موسم الحصاد الزراعي وجراد الطفيلية

أحمد الفاضل هلال
عندما يأتي الحديث عن الزراعة تبدو في نظر البعض وكأنها قضية ثانوية. هذا الإستحقاق الناتج عن الإختلالات الهيكلية في قطاعات وإهتمامات الدولة والنظرة الدونية دون إعتبار للزراعة قطاعاً سيادياً ورائداً بجانب النظرة المتخلفة للعاملين في هذا القطاع من مزارعين ورعاة وغيرهم بأنهم مجرد كائنات أخرى لتراكم الثروات وإنتاج الرفاه والسعادة لغيرهم وإغترابهم عن إنتاجهم دون إعتبار الزراعة هي عنصر الإستقرار الإجتماعي والسياسي الأساسي ومشروع النهضة المحتمل. إن قطاعات من المستهلكين يجهلون تماماً أن أزمات السودان إرتبطت لحد كبير بالمجاعات وأن حضارات عريقة ومدناً إندثرت عندما تم إغفال دور الزراعة في الإستقرار وأن الوطن هو البطن. إن مناطق الإنتاج الزراعي اليوم هي شريط الحرب بسبب المجاعات والصراع في الموارد الشحيحة وإنهيار مقومات الحياة الملازم لتدهور الزراعة. كل هذا يؤكد بأن التحولات الإقتصادية والإجتماعية العميقة تتم عبر تحديث والإهتمام بهذا القطاع.
وللتذكير نقول بأن الغذاء في العالم لم يعد سلاحاً إقتصادياً فحسب بل أداة وسيلة سياسية لتركيع الشعوب وتنفيذ أجندة تتعارض مع المصالح الوطنية وأن شعوب عديدة في العالم تعاني من المجاعات وسوء التغذية وتفتقر إلى الأراضي الصالحة كمورد لا غنى عنه.
إن عدم الإهتمام بالقطاع الزراعي الذي يبدو ظاهرياً غير مقصود من قبل كل الأنظمة السودانية يعبر في حقيقة الواقع عن موقف طبقي وسياسي خفي للإبقاء على الريف تحت وصاية التخلف والجهل والوقوف في الجانب الخطأ من الصراع وعدