صناعة الفخار في السودان.. التزام بالتراث يزدهر على أيدي البسطاء

الخرطوم: سهام صالح
على ضفاف النيل الجميل في مدينة أم درمان وفي حي «القماير» على بعد أقل من 10 كيلومترات من وسط العاصمة الخرطوم، تبدأ حكايات عشق السودانيين للفخار المصنوع من طمي النيل المترسب بكثافة على ضفتي النيل مكونا جزرا من الفن الجميل، وتجارة ازدهرت على أيدي البسطاء لتزين بيوت السودانيين بأطيافهم كافة. لا يقتصر استخدام الفخار في السودان على تزيين وديكور المنازل فقط، إنما هو أسلوب حياة، فما زال «الزير» وعاء مصنوعا من الفخار لحفظ الماء وتبريده، يحتل جزء كبيرا من حياة السودانيين، خاصة البسطاء منهم.. لا يخلو مسجد أو مدرسة في السودان من «الزير» الذي يمتاز بتبريد الماء من خلال الهواء الملتصق بجداره؛ مما يؤدي إلى برودة الماء بدرجة مناسبة للشرب.
يقول فضل الله الطاهر، تاجر ومالك محل تصنيع فخار، إن «(الزير) يشكل العمود الفقري في صناعة الفخار في السودان، وخصوصا لاعتقاد السودانيين أن ماء (الزير) ماء (مفلتر) من الشوائب بشكل طبيعي»، ويضيف فضل الله أن «حجم (الزير) يتناسب مع غرض الاستخدام، فعلى سبيل المثال إذا كان سيستخدم في سقي أبناء السبيل يفضل استخدام (الزير) الكامل (27 بوصة) أو (الزير) النص (24 بوصة)، أما في المنازل تفضل السيدات (الزير) الربع (15 بوصة)».
ويوضح فضل الله أن «المزهريات» (أوعية الزهور والشجيرات الصغيرة) تحتل المرتبة الثانية في سوق الفخار، قائلا: «الأصيص المصنوع من الفخار أشكال وأنواع، منها المرتبط بالتراث، ومنها المرتبط بالأشكال العصرية الحديثة المنسجمة مع حياة اليوم مثل الكاسات للزبائن المغرمين بالموضة، يأتي البعض ويحاول إدخال تعديلات تناسب ذوقه.
من جهته، يرى عبد العظيم محمد (52 سنة)، تاجر فخار بحي أبو رووف بمدينة أم درمان، أنه رغم احتفاظ الفخار بمكانته في السودان، فإن «كثيرا من أدوات الفخار بدأ يقل الطلب عليها، وأخرى بدأت في الانقراض مثل (الدورماية)، وهي وعاء لحفظ الطعام، و(الدولق) إناء يوضع فيه ماء مخمر، و(الواردة) تستخدم في جلب الماء من النيل».
وأيضا هناك بعض الأوعية الفخارية التي تصنع لحفظ النقود والمقتنيات الثمينة، والغريب في الأمر أن اقتناء الفخار كان يقتصر على الأغنياء لحفظ أشيائهم، ومع تطور الحياة بدأ البسطاء يعتمدون على الفخار، وخصوصا في بعض القرى البسيطة.
ويؤكد عبد العظيم محمد أن «بعض أدوات الفخار حافظت على الهوية التراثية السودانية مثل المباخر التي لم تتأثر مهما كانت المتغيرات قوية، مثل (المبخر) التقليدي الذي يحتل مكانة مميزة في قلب سيدة المنزل».
يسترسل عبد العظيم محمد قائلا: «إن النساء في السودان لم يتمكن بالموروث من الفخار شكليا إنما ربطنا الماضي بالحاضر من خلال استحداث ما يسمي (بالدخانة)؛ وهي عبارة عن وعاء يوضع فيه القليل من الجمر مع خشب الطلح، ويستخدم مثل (الساونا) الغرض منها الاهتمام بالبشرة، وإعطاءها لونا محببا. أيضا تهتم النساء بتفاصيل الزفاف ويقمن بوضع الأخشاب العطرية والعطور التقليدية فيما يعرف (بالحق)؛ وهو وعاء فخاري ملون ما زال يحتفظ بشكله التراثي ويستخدم أيضا في تزيين صينية الحناء للعروسين».
