبل أيام كنت في مشواري اليومي من البيت إلى الصحيفة، أستمع لإذاعة البيت السوداني. كانت الإذاعة تبث أغنية أستمع لها لأول مرة.
أصابتني بحالة حزن مفاجئ. شعرت برغبة ملحة في البكاء. أصوات العربات وزحام الطرقات ورجال المرور قووا مناعتي في مقاومة الحزن ومحاصرة إلحاح الدموع.
والمغني يردد:
دعوني ليلة الذكرى وحيداً بين أحزاني
والأحلام في صحوي سهاد بين أجفاني
فيمضي زورق الذكرى بلا شاطئ وقبطان
نعم، تفاجأت عند إخطاري من قبل مذيع الربط بأن صاحب كلمات الأغنية هو الصحفي الراحل الأستاذ الشفيف/ رحمي سليمان.
قلت الااااااه. هذا الحزن أعرفه تماماً. الكلمات تشبه كاتبيها. رحمي سليمان صحفي رقيق المشاعر بهي الابتسام، يحاول دائماً انتقاء كلماته بإحساس رفيع يتجنب جرح المشاعر وكسر الخواطر. لا بل يمضي لأبعد من ذلك، كأنه يضبط نبرات صوته على أوتار عود أو كمان، يتجنب خروج النشاز، ويحتفظ بمشاعر الود والتقدير لسامعيه.
أذكره تماماً في أيامه الأخيره كان يكتب عمود صحفي بالعزيزة (الرأي العام) ويحضر للصحيفة برجليه من الخرطوم 3، ليسلم العمود للصديق الخلوق البدوي يوسف مدير التحرير.
المقال اليومي مكتوب على ورقة فلسكاب، صفحة واحدة، محددة الكلمات، لاتزيد ولا تنقص، بخط بديع وأسلوب سلس.
في إحدى مشاويره اليومية لتسليم ورقة الفلسكاب تعرض الأستاذ/ رحمي سليمان لحادث سير ألزمه السرير، بعد أن كسرت رجله العزيزة، سمحة الخطى.
ورغم معاناة العمر وألم الكسر، لم يتوقف عن كتابة عموده، حيث كلف أستاذي الجليل إدريس حسن رئيس التحرير أحد سائقي عربات الصحيفة بإحضار العمود يومياً.
والأستاذ/ إدريس حسن رجل وافر العطاء والوفاء لأساتذته وزملائه من الذين أخذت مهنة المتاعب بيض سنينهم وتركت لهم سواد الليالي وكحل الأحزان.
مات رحمي، في غرفة صغيرة ضيقة، في منزل متواضع، تتعدد في داخله الأسر- أظن أغلبهم كانوا من وافدي الشقيقة أثيوبيا- مات رحمي في غرفته تلك وإلى جواره بعض إرشيف صحيفته “الأخبار” وقصاصات لمقالات أنجزت وقصائد لم تكتمل وصور قديمة من تلك الأيام وبعض أدوات الطباعة وحروفها تحمل رائحة الذكرى والشوق القديم.
قليلون كانوا في التشييع. بعض أصدقاء الأمس والأقارب والجيران. وكانت أوراق الفلسكاب على الطاولة يعبث بها الهواء العابر بين النافذتين.
بالأمس كان حفل تأبين السفير الدكتور بشير البكري، وهذا رجل آخر من طراز فريد، بشوش وعميق محب للورقة والقلم والجدال اللطيف، إلى أن تجاوز الثمانين ظل لا يغيب عن الندوات والسمينارات. وحينما كان في المستشفى على فراش الرحيل، ظل يكتب مقاله الأسبوعي إلى آخر قطرة حبر وشهقة روح.
ومن قبل كان الصحفي العظيم الفاتح التجاني الأسمر الوسيم، يكتب على ذات ورق الفلسكاب، أصابه سرطان الحنجرة، فقد صوته ووزنه. كان يقاوم المرض اللعين بثبات نادر وعزيمة فولاذية. رغم عناء المرض ظل يكتب بمزاج معتدل وذهن صافي، يكتب في كل شيء (العمالة الأجنبية، ومياه الخرطوم، وأزمة العطالة، وأعياد الكريسماس).
أحضر عموده للبدوي ظهراً ومات في العصر. حينما خرجت صحف الغد كان مقاله بالصفحة الأخيرة يخاطب القراء وهو قد توسد الثرى وفارق الحبر والورق،وعلامات الترقيم.
الأستاذ الراحل حسن ساتي بعد أن أكمل مقاله اليومي، شعر بالذبحة تتسلل إلى شرايينه، قاد عربته من الصحيفة للمستشفى. مات على ذات طريقة صديقه الفاتح التجاني. خرجت أنفاسه الأخيرة اليوم وكان مقاله في الغد يناقش القراء حول المنطقي والمعقول وقرارات الوزير!
حالهم كحال الشعراء والمبدعين في بلادنا نعاهم الرائع عبدالقادر الكتيابي في حياتهم قبل الرحيل.
عرفت الآن كيف غدي
فساعة حائط الأضلاع سابقة
وحاضر يومهم أمسي..

