عاصمة لا تتنفس: الخرطوم.. مدينة مثقوبة الرئتين

الخرطوم – محمد عبد الباقي
عندما وعد أطفاله بالخروج في رحلة يقضونها بالحدائق العامة بالخرطوم، لم يكن يتوقع (أحمد عبد اللطيف) المعلم بالمرحلة الثانوية أنه وضع نفسه أمام تحدٍّ يفوق قدرته المالية المتواضعة قياساً بوظيفته معلماً محدود الدخل، ولكنه اكتشف هذا المأزق عندما طُلب منه في بوابة الحديقة التي قصدها دفع ثلاثة جنيهات لكل فرد من أسرته المكونة من خمسة أطفال ووالدتهم. المبلغ المطلوب قد يبدو ضئيلاً ولا يضعف ميزانية أحد. يمكن أن يكون هذا منطقياً بعض الشيء ومقبولاً، إذا لم يكن بطل القصة هو الأستاذ (أحمد عبد اللطيف) الذي يتقاضى مرتباً يكاد ينتهي عند باب منزل الإيجار الذي يقطنه.
الذي لم تكن فجيعته في صرفه مرتب نصف شهر كامل على رحلة لم تستمر أكثر من ست ساعات قضاها داخل حديقة متواضعة فحسب، ولكن ألمه الحقيقي يرجع إلى أنه لم يجد مكاناً يسعه داخل تلك الحديقة مع أطفاله، فتقاسم ظل شجرة مع أسرة وجدها تجلس قبله.
فرحه لم تكتمل
قبل أقل من عشرة أعوام تقريباً، كانت توجد أكثر من حديقة عامة بالخرطوم، أشهرها حدائق ستة أبريل بالمقرن، التي كانت تمثل الحدائق الأكثر شعبية لدى الأسر والطلاب، فهي دائماً مكتظة بالزوار من كافة الأعمار ومن الجنسين كذلك، نالت هذه الفضيلة لموقعها المتميز عند ملتقى أكثر من خط مواصلات عامة، مما جعل الوصول إليها ومغادرتها في غاية اليسر، بجانب هذا كانت حدائق ستة أبريل تتميز بخدمات لا بأس بها ووسائل ترفيه أفضل من غيرها، حيث كانت تضم أنواعاً محددة من الحيوانات كالغزالان والنمور والنعام والقرود، قيل إنها ورثتها من حديقة الحيوانات التي كانت تحتل موقعاً متميزاً على شاطئ النيل الأزرق قبل إزالتها لتفسح المكان للفندق الليبي الذي لا زال متنازعاً بين اسمين (برج الفاتح، وفندق كرونثيا).
لم يستمر استقرار ستة أبريل طويلاً، فتمت إزالت سورها الخارجي، وأُوقفت التذاكر بحجة أن وسائل الترفيه حق، ويجب أن تكون مفتوحة للعامة دون رسوم أو رقابة، وجد قرار تحولها ذلك صدىً كبيراً لدى المواطنين وخاصة طلاب الجامعات التي تتمركز بوسط الخرطوم، كما أفاد (الزين محمد) الذي كان يدرس حينها بجامعة النيلين كلية الاقتصاد، فأوضح أن الطلاب استبشروا بتلك اللفتة، ولكنها لم تستمر طويلاً، فأغلقت الحدائق بصورة أشد قسوة مما كانت عليه وارتفعت قيمة تذكرة الدخول أكثر من مرة، فأصبحت حكراً على المقتدرين فقط.
أم درمان على ذات الخطى
ليست حدائق الخرطوم وحدها ما تعرضت للإزالة بغرض فتحها للعامة ومن ثم الاحتكار، بل حدائق أم درمان – على قلتها – تعرضت لذات المصير بحسب (التوم مبارك) من مواطني بيت المال، فهو يتذكر أن القرار كان شاملاً لكل الحدائق بولاية الخرطوم، فتم فتح التي كانت مغلقة وأُنشئت أخرى جديدة منها حدائق الملازمين وشارع النيل قبالة اتحاد الفنانين وحدائق الفتيحاب، فهذه الحدائق صرفت عليها مبالغ طائلة من الخزينة العامة في الفترة التي كان يتولى فيها (الفاتح عزالدين) رئاسة معتمدية محلية أم درمان، وبعد اكتمال إنشائها أصبحت مفتوحة لعامة المواطنين، إلا أن هذا لم يستمر طويلاً، فعادت محلية أم درمان ومنحتها لمستثمرين لم يضيفوا لها جديداً، وإنما قاموا بتطويرها فقط، ووضعوا عليها رسوماً مالية تذهب لمصالحهم، ولهذا خسرت الخزينة العامة أموالاً طائلة وخسر المواطن الأماكن التي كان يرتادها منذ عشرات السنوات دون رسوم.
عاصمة لا تتنفس
وتأسف (التوم مبارك) على الحال الذي آلت إليها الحدائق العامة بالعاصمة التي قال إنها كانت في حقب سابقة تمثل أحد أهم الأوجه الجمالية لها، ولكنها تدهورت وتراجعت بصورة جعلت المواطن لا يجد مكاناً يقضي به ساعات محدودة خارج البيت، خاصة بعد أن أصبحت الحدائق – على قلتها – ملكاً لأشخاص لم يضيفوا لها ما يجعلها جاذبة واكتفوا بما وجدوه فيها من منشآت وفرضوا عليها رسوماً باهظة جعلت المواطنين يفضلون عليها البقاء في منازلهم أو الطواف على المواقع القليلة التي لم تحجبها المباني بعد على شاطئ النيل. وأشار (التوم) إلى أن الخرطوم تكاد تصبح العاصمة الوحيدة بعد مقديشو عاصمة الصومال (قالها ضاحكاً) التي لا توجد بها متنزهات وحدائق عامة يأوي إليها المواطنون والضيوف على حدٍّ سواء، واستغرب أن تخوض حكومة ولاية الخرطوم في أمر السياحة، وهي لا تمتلك متنزهاً واحداً أو حديقة عامة يستطيع المواطن أن يحصل فيها على خدمات جيدة مقابل الأموال التي يدفعها!!
اليوم التالي
والسندويتش ( طعمية) ب5 جنيهات بدعوى ان المكان سياحي