صورة باهرة وسيرة باذخة: عون الشريف قاسم.. التنقيب في مسيرة زاخرة

بحري – عودة سعد

عندما يُذكر الاسم مجرداً تتزاحم في الأخيلة مواقف تجعل محاولة المرء الإمساك بخيوط خطو الرجل عسيرة وعصية، فقد عاش وسط مجتمعه، وكان عوناً حقيقياً للمحتاج والضعيف وذوي الحاجة وشريفاً شرف الحسب والنسب والعلم.

يقول ابنه الدكتور (أمين عون الشريف) إن والده وُلد في حلفايا الملوك في العام١٩٣٣م، وتلقى تعليمة بمدرسة الحلفايا الأولية ودرس الوسطى بمدرسة بحري الأميرية والثانوية بوادي سيدنا، وهو ابن مهاجر يمني عاش بالسودان وتزوج من حلفاية الملوك بامرأة من الهوارة الهنوناب.

معاينة على إيقاع دقات القلب

ويستطرد (أمين): قُبل والدي بكلية الطب جامعة الخرطوم ولكن استيقظ متأخراً ولم يلحق بالبص (الوحيد)، فاضطر للذهاب على قدميه حتى لا يتأخر على المعاينة، وعند وصوله أجرى عليه الفحص الطبي طبيب إنجليزي، فلاحظ سرعة دقات قلبه، فاعتبر أنه مصاب بعلة ما، فلم يتم قبوله وتم تحويله لكلية الآداب، ولعل إرادة الله عزَّ وجلَّ هي التي قادته إلى دراسة الفكر والفلسفة والحضارة والثقافة، ليصبح طبيباً يداوي آلام المجتمع، ويحمل حكمته يحارب بها العادات الدخيلة على المجتمع.

سيرة أكاديمية ومهنية حافلة

حاز الراحل (عون الشريف) على درجة البكالريوس بمرتبة الشرف من كلية الآداب، وتم تعيينه محاضراً بجامعة الخرطوم قسم اللغة العربية، ثم أُبتعث إلى جامعة لندن (معهد الدراسات الشرقية) لنيل الماجستير ليعود بعد ذلك إلى بلاده محاضراً في ذات الجامعة، ثم لاحقاً نال درجة الدكتوراه من جامعة ادنبرا بإسكتلندا (١٩٦٧م)، فترقى رئيساً لقسم الترجمة بجامعة الخرطوم.

اختارته حكومة مايو وزيراً للشؤون الدينية والأوقاف في العام ١٩٧١م، فكان أول سوداني يتسنم هذه الوزارة الحديثة، وأنفق على سدتها عشر سنوات، إلى أن عُيِّن مديراً لجامعة أم درمان الإسلامية كما ترأس إدارة صحيفة الصحافة.

في حكايته (مايو)

في تلك الفترة انعقد ما عُرف بالتكامل بين مصر والسودان، وعلى إثره أصدرت مجلة (الوادي) شراكه بين الصحافة السودانية وروز يوسف المصرية، فكان رئيساً لتحريرها.

يواصل (أمين) سرد سيرة والده الراحل، فيشير إلى أنه انضم إلى الاتحاد الاشتراكي السوداني (حزب مايو) عضواً في لجنته المركزية، وفي الأثناء عمل محاضرا بمعهد الدراسات العليا للطلاب من غير العرب الذين يريدون التخصص في اللغة العربية وتم تعيينه لاحقاً مديراً للمعهد، وبعد ذلك تم إعفاؤه من منصبه ،وعمل معهم أستاذاً متعاوناً حتى وفاته.

من مركز إلى مكتبة

من جهته، كشف ابنه الآخر (محمد عون) المحاضر بجامعة أم درمان الأهلية عن أن والده تسنم إدارتها، وأشار إلى إدارة الجامعة الحالية أنشأت مركزاً بحثياً يحمل اسمه ويخلد ذكراه، كان يفترض أن يقوم على مبنى قائم بذاته، لكن نسبة للتكاليف تم تشييده في أحد مباني الجامعة وانعقدت به دورة للغات لعدد من الإعلاميين والنقاد وكان ذلك في عهد البروفيسور (كرار بشير عبادي) ثم تم تحويل المركز إلى شارع الأربعين وهو آل إلى كلية الطب، فقط تبقت مكتبته داخل الجامعة تحمل اسمه.