مضى الماضي وقدمني
فلا وجهي على المرآة أشبهني..
ولا ظلي يلازمني..
هل الغرباء إلا نحن والشمس؟
نغيب فتضرب الدنيا سرادقها لتذكرنا..
كأن رحيلنا العرس..!
عرفت الآن كيف غدي…
هــل الفقراء إلا نحن والطيـــر؟
نصوغ لقمحة لحنا..
ويأكل لحمنا الغير..

تعليق واحد

  1. من الطبيعي أنك تحتفي بي أصدقائك ورفاقك شعراء وصحفين

    لكن بس ما علي حساب الكتاب الأخرين

    عنوانك يتنفسون بأقلامهم..!ا

    من هم الذين يتنفسون بأقلامهم؟

    الشعراء وأصحاب الأقلام؟

    ولا عشان الناس بقت تكتب الحقائق؟

    وشايف أنه الصحافة في الفتره دي بقت تنتقد وتقول ألحق وانتا شايف أنه ده نوع من التنفيس!!

    هي في الحقيقه ليست الصحافة، هم شخصيات شايله هم بلد وناس وتتمني الحق وساعية ليه

    يعني أسي إنت كدا زكي بي اختيارك للعنوان ده؟توريه ؟ مجاز؟ استعارة؟ جذب للقارئي؟

    ربنا يرحم صديقك ويتقبل كل الأموات في وطنا، المط بي ملاريا والمات بي صاروخ والمات عطشان والمات ساي كدا

    ربنا يرحمهم ويغفر لي إذا كنتا ظلمتك بي كلامي ده

    والله العظيم بتمني أن أكون ظالمك

    لانه إذا كلامي التافه ده بقي حقيقه دي تبقى مصيبه

    لانها شينة في حقك وتبقي غلطتا علي ذملانك في المهنه

    هم يتنفسون بي أقلامهم

    وأنت تكتم في الأنفاس برضه بي قلمك يا أستاذ

  2. شكرا لك استاذ ضياء على هذه الوقفات على اعلام قدموا و لم يتستبقوا شيئا و اكن الوطن و الصحافة في حدقات عيونهم حتى لاقوا الله! و كلهم قد اخلصوا لرسالتهم و للقلم الذي حملوه…..اذكر ان حدثني احدهم من اقرباء المرحوم الاستاذ الفاتح التجاني انه و رغم المرض لم يتوقف عن الكتابة بيده و يذكر اهله انه رغم عذابات المرض لم يذرف دمعة واحدة من الالم… و لم يروا في عينيه دمعة الا مرة واحدة حين كان يكتب بيده و سقط القلم عن يده حيث كفكف دمعه و طلب من ابنته الكتابة و هو يملي..
    هؤلاء رجال اعطوا بصدق و اخلاص.
    اخي ضياء.. فيك الكثير من الخير و لكن تحتاج لوقفة مع ذاتك حتى تغتسل من دنس الانقاذ و ذويها

  3. يا أخوي الناس في شنو و إنت في شنو ؟؟؟؟؟ الناس في مقتل خليل و أدبيات الإنقاذ التي أدخلت الإغتيالات السياسية و إنت في يتنفسون بأقلامهم

    بعدين ياخي الإيام الفاتت شابكنا الفساد الفساد حتي قلنا ضمير الضو ود بلة غشيه الصحيان … قتل خليل فإذا بصحيفتكم ( السوداني ) تصدر عددين في يوم واحد لا فرق بين العددين إلا عنوان العدد الجديد ( إغتيال د. خليل ) بتاعين المكتبة عشان يبيعوا العدد الجديد لازم و فرض عين و غصباً عنك تشتري معاه العدد القديم … و في فساد يا أخوانا أكتر من كده ؟؟؟؟
    ياخي دايرنكم تحققوا لينا في الموضوع ده بشفافية و تورونا القال لي ناس المكتبات لازم العددين يتباعو مع بعض ده منو ؟؟؟

  4. اننا لا نلوم الاستاذ ضياء بلال فهو من معدن أصيل لكن هي ضرورات المعايش والضغوط التي مورست عليه وعلى أقلام أخرى جيدة بالبلاد بطشت بها الانقاذ التي تستحقر الصحفيين والصحافة.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..