الرحيل مع النسمات الفرايحية: الموسيقار “ناجي القدسي”.. عطاء باذخ بأمر بيانو الراهبة الإيطالية

الخرطوم ? سارة المنا

كثير من الموسيقين استطاعوا أن يجعلوا من موسيقاهم مرآة لشخصيتهم، تستطع ان ترسم ملامح أي منهم من خلال جملته الموسيقية، والموسيقار ناجي القدسي واحداً من بين هؤلاء الموسيقيين، فشخصيته لا تختلف كثيراً عن موسيقاه، كلامه يتميز بالهدوء والاتزان، لديه شكل موسيقى مستقل ومختلف عن أسماء كثيرة موجودة.

ناجى من أهم عباقرة الموسيقى السودانية حيث وضع بصمته الخاصة في التراث الموسيقى السوداني بشكل خاص وتراث السلم الخماسي بشكل عام، فالموسيقى العربية توضع في برواز يجعلها تتخطى الحدود والشرائح وتصل إلى كل الطبقات، كما أن تجربته في الموسيقى السودانية من العلامات المميزة، وقد أنجز مجموعة من الألحان الخالدة مثل (الساقية، وجسمي انتحل، وحمام الوادي، وتراتيل)، والعديد غيرها من الأعمال التي شكلت وجدان جيل كامل في السودان واليمن :

بداية المشوار

ولد ناجي الهيثمي (ناجي القدسي) بعطبرة عام (1944)م، لأب يمني اسمه محمد عبدالله الهيثمي وأم سودانية فاطمة محمد سعيد الميرغني، التحق بكتاب لحفظ القرآن قبل أن يلتحق بمدرسة كمبوني الكاثوليكية الإيطالية التي تنتشر فروعها في مدن السودان، في العاشرة من عمره، شد الرحال مع أسرته إلى مدينة سنار ثم التحق بالمعهد العلمي، وكانت تعمل بالمدرسة راهبة إيطالية تعزف على آلة البيانو في صالة بعيدة عن الفصول الدراسية مقطوعات من الموسيقى العالمية وأولع ناجي بعزفها واكتشف شغفه المصيري بالموسيقى، كان يهرب من حصص دراسته متسللاً إلى صالة الموسيقى للاستماع إليها، دوما لبث أن تعلم بمفرده العزف على العود، وبدأ التلحين وهو في الثانية عشرة من عمره .

آمال والهاشماب

وبعد منتصف الخمسينيات من القرن العشرين انتقل مع أسرته إلى الخرطوم وهناك واصل السعي لتعلم الموسيقى، التحق ناجى بمدارس الجامعة الشعبية حيث درس الموسيقى على يد أستاذ العود المصري عبد المنعم عرفة، وفي السادسة عشرة من عمره ألف ناجي مقطوعته الموسيقية الأولى (آمال) التي سجلتها أوركسترا الإذاعة السودانية عام (1961)م، وفي ذات السنة كون مع الشاعر حسين حمزة وأخيه الفنان هاشم حمزه وعوض الله أبوالقاسم فرقة في الهاشماب بأم درمان .

شعراء وفنانون

تعامل ناجي مع كثير من الشعراء والملحنين من المطربين السودانيين مثل الفنان (حمد الريح، ابو عركي البخيت، التاج مكي، زيدان إبراهيم، مصطفى سيد أحمد، ومحمد الأمين)، وكبار الشعراء (إسحق الحلنقي، حسين حمزة، عبدالرحمن مكاوي وعزالدين الهلالي، محمد الفيتوري حسن ساتي، محمد أحمد سوركتي وغيرهم من الشعراء)، من بينها أعمال ملحمية من التراث الشعبي السوداني، وأخرى مسرحية من الأدب العربي، كـ (مسرحية مأساة الحلاج) لصلاح عبدالصبور.

الملحن البارع

ولحن ناجي كثير من الأعمال الغنائية العاطفية والوطنية، لحن مجموعة من الأعمال للشاعر حسين حمزة (ضاع مع الأيام، الدبلة، سلوى، جسمي انتحل، لاقيني في الأحلام والصداقة).

وخلال عام 1962م قام نجم الغناء الصاعد أبو عركي البخيت بغناء (جسمي انتحل) التي طبقت شهرتها آفاق السودان واشتهر البخيت بها كما اشتهرت به دائما أما لحن (ضاع مع الأيام) فقد تم استبدال كلمات الشاعر حسين حمزة بكلمات الشاعر مرتضى صباحي (خلاص مفارق كسلا) التي أطلقت نجومية التاج مكي، فتحول مع الملحن ناجي القدسي إلى ثنائي بالغ الروعة .

سنة 1967م كان الموسيقار قد بلغ ذروة انفجاره الإبداعي، وذات ليلة من ليالي عام 1967م التقى في إحدى أماسي الخرطوم بالشاعر المختلف عمر الطيب الدوش، الذي أعطاه كلمات (الساقية لسة مدورة) وخلال ليلتين على رملة شاطئ بحري وفوق مياه النيل، أنجز اللحن الخالد الذي صار دهشة ليالي الخرطوم وسهراتها، قبل أن يكون على موعد قريب مع صوت الفنان حمد الريح .

دوران الساقية

لكن العمل الأبرز الذي أصبح أيقونة بالنسبة للشعب السوداني تمثل في أغنية الساقية التي ألفها عمر الدوش ولحنها نهاية الستينيات في ليلتين فقط على رمال شاطئ النيل الأزرق، وأداها المطرب حمد الريح لتصبح فيما بعد ذروة تجربته الثرة، بيد أنه أضاف إلى اللحن هتافات مناوئة للرئيس السوداني السابق جعفر نميري، كانت ترددها الآلات الموسيقية، ولكن هذه الهتافات الموسيقية، وفيما يشبه دوران الساقية، تحولت إلى هتافات كلامية صريحة رددها المتظاهرون المناوئون لحكم نميري، إبان انقلاب أطاح فيه الحزب الشيوعي بحكم النميري لمدة ثلاثة أيام في يوليو تموز عام (1971)م قبل أن يعود نميري مرة أخرى.

فاصل وتواصل

وسرعان ما حظر تداول الأغنية، واعتقل بسببها ناجي القدسي وبعدما أفرج عنه بعد ثلاثة أشهر من الاعتقال، فُرض عليه حصار فني وأوصدت أمامه جميع الأبواب طوال عقد السبعينيات وهجره حتى أصدقاؤه مما اضطره إلى مغادرة السودان في الثمانينيات إلى اليمن .

وبالرغم من أنه واصل هناك عملية التلحين لمطربين يمنيين، من بينهم أبوبكر الفقيه، وسودانيون كثيرون، لكنه عاش في شبه عزلة في ظروف قاسية في غرفة متواضعة وسط العاصمة اليمنية صنعاء، وكانت آخر أعماله التي أنجزها في السنة الأخيرة 2013، 2014م، لحن (بالسلامة) من كلمات الشاعر حسين حمزة، وأربعة ألحان من كلمات الشاعر والموسيقار الفنان أحمد شادول .

قلب مفتوح

أثرت الساحة العربية والسودانية واليمينة ناجي القدسي بعد إصابته بهبوط حاد إثر عملية قلب مفتوح أجريت له في أحد مستشفيات صنعاء، وكان الموت قد غيبه بعد صراع مرير مع المرض الذي نجم عنه هبوط حاد بعد مرور يوم كامل في العملية الجراحية
اليوم التالي

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..