قراءة في المشهد السياسي.. السودان ..بلد في أوان (الكلام).. أو الاعتراف بـ(الإرهاق الخلاق) ونهاية السياسة

الخرطوم : شوقي عبد العظيم
في كل صباح -خلال الثمانية أشهر الماضية- يتضح بؤس المشهد السياسي.. وتعتوره هفوات وأخطاء..ويزداد تعقيدا على ماهو عليه.. ليسفر عن وجه كالح بشع، والمفارقة أن ذلك الواقع تجلى بعد إعلان ( مبادرة حوار وطني) في يناير الماضي ..وبدلا أن تفضي المبادرة إلى تهدئة الأجواء وحلحلة الخلافات وإزالة الاحتقانات حدث العكس تماما وكشفت عن الواقع الذي ذكرنا آنفا..في الأمس القريب نفض حزب البعث يده عن مائدة الحوار ومن قبل فعلها حزب الأمة القومي وقال للذين بقوا على المائدة (نحن السابقون وأنتم اللاحقون) .. لجنة (7+7) في كل يوم تنقص من جهة (7) المعارضة رقما حتى الأمس صارت (7+5) والكفة لم تعد متكافئة .. لا عددا ولا مضمونا .. الحوار ذاته يقع في جدل الأبجديات وكأن من يفترض بأنهم دهاقنة السياسة تلاميذ في أول مشوارهم السياسي .. الأحزاب التي تحاور – في قلب معمعة الحوار- تطالب بتأجيل الانتخابات وحكومة مرحلة وإلا ستنسحب مجتمعة..الحكومة تقول (لا) والأحزاب تمضي في الحوار .. غازي صلاح الدين يوضح أن له تحالفا جديدا كل ما يجمع بين نفره أنهم قبلوا بالجلوس على مائدة الحوار .. المؤتمر الشعبي يعلن أنه ليس ضمن الحلف الجديد ويتحدث بلهجة المؤتمر الوطني القديمة..إبراهيم الشيخ الحبيس منذ أشهر كل مطالبه انحصرت في أن يقدم لمحاكمة ..مريم الصادق سجينة في أم درمان على ذمة التحقيق ومطالبة حزبها بإطلاق سراحها لم تتعد مؤتمرا صحفيا وبيانا ..المهدي في منفاه الجديد بالقاهرة بعد أن التقى بالجبهة الثورية في باريس وأنجز في مخاض سريع (إعلان باريس) الذي رفضته الحكومة وإن كان يتضمن وقف اطلاق النار والرغبة في الحوار..مساعد الرئيس بروفيسور إبراهيم غندور يلتقي بالجبهة الثورية في برلين وهو يحفظ في هاتفة الذكي نسخة من (إعلان باريس) بعد أن قال للصحفيين في الخرطوم دون أن يرمش جفنه (لن نلتقي بالحركات المسلحة إلا في الدوحة أو أديس )..الحكومة تفتح الإعلام لمفوضية الانتخابات لتردد (الانتخابات في موعدها) المعارضة زهدت في ( إسقاط النظام) قولا وفعلا وربما نية.. والحرب في كردفان تنتظر نهاية الخريف ودارفور لا يسعفها قانون الطواريء والاقتصاد والغلاء وووو
أوان الكلام…
عندما خرج أمبيكي من مضيفة د.حسن الترابي الأمين العام لحزب المؤتمر الشعبي قال للصحفيين والكاميرات التي هجمت عليه ( أنا لن اتحدث أنا هنا لأستمع ..ثم أقدم رؤيتي بعد ذلك) ومؤكد أننا ظللنا لشهور طويلة نعيش حالة من (الثرثرة) السياسية لم تثمر أي نتائج على الواقع لا تحالفات حقيقية ولا اتفاقيات ولا تراضي على ممارسة سياسية الآن أو في المستقبل ..كل ما حدث منذ بداية عام (2014) كلام ثم كلام ثم كلام ..عبر الخطابات أو المؤتمرات الصحفية ..ومضون الكلام محاككات سياسية ..المعارضة تضع شروطا للحوار مع الحكومة أولها حكومة انتقالية وتهيئة المناخ للحوار وتحديد آليات وتأجيل الانتخابات ..الحكومة وعبر رئيس الجمهورية في خطاب يعلن أن (لا) حكومة انتقالية و(لا) تأجيل للانتخابات.. هنا تنقسم المعارضة على نفسها مجموعة تتنازل عن الاشتراطات وتنخرط في الحوار وتجلس على المائدة ..