التونسيات يقدن معركة الحداثة ضد طاعون الأسلمة

في ظل محدودية تأثير التيارات العلمانية في المجتمع، المرأة تتحول إلى رمز للدفاع عن الحرية وجدار منيع ضد خطر مشروع ظلامي داهم.
تونس ـ تقود التونسيات اللواتي يحتفلن بعيدهن السنوي الأربعاء 13 آب/ أغسطس معركة ضد الجماعات الإسلامية المتشددة ومشروعها السياسي والاجتماعي، حيث نجحن منذ ثورة يناير 2010 في توحيد صفوف قوى الحداثة في مواجهة مشروع “أسلمة” مؤسسات الدولة والمجتمع.
وفي ظل ضعف التيارات العلمانية ومحدودية تأثيرها في المجتمع، أصبحت المرأة التونسية رمزا للدفاع عن مكاسب الحداثة التي حققتها دولة الاستقلال في تونس منذ العام 1956 وهي اليوم تمثل جدارا منيعا ضد مشروع الإسلاميين الذي يسعى إلى العودة بتونس إلى ماض متخلف.
وتقول قوى الحداثة “إنها ستستميت في الدفاع عن حقوق المرأة وعن قانون الأحوال الشخصية الذي يمثل نتاج نضالات أجيال من الوطنيين والمصلحين والفقهاء المستنيرين”.
ووجدت نساء تونس في الانتخابات البرلمانية المزمع إجراؤها في اكتوبر/تشرين الثاني 2014 فرصة تاريخية للرد على المشروع الظلامي وذلك من خلال المشاركة المكثفة في القائمات الانتخابية للأحزاب السياسية العلمانية حيث بلغت نسبة مشاركتها حوالي 40 بالمئة.
وتنظر المرأة التونسية لتلك الانتخابات على أنها “معركة مصيرية وتاريخية” بين مشروعين، مشروع الحرية والديمقراطية ودولة المؤسسات التي تنبني على أساس قيم المواطنة، ومشروع الاستبداد والديكتاتورية الدينية ودولة الخلافة التي تنبني على أساس مفهوم الرعايا.
ويوم 13 آب/أغسطس هو تاريخ إصدار قانون الأحوال الشخصية عام 1956 غداة استقلال تونس عن الاستعمار الفرنسي.
وتحول قانون الأحوال الشخصية منذ إصداره على يد الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة إلى “رمز للحرية وللحداثة” التي تقودها الدولة الوطنية في حالة تكاد تكون فريدة من نوعها في العام العربي، حتى أن مفهوم الحداثة يرتبط في أذهان التونسيين بحرية المرأة وبحقها في المشاركة في الحياة العامة.
ويمنع قانون الأحوال الشخصية تعدد الزوجات ويقر الزواج المدني والطلاق عبر القضاء، كما ينص على أن المرأة تتمتع بحقوق المواطنة التي يكفلها الدستور.
ومكن القانون التونسيات من حق المشاركة في تنمية المجتمع إذ تمثل اليوم 30 بالمئة من القوى النشيطة.
وساهم تموقع النساء في مختلف المجالات وفي مراكز القرار الإداري والسياسي إلى بناء قوة اجتماعية نسوية تعتبر اليوم عقبة كأداء أمام دعاة “مجتمع الحريم”. فالمرأة التونسية تمثل اليوم 30 في المئة في سلك القضاء و51 في المئة في سلك التعليم و 48 في المئة في سلك المحاماة و60 في المئة من الصحفيين، كما نجحت في اكتساح مراكز القرار بنسبة 23 بالمئة.
ويقول التونسيون إنه رغم تجذر قانون الأحوال الشخصية في المجتمع سواء من حيث الثقافة أو من حيث الممارسة بعد أن اكتسحت المرأة التونسية مفاصل الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية والرياضية والاجتماعية، فإن هذه المكاسب باتت مهددة أمام تنامي سطوة جماعات الإسلام السياسي التي تستهدف مكاسب المرأة.
وخلال السنوات الثلاث الماضية ما انفكت القيادات السياسية تشدد على أن حقوق المرأة “مكاسب لا رجعة عنها” لافتين إلى أن الجماعات الإسلامية تعمل على تجريد نساء تونس من حقوقهن كمواطنات.
فقد حذر رئيس حركة “نداء تونس” الباجي قايد السبسي حركة النهضة قائلا، إن “قانون الأحوال الشخصية خط أحمر لا يمكن تجاوزه”.
وتابع “إننا سنواصل النضال من أجل مكاسب المرأة.. أحب من أحب وكره من كره.”
ولاحظ أنه “لا مجال بالعودة بتونس إلى عهود خلت فالمجتمع الذي لا يقوم على مشاركة فعلية مبنية على المساواة بين المرأة والرجل يكون مجتمعا مشلولا”.
ومن جهته دق أستاذ القانون الدستوري الصادق بلعيد ناقوس الخطر إزاء “إمكانية تراجع مكاسب المرأة”، مشددا على “أن خطر الارتداد عن المكاسب اليوم لا يتعلق بحقوق المرأة فقط، بل يتعلق بمكاسب الأنموذج المجتمعي في تونس الحديثة”.
ويشدد بلعيد على أن تونس تعيش “تهديدا جديا يتمثل في محاولة التقليص من حقوق المرأة”، ملاحظا أن “الخطر الأكبر يتمثل في مراجعة مجمل الحقوق والحريات المكتسبة من قبل المجتمع”.