لم ترتبط صناعة الفخار بالأماكن التي تحاذي النيل فقط، إذا تجاوزتها إلى بعض القرى التي تحتفظ بماء الأمطار فيما يسمى «بالحيبة»؛ وهي عبارة عن حفر عميق يتبخر منها ماء المطر مخلفة طينا أسود يصنع منه الفخار مستقبلا.
وتعرف أماكن صنع الفخار في السودان بـ«الكمائن»، ونراها منتشرة ومتناثرة في حي «القماير» في أم درمان التي يعمل معظم قاطنية في صناعة الفخار، وهم من ذوي الدخول الضعيفة. البيوت ما زالت مصنوعة من الطين وتبدو شبه مهجورة، لكنها تعج بالحياة من خلال شباب يحملون التراب ويخلطونه بالماء ويوقدون الفحم في «الكمائن» تمهيدا لآخر مرحلة في التصنيع.
وهناك الكثير من معلمي صناعة الفخار في السودان، منهم عويس رجب (67 سنة)، قضى معظم حياته في هذه الصناعة، حدثنا عن خبرته، قائلا: «إن طمي النيل في السودان هو الأساس في صناعة الفخار بعكس بقية الدول العربية؛ حيث يستخرج الطين من باطن الأرض، وهو ما يصنع منه الخزف الآن. تبدأ رحلة الفخار من خلط تراب الطمي المصفى مع تراب أحمر اللون بالماء، ويترك لمدة يوم يتخمر، ثم يصنع، ويجرى تشكيل الطين عن طريق آلة تدار بالأرجل، ثم يترك الشكل مدة 3 أيام حتى يتشرب الماء في الظل ليوضع في الشمس مدة يوم كامل، ثم يوضع في (الكمينة)؛ وهي عبارة عن فرن حتى يحترق ويتماسك».
يضيف الحاج عويس رجب أن «تصنيع الفخار بشكل جيد يعتمد على خبرة الشخص من الصغر، ومن أشهر السودانيين الذين عملوا في صناعة الفخار (بيت القباني) في (حي العرب) بمدينة أم درمان، والحاج مختار مضوي الذي ما زال أبناؤه يرثون صنعته».
يشتكي الحاج عويس من أن صناعة الفخار في السودان ما زالت تقليدية؛ حيث الاعتماد على الآلات تدار بالأيدي أو الأرجل، في حين أنه جرى اختراع ماكينات تعمل بالكهرباء حتى تسهل على العامل، ويستطيع إنجاز أكبر عدد من الأدوات الفخارية، يجرى تلوينها بالألوان الطبيعية. ويعد موسم الخريف من أسوأ الفصول؛ حيث لا يستطيع أحد إنتاج أي شيء من الفخار؛ مما يتسبب في خسارة لمالكي المحل والعمال».
وعن الجديد في عالم الفخار، يقول الحاج عويس رجب: «لا جديد سوى طلبات الزبائن المخصوصة، بعضهم يكون له تصور خاص في القطعة التي يريد، وغالبا ما تكون لها علاقة بديكور المنزل أو الحدائق، مثل الفازات أو القلل والنوافير».
وعن قصر عمر الأدوات المصنوعة من الفخار، يقول رجب «إن الفخار يمكن أن يعيش 100 عام إذا لم يكن هناك عيب في الصناعة أو لم يجر كسره عمدا». وحتى يوضح فكرته قال إن «في مصر توجد (أزيار) عمرها 70 سنة، وآثار فرعونية مصنوعة من الفخار بقيت آلاف السنين».
الحديث عن صناعة الفخار في السودان مرتبط بالنساء لأنهن الزبون الرئيس لسوق الفخار الممتد على ضفاف النيل في حي أبو رووف، وتقول نفيسة سعد (ربة منزل): «أتيت لسوق الفخار لحاجتي لمزهريات من الفخار، لكن تحمل شكل عصري أريدها أن تكون ملونة بالقليتر؛ وهو مادة لامعة، وهذه هي الموضة الدارجة حاليا»، وتسترسل السيدة نفيسة قائلة: «باعتبار المرأة مسؤولة عن ديكور المنزل، فأنا أحضر كثيرا لشراء أصيص للزهور ومباخر للبخور السوداني بأحجامها المختلفة»، وعن الأسعار، تقول نفيسة سعد إنها مناسبة وفي متناول اليد.
ويبقي الفخار المسقي بمياه النيل وعرق البسطاء في السودان تجارة رائجة رغم الحداثة في كل شؤون السودانيين، لكنهم استطاعوا إعادة تفعيله مع متطلبات حياتهم.
الشرف الاوسط
beutiful mai work