الآخرون لم يقبلوا بالحوار هكذا وابتعدوا لكنهم لا شغل لهم ? خلال الثمانية شهور الماضية ? سوى التمسك بشروطهم أو تبرير رفضهم لأجهزة الإعلام. وللدقة فقد اشتغلوا أيضا بالتعليق على مجريات الحوار..المفارقة أن المجتمع الدولي نفسه كان جزءا من هذا الحكي ويثرثر مع الذين يثرثرون ..سألت أحد الفاعلين في المجتمع الدولي عن ظاهرة الكلام والثرثرة والجدل التي تمسك بتلابيب المشهد.. الرجل فاجأني بإجابة مدهشة للغاية فقال ( هذه الملاحظة صحيحة مئة بالمئة ونحن نشارك في مرحلة الكلام في السودان بإرادتنا) طلبت منه أن يوضح فقال ( الحكومة عندما طرحت مبادرة الحوار الوطني تعلم أنها ستمر بمرحلة كلام طويلة وهي المرحلة التي يعلي فيها كل طرف سقف المطالبات لمرحلة قادمة هي مرحلة الفعل السياسي والتنفيذ، والأهم في ذلك المجتمع الدولي يشارك ويعلم أن مرحلة الكلام على الأقل تُبقي الأمور على ما هي عليه ويأمل أن تستقر الأوضاع في الإقليم حول السودان ثم يتفرغ لمرحلة ما بعد الكلام). المسؤول الدولي أشار إلى أن تأكيد الحكومة على قيام الانتخابات في موعدها ومطالبة المعارضة بحكومة انتقالية واستصحاب السياسيين للمحاربين المسلحين في طرحهم الآن كلها تندرج تحت بند تعلية السقوفات التفاوضية ..السؤال الأخير الذي طرحته عليه : هل ستطول مرحلة الكلام هذه؟ فأجاب ( لا أحد يعلم بالضبط متى ستنتهي ربما تتوقف في أي وقت عندما يقتنع كل طرف بأنه لا يمكن أن يكسب أكثر، والحقيقة الإيجابية في المشهد الآن أن الحكومة على قناعة كاملة أن الحكم بطريقة الـ(25) سنة الماضية لم يعد ممكنا لأسباب موضوعية).
غبن المهدي.. بؤس الحوار
الفعلة التي فعلها رئيس حزب الأمة القومي الصادق المهدي بتوقيعه اتفاقا مع الجبهة الثورية في باريس أفضل تفسير لها أنها مكايدة سياسية من الدرجة الأولى وأنها صادرة عن كظة وغبينة سياسية.. وهو أعلم الناس أن من(يفش غباينه بيحرق مداينه) وربما وطنه بالكامل ..ومعلوم أن الصادق نكل به في الحبس معتقلا بسبب كلام سياسي في خضم الحوار الذي ظل يدعو إليه وجلس إلى يمين البشير في قاعة الصداقة لإنجاحه ..غير أن فش الصادق لغباينه ? حال سلمنا بذلك- له دلالات عديدة أهمها أن المسألة السياسية بلغت مرحلة العبث وصعب عليها أن تتخطاها ..أولا ماذا جنت الحكومة من حبسها للصادق في هكذا ظروف ؟ وهي ذاتها لم تفلح في تقديمه لمحاكمة وأفرج عنه بوساطة وجودية وهي نهاية كان يوقن بها رجل الشارع.. ولكن إن كان لابد من إجابة على السؤال أعلاه سنقول إن تصرف الحكومة نتج عنه مباشرة إعلان باريس كما تنتج عنه معارض بوزن الصادق في القاهرة يلتقي كل يوم في القاهرة بأعضاء النادي الدولي في ظل حلف جديد نشط ضد الإسلام السياسي ..ثم دلالة أخرى وهي أن الحكومة باتت تفشل حتى في إدارة حوار وطني بتصرفات مهزوزة وغير ناضجة ..ولا يستبعد أحد بعد نموذج الصادق وابنته مريم أن يتسبب الحوار في مغابنة آخرين ثم يدفعهم غبنهم لفعلة ربما أنكأ من فعلة الصادق.. أي الحكومة بكل جلبتها تعجز عن إدارة حوار وإن كانت تحاور المعارضين طوال (25) سنة بأشكال مختلفة.
