المسؤول المثالي في الخيال الشعبي

عادل إبراهيم حمد

يضع الناس تصوراً للمسؤول الذي تؤول إليه وظيفة عامة، خاصة تلك التي تتصل بحياة الناس اليومية وخدمتهم. وهي في الغالب وظيفة سياسية.. تختلف الصورة من مجتمع إلى آخر. حسب الثقافة السائدة في هذا المجتمع أو ذاك؛ ولذا قد يحوز مسؤول على تقدير كبير من مواطنيه بنهج إداري ينكره آخرون تشربوا بثقافة مختلفة. فقد يكتفي مسؤول بالبقاء في مكتبه يضع الخطط ويستشير معاونيه. ولا يظهر قط في مهرجانات الخطابة الشعبية ولا يلبي الدعوات الاجتماعية الشخصية ولا يقابل وفداً إلا بمواعيد مسبقة. ولا يتهاون في الإجراءات الأمنية التي تضمن أمن مكتبه وسلامته الشخصية.. يعطي جل وقته للاجتماعات المخصصة لمقابلة العام الدراسي الجديد ومواجهة موسم الفيضان ووضع ميزانية الصحة وغيرها من مهام.. وجود مسؤول بهذا التصور في السودان يعني أن يشرع فور تجاوز كارثة الفيضان الأخيرة في تقييم الموقف لوضع خطة لمواجهة الفيضان القادم وتلافي أخطاء الموسم الحالي. ولا يرى داعياً لعقد لقاءات جماهيرية حول الموضوع الذي تحتاج معالجته لرؤى فنية تضطلع بها الوحدة الهندسية التابعة لإدارة المسؤول الكبير.. لكن هذه الصورة لا تروق للخيال الشعبي. فهذا مسؤول بارد -حسب رأي الشعبيين- لا يخالط الجماهير ولا يعرف المجاملة. ولا يتجاوب مع نبض الشارع. وقد يتهم بالتعالي والغطرسة.. ويفضل الحس الشعبي مسؤولاً آخر ليس بالضرورة أن يتابع آثار فيضان العام، بل لا يعيبه أن يظل ساكناً ينتظر الفيضان القادم؛ إذ يكفيه أنه وما إن يسمع بخبر الفيضان إلا ويظهر ببنطال قصير قديم يخوض المياه حاملاً (طورية) وقد تلطخ وجهه بالطين. ولا يحيط به حراس يحولون بينه وبين الجماهير. ويشرع على الفور في مشاركة الناس الحفريات والردميات. ثم يرتاح معهم قليلاً على البرش. يمازح هذا ويلاطف ذاك. ويا حبذا لو شاركهم الغناء (شيالاً) يحمس الشبان الذين (ترسوا البحر خيرسان). مقطع من أغنية سودانية حماسية نظمت خصيصاً لمواجهة فيضان عارم.

لا يأتي تفضيل صورة المسؤول الثاني من فراغ. فهي مرتبطة بثقافة الناس الذين ألفوا العمدة قريباً منهم يشاركهم كل صغيرة وكبيرة. وعرفوا شيخ الطريقة الذي يستشيرونه إذا أرادوا السفر أو الزواج أو شراء بهيمة. هذه هي الثقافة التي أكسبت سياسيين كباراً شعبيات جارفة لا لأي إنجاز أو فكرة غير أنهم أصحاب بيوت مفتوحة. يستقبلون فيها الناس ليلاً ونهاراً. ولا يعرف لهم أي رأي حول الديمقراطية والحكم اللامركزي والاقتصاد الحر وفصل الدين عن السياسة.. هو أمر يبعث جدلاً حول مخرج من هذا المأزق بحيث يتجاوز المجتمع هذا الطريقة البطيئة من دون خدش المزاج الشعبي.. فإذا اتفق الجميع على أن الصورة المفضلة الآن في المزاج الشعبي بطيئة الأثر في إحداث تقدم ملموس. فلا بد من وضع النموذج الآخر هدفاً (بعيداً) يتم الوصول إليه بالتدرج. مع الرهان على الآثار الإيجابية لهذا الخيار التي تجعل المواطن يفضلها على الخيار العاطفي الأول.. وبالتدرج تقوى طرق الإدارة الحديثة حيث الرؤى المتكاملة والخطط المحكمة. ونعني بالتدرج أن يستصحب المصلحون في مراحل التغيير الأولى المزاج الشعبي المستمد من ثقافة راسخة. فلا يقبع المسؤول في مكتب مغلق بدعوى التزامه بأسس الإدارة الحديثة. كما أنه غير مطالب بالوقوع كل يوم في خور والنوم كل ليلة في برش حتى يثبت أنه مع نبض الشارع ومع أهله الغبش.

? [email][email protected][/email] العرب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..