الصورة أصدق إنباءً من الكلمة: تاريخ القضارف.. التسرب من بين أصابع الأرشيف

القضارف ? خضر مسعود
أكثر من ثلاثين عاماً أنفقها (مصطفى) في التوثيق للحياة بالقضارف عبر الصورة الفوتوغرافية، حيث بدأ رحلته مع التوثيق إبان حكومة الرئيس نميري، لكنه الآن يجلس الساعات الطوال بشعره الأشيب ليروي تاريخ ما صعب عليهم تأريخه. اتخذ (مصطفى محمد أحمد) من مخزنٍ مهجور حافظة للصور، إذ تتكدس فيه تصاوير عديدة ومهمة، وبالطبع تبدو حصيلته من التوثيق عرضة للتلف في أي وقت.
مكتب الإعلام
يقول (مصطفى) إن قسم التصوير الفوتغرافي التابع لمكتب الثقافة والإعلام ببلدية القضارف (مديرية كسلا) سابقاً، أُسس في 1969م، بغرض توثيق الأحداث السياسية والاجتماعية والثقافية التي تنتظم المدينة. لكن (مصطفى) بدا حزيناً وهو يسرد مكونات المكتب التي تلاشت، وهو يحكي قصة مكتب الإعلام الذي أنفق جل سنيه بين ظهرانيه، يقول: كان قسم التصوير الفوتغرافي يضم (8) أشخاص هم (مصور، مساعد مصور، 2 فني تصوير، فني معمل، رصد، أرشيف ). ويضيف: المكتب كان جزءاً من منظومة مكتب الإعلام، ويستطرد قائلاً: تم تعيني مصوراً في عهد المفتش (محمد أحمد عوض الكريم أبو سن)، وعملت وضابط إعلام في آن، حينها كان المكتب يضم أقساماً عديدة مثل (التصوير، المخاطبة الجماهيرية، الكتاب وقسم التحرير) كل قسم بمهام تختلف عن الآخر، فقسم المخاطبة الجماهيرية يضطلع بتجهيز مكان المخاطبة ومكبرات الصوت (الميكروفونات)، بينما يقوم قسم الكتاب بتدوين المحضر ومن ثم تسليمه إلى قسم التحرير. ومضى (مصطفى) قائلاً: كانت هناك إصدارة دورية يحررها المكتب تنشر كل الأحداث والأخبار بالمنطقة، أما مهمتنا في قسم التصوير فلم تقتصر على التصوير فقط بل التحميض والطباعة جانب الأرشفة، وكنا نرسل نسخ منها للمركز لتحفظ بأرشيف وزارة الثقافة، ونمد كل الصحف بالصور، وكنا نخرج إلى الأرياف لالتقاط العديد من الصور التي توثق وتؤرخ للحياة العامة هناك.
أرشيف مبعثر
ويمضي مصطفى سارداً قصصاً وحكايات عن صور أخذت في أماكن وأزمان سابقة، لكن الحسرة تنتابه كلما عرج بالحديث عن ما آل إليه حال قسم التصوير الفوتغرافي، حيث يرى أن أولى خطوات انهيار القسم في نهاية التسعينيات، عندما تم ضم مكتب الثقافة والإعلام بولاية القضارف إلى وزارة التربية والتوجية، ويرجع ذلك لعدم دراية المسؤولين بالوزارة بأهمية القسم. ويضيف بأن انفصال بلدية القضارف عن مديرية كسلا لتصبح ولاية أثر على العمل بالقسم. يعود مصطفى قليلاً بقوله: كل الموظفين كانوا يتبعون للوزارة الاتحادية وكانت رواتبهم تأتي من هناك، وكانت وزارة الثقافة حريصة على مكاتبها بالولايات إلى أن جاء مؤتمر وزراء الثقافة والإعلام بالولايات في العام 2002م، حيث حولت تبعية هذه المكاتب للولايات، وتم إهمالها من قبل حكومات الولايات، حيث تم تضمين مكتب الثقافة والإعلام إلى وزارة الرعاية الاجتماعية بالقضارف، حيث تراجع عملنا خاصة بعد أن خصص كل وزير مكتب إعلام بالوزارة، حينها اهتممنا بتوثيق الأحداث وأرشفتها لتصبح أثراً تاريخياً للولاية، وبتعاقب الوزراء والمديرين، أهمل قسم التصوير تماماً، وتم الاستغناء عن الاستديو وماكينات التحميض والطباعة، ولم يتبق إلا الأرشيف الذي أهمل هو الآخر، ولم يعد أحد يهتم به وهو الآن مبعثر في مخزن، أتلفته العوامل الطبيعية والفئران.