الثقافة والركشات في أرض واحدة

أشار (محمد) إلى أن والده عندما عمل مديراً لجامعة أم درمان الأهلية، لم يأخذ أجراً على ذلك بل كان متطوعاً، وقد تبرع له مدير المحلية بقطعة أرض لإنشاء مركز ثقافي، ولكن لم يهتم بها أحد، فتم تحويلها موقفاً للركشات المُخالفة لقانون المرور.

بعد رحيله أطلق اسمه على مدرسة الحلفايا وعلى أحد شوارع الحي، وحدث ذلك في عهد الوالي السابق المتعافي.

المسرح القضية

لم يكن المسرح عند الراحل (عون الشريف قاسم) مجرد ملهاة بل كان يمثل قضية لذلك كان من المؤسسين الأوائل لمسرح الفنان خوجلي عثمان بنادي الحلفايا، فقد تطرق عبره إلى الكثير من العادات والتقاليد التي تصاحب الأفراح والأتراح، مثل عادات الزواج المرهقة، والتخفيف من أعباء الأتراح ورفع (الفراش) في يوم واحد، وكان دائم التفكير في ما آلت إليه المقابر من ظلام واستباحه لحرمة الموتى، فترأس لجنة المقابر التي نهضت بتسويرها وإنارتها.

أوسمة ونياشين وشهادات تقديرية

إلى ذلك كله، وبحسب (محمد عون)، فقد كانت الرياضة تمثل أحد اهتماماته، فكان رئيساً لمجلس أمناء نادي الحلفايا وشكل حضوراً فاعلاً كانت له نتائجه كبيرة، كما كان شخصياً يمارس رياضة المشي ويسير لمسافات ليست بالقصيرة، كما كان يهتم بالعمل الثقافي خاصة في الندوات، ونال ما نال من جوائز وشهادات تقديرية وأوسمة داخل السودان وخارجه، فنال وسام العلم من قبل الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، ونال كذلك وسام الدستور من المشير جعفر محمد نميري، والكثير منها، ومن مؤلفاته (حلفاية الملوك التاريخ والبشر)، (موسوعة الأسماء والقبائل والأماكن في السودان)، (قاموس اللهجة العامية والقبائل في السودان)، وقرابة السبعين كتابا في الثقافة الإسلامية، من أبرزها في (معركة التراث).

صورة باهرة

يستطرد محمد قائلاً: في عام٢٠٠٤م وجهت إليه دعوة من قبل خادم الحرمين الشريفين لأداء فريضة الحج وفي العام٢٠٠٥م بدأ يشكو من ألم في صدره، وبعد أن تمكن منه فاضت روحه الطاهرة بمستشفى ساهرون، وكان من المفترض وصول طائرة خاصة من قبل خادم الحرمين لنقله للمملكة لتلقي العلاج، ولكن إرادة المولى عز وجل كانت الأسرع، فتوفي عن عمر يناهز السبعين عاماً.

كان رحمة الله إنساناً متمدناً يتقن فن التعامل مع كل الناس، لا فرق لديه أن يجلس على الوثير أو على الحصير، ولا حاجز بينه وبين السفير أو الوزير أو المدير أو الخفير، الكل عنده سواء تجمعهم الإنسانية، وهو عندهم ذلك الإنسان الحضاري المثقف العالم المحبوب.

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. الله يرحمه ويغفر له وهو من القلائل الذين كتبوا وحاضروا وهذه سمه نادرة لابناء جيله وانا زاملت ابنه امير بمدرسة بري الاميرية وكان عنوان مشرف لوالده

  2. الله يرحمه ويحسن اليه ويجزيه خيرا على ما قدم من اعمال كثيرة ومفيدة..
    اين بروفسورات الكيزان الكذابين وأين انتاجهم العلمي والادبي؟؟؟
    أمثال دكتور الحبر وخلافه؟؟؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..