وتؤكد النخب التونسية على أن حركة النهضة تستهدف قانون الأحوال الشخصية “ليس في ذاته فقط بل لأنه رمز أنموج مجتمع منفتح على القيم الكونية يكرس حقوق الإنسان ويرفض التمييز على أساس الجنس”.
وأعربت الحقوقية منية العابد عن خشيتها من أن “يؤدي غياب ثقافة حقيقية للمساواة” إلى “مغالطة المجتمع”.
ويخشى التونسيون من استفراد حركة النهضة بالقرار السياسي في حال فوزها في الانتخابات القادمة لتنسف مكاسب المرأة وتسلبها حقوق المواطنة.
وترى الأخصائية في علم الاجتماع سعاد التريكي أن المجتمع التونسي يتبنى كليا محتوى مجلة الأحوال الشخصية “غير أن غياب استراتيجية واضحة والاستماتة في الدفاع عن مكاسب المرأة، قد يهدد المنوال المجتمعي التونسي برمته”.
وتؤكد الأمينة العامة للحزب الجمهوري مية الجريبي أن “حقوق المرأة مهددة من قبل الجماعات الإسلامية، وهي تدعو النساء إلى اليقظة والدفاع عن حقوقهن وخاصة منها المساواة الكاملة مع الرجل في الحقوق والواجبات”.
وتطالب رئيسة جمعية “تونسنا” آمنة منيف التونسيين بـ”تحمل مسؤوليتهم التاريخية في ضمان الحريات العامة والخاصة والتصدي لمشروع حركة النهضة التي ترى فيه تراجعا عن البرامج والوعود الانتخابية التي قدمتها النهضة”، مشددة على أن “المساواة بين الرجل والمرأة لا تراجع عنها”.
ولم تخف راضية الدريدي، من جانبها، خشيتها من أن يشهد وضع المرأة التونسية تراجعا، مؤكدة أن الديمقراطية لا يمكن أن تتحقق دون ضمان حقوق وكرامة الإنسان ودون مساواة كاملة بين الجنسين.
وقالت “نحن نتخوف من إرساء دكتاتورية باسم الإسلام عبر إصدار قوانين جديدة”، مشيرة إلى أن نموذج المجتمع التي تدعو إليه الجماعات الإسلامية يتناقض مع ” طموحات الشعب التونسي الذي رفع شعارات الحرية والكرامة في ثورة 14 يناير/كانون الثاني 2011″.
وعبر رؤساء عدد من جمعيات المجتمع المدني عن دهشتهم مما أسموه “تجاذبات ومواقف عدد من السياسيين التي تستهدف ضرب مبدأ المساواة بين الجنسين وتعبر عن رفض تام للحقوق الإنسانية الكاملة للنساء وضرب لكرامتهن ومواطنتهن”.
أما الاتحاد العام التونسي للشغل الذي يعد أقوى مركزية نقابية فقد شدد على “ضرورة ضمان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للنساء ومنها حق الشغل والمساواة في الأجر والمعاملة وظروف العمل بعيدا عن جميع أشكال التمييز”. كما دعا إلى إدماج مبدأ حقوق النساء ضمن أولويات برامج الحكومة والأحزاب والجمعيات من أجل مزيد نشر ودعم قيم الحداثة والتسامح والتصدي للمحاولات الرامية للالتفاف على أهداف الثورة.
وأمام الجهود التي تقودها نساء تونس ضد مشروع الجماعات الإسلامية يحاول رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي طمأنة المجتمع بأن “النهضة لن تتراجع عن مبدأ المساواة بين الرجل والمرأة وتعتبرهما متكاملين في الحقوق والواجبات”، مضيفا أن “بعض الأطراف تفتعل معركة سياسية واهية وتدخل في إطار حسابات سياسية وتتناقض مع الموضوعية”.
غير أن القيادات السياسية والنخب العلمانية وغالبة التونسيين باتوا على اقتناع بأن النهضة تنتهج خطة في منتهى الخطورة ترمي إلى “أسلمة” الدولة والمجتمع من خلال زرع كوادرها في مفاصلهما”.
ويؤكد كثير من المعطيات الموضوعية إجماع التونسيين على الدفاع على حقوق المرأة. فقد كشف استطلاع للرأي أنجزه “مركز الدراسات المغاربية بتونس” و”مركز هولينغ للحوار الدولي” أن 70 فاصل 4 بالمئة التونسيين أكدوا عزم المرأة التونسية على الحفاظ على مكاسبها بغض النظر عن النظام السياسي القائم.
ويرى المراقبون أن مكاسب المرأة التونسية التي تعكس تعلق المجتمع بقيم الحرية والمساواة والمواطنة هي اليوم مهددة بالكامل من طرف الجماعات الإسلامية التي قويت شوكتها، وأن تونس مرشحة إلى أن تشهد انتكاسة في حقوق المرأة بعد انتشار مظاهر نموذج مجتمع غريب عن المجتمع التونسي مثل ارتداء النقاب.
غير أن هؤلاء المراقبين يشددون على أن مشروع الجماعات الإسلامية “لن يذهب بعيدا في تونس”، ويعزون ذلك إلى أن “المرأة التونسية تمثل اليوم قوة اجتماعية ورمزا للحرية والحداثة تعجز تلك الجماعات على تجريدها من حقوقها ومن دورها في مجتمع متفتح يرفض أصوات الانغلاق والتشدد”.
ميدل ايست أونلاين