توثيق حملة الإبادة (شريعة نميري)
صالح فضل الوالي عجلاوي (المصور) سبق سالفه بالعمل بقسم التصوير الفوتغرافي بمكتب الثقافة والإعلام بالقضارف بعامين، حيث عين في العام 1982م، يقول عجلاوي إن أهم الأحداث التي شهدها كمصور هي تطبيق قوانين سبتمبر في العام 1983م عندما طبقت الشريعة وأبيدت الخمور. ويضيف أن عند صدور القانون في العام 1983م أمرت المحكمة العليا بإغلاق جميع البارات بالقضارف ومصادرة الخمور التي تمت ابادتها، كان هو المصور الموجود بمكتب الإعلام، وتم إرساله لتصوير حملة الإبادة التي وثق لها بعدد من الصور.
عجلاوي الذي نقل بعد عامين من تعيينه بقسم التصوير الفوتغرافي بالقضارف إلى العاصمة الخرطوم، يقول إن قسم التصوير لم يكن يوثق الأحداث فقط بل كان يؤرخ بالصورة لكل الأحداث والحقب التاريخية التي تعاقبت على مدينة القضارف، ويزيد هناك صورة نادرة لزيارة السناتور جورج بوش الأب إلى معسكرات النازحين بالقضارف في العام 1983م كانت ضمن الأرشيف، لكنها اختفت بسبب الإهمال، ويزيد أن غياب المنهجية في حفظ هذا الأرشيف يعد بتراً للتاريخ وقطعاً للتسلسل الأحداث التي وثق لها مكتب الثقافة والإعلام منذ مطلع الستينيات. يضيف عجلاوي بأن المكتب بالإضافة إلى عملة في توثيق الأحداث كان المصورون يحرصون على تصوير المعالم الأثرية والمناطق المختلفة والفلكلور من مشغولات يدوية وغيرها، بجانب التركيز على تصوير شخصيات ونماذج من القبائل الموجودة في طبغرافيا المنطقة، ومضى يقول: إن كل الصور التي تلتقط كنا نحتفظ بنسخة منها ونرسل أخرى للمركز، مشيراً إلى أن الأرشفة كانت تتم عبر دفاتر و(ظروف) يحفظ فيها (الفلم) يكتب اسم الحدث والمصور والتاريخ الذي أخذت فيه الصورة، ويختم عجلاوي حديثه بأن كل هذا الأثر تم إهماله واختفى، ولم يحرك مكتب الثقافة هناك ساكناً بفقد هذا الأرشيف نكون فقدنا جزءاً مهماً من توثيق التاريخ الحديث وأحداث مهمة بأعتبار أن الصورة أصدق من الكلمة في نقل الأحداث.
في جولتنا داخل المخزن الذي وضع فيه هذا الأرشيف حصلنا على عدد من الصورة التي يرجع تاريخ بعضها إلى العام 1978م تؤرخ لأحداث مثل عيد التعليم في العام واجتماعات أول مجلس لبلدية القضارف في العام 1981م وغيرها من الصور المهمة التي تؤرخ لحقب تاريخية مختلفة.
اليوم التالي