مريم .. الشيخ.. الغلاء
من قبل عشرة أيام ومريم الصادق المهدي حبيسة في سجن النساء لوجودها في باريس لحظة توقيع رئيس حزبها على اتفاق مع الجبهة الثورية..أحزاب المعارضة شجبت اعتقالها وأصدرت بيانات ..الأحزاب التي تحاور قالت إن اعتقالها نكوص على المواثيق ويهدد الحوار ..الأحزاب التي لا تحاور قالت بشماتة إن الحوار بلا ضمانات مستحيل ..حزبها لم يكن أفضل حالا من الأحزاب الأخرى لم يسير مظاهرة ولم تنزل جماهيره للشارع مطالبة بإطلاق سراح نائب الرئيس وكل الآخرين اكتفى بمؤتمر صحفي وبيان..سبق مريم إلى الحبس إبراهيم الشيخ رئيس حزب المؤتمر السوداني جريرته مطابقة لجريرة الصادق المهدي حين الاعتقال الأخير غير أن مجهودات اطلاق سراحه وجدت أذنا صماء وانحسرت أماني أنصاره أن يقدم لمحاكمة وحتى ذلك تماطلهم فيه الحكومة على حد قولهم وفي تقديرهم أن محاكمة إبراهيم الشيخ سينجم عنها حرج كبير للحكومة ..أما ما يرزح تحته سواد الناس غلاء فاحش غير مسبوق في السوق وكوارث طبيعية من السماء بعد جائحة الأمطار التي تتسبب في هدم المباني وسد الطرقات وإفساد البيئة ..وفي شأن الغلاء تواطأت الأحزاب السياسية على الصمت خلاف ما كان يحدث سابقا.
الحوار الوطني القديم
من يظن أن الحوار الوطني الذي دعا له رئيس الجمهورية ويشغل الناس حاليا هو الأول من نوعه غلطان ..في أيام الإنقاذ الأولى في نهاية سنة (89) دعا رئيس الجمهورية لحوار وطني بذات الاسم وبطبيعة الحال قاطعته جميع الأحزاب التي انقلب عليها النظام واحتشد فيه نفر بصفاتهم الشخصية كما كان يتردد وقتها ..ثم صارت مؤتمرات الحوار عادة ومنها مؤتمر كنانة ون وكنانة تو وفي ذات الوقت كثرت المؤتمرات الحوارية الثنائية.
الإرهاق الخلاق.. نهاية السياسة
أول من أقحم العبارة أعلاه في قاموس السياسة السودانية أستاذي د.عبد الله علي إبراهيم ، في مقال شهير جر عليه سخطا شديدا من جميع معارضي الانقاذ، وإن سألتني رأيي ?قبل أن نفكك العبارة ? أنه تعجل طرح رؤيته للإرهاق الخلاق في السياسة السودانية ..أما في حاضر المشهد السياسي فتتجلى مسألة الرهق السياسي ..إذ أن المؤتمر الوطني الحاكم موقن أكثر من أي وقت مضى أن استمراره في الحكم بات أمرا مستحيلا أكثر من المستحيلات السبعة ..
وأن المعالجات كلها التي استخدمها في السنوات الماضية وإن اتى بها مجتمعة لن تسعفه ليستمر وقد يؤدي استمراره إلى نتائج كارثية تصيبه خاصة قبل الآخرين ..الحقيقة أن د.عبدالله بذل رؤيته للناس قبل (24) سنة في مقال موسوم بـ””نحو إستراتيجية شاملة للوفاق الوطني في السودان: الحكومة تطفئ شمعة والمعارضة تلعن الظلام” ثم عاد في (1998) وشرحها في كتاب كامل بعنوان (الإرهاق الخلاق) سيغري أحدهم أن يقول : لما استمر الرهق (25) عاما بالتمام والكمال؟ ونقول إن هنالك عوامل جعلت كل طرف يتحامل على الرهق الذي أصابه وأظن أن ظهور البترول واتفاقية السلام ساعدت الحكومة كثيرا في الحفاظ على تماسكها بينما وجدت المعارضة نفسها مأخوذة في تحالفات جماعية وثنائية مثل اتفاقية القاهرة وغيرها. أما اليوم وبعد أن تواضع المؤتمر الوطني الحاكم وطلب الآخرين لحوار في ظروف اقتصادية بالغة السوء والتردي وتفشي ظاهرة الفساد في أوساط الخدمة المدنية بجانب فشله في تحقيق سلام واستقرار في دارفور أو في اي منطقة انطلقت فيها الحرب وبعد أن سد الافق السياسي أمامه دون أن تلوح في الأفق بشائر فرج أظن أنه آن أوان اعترافه بالرهق ..
وأن يقتنع بأن العض على السلطة هكذا لن يستمر أما المعارضة والتي لا تملك من كروت الضغط سوى الجماهير على الأقل من الناحية النظرية سئمت الجماهير محاككتها التي لم تؤذ النظام بالقدر التي تأمل الجماهير في تبديله ..هذه هي رؤية الإرهاق الخلاق وإن كان ذلك كذلك يجب أن يذعن الجميع للمساومة السياسية التي تخصص ديباجتها لمفهوم الحفاظ على الوطن..بعد ذلك استلف د.عبدالله عبارة للكاتب صاموئيل هنتنغتون، من جامعة هارفارد الذي يرى أن السياسة لم تعد تلامس معاش الناس، الامر الذي يتطلب أن تواجه المجتمعات همومها مجردة من السياسة ..
إذاً علينا أن نوقف حالة الثرثرة ونعترف بأن المحاككة السياسية فاشلة وندلف فورا إلى مساومة ولا نضيع وقت البلاد فقد ضاع منه الكثير.
[email protected]
تحليل وتفكيك موفق للراهن وخلاصة ستجلب للاستاذ شوقي كثيرا من اللعنات… اذا كانت السياسة فن الممكن كما يقال.. فان المعارضة التي لم تتلقف فرصة عرض الحوار في بداياته واهدرت فرصة ثمينة كانت ستوفر كثيرا من الرهق علي الشعب والبلد.. مما ادي لانتصار صقور المنظومة الحاكمة الرافضة اصلا للحوار في صراع مراكز القوي داخل المؤتمر الوطني… رفضت المعارضة فكرة الحوار طارحة شروطها المسبقة بل بلغ الشطط باي عيسي ان يفهم النائب الاول السابق بان ما يريدونه هو حوار يؤدي الي الغاء هم (الطرف الحاكم )من المنظومة السياسية المستقبلية!!! علما بان ابوعيسي استدرك وتراجع لاحقا في لقائه بالبي بي سي عن ذلك … ما يحير حقيقة ان قراءة المعارضة للواقع بعيدة تماما عن الواقع اذا جاز التعبير..فهي عاجزة عن تحريك الشارع وصناعة انتفاضة.. لاسباب موضوعية تتعلق بالآليات (من نقابات ومنظمات مجتمع مدني ) كما انها لم تتفق بعد علي برنامج واضح لليوم التالي.. عقب رحيل النظام في اغلب الظن قضاءا وقدرااو انتحارا( بالاخطاء القاتلة) .. لا بفعل فاعل.. كما ان فتح الخرطوم بعمل عسكري للجبهة الثورية وتغيير النظام هكذا امر اعتقد ان العقلاء حتي في الجبهة الثورية مؤمنون باستحالته فالسودان ليس يوغندا والحالة هذه فان رفض الحوار في بداية طرحه غير موفق اطلاقا.. وقد فات اوان ارجاع عقارب الساعة الي الوراء بكل اسف نتيجة للقارءة الخاطئة للواقع وميزان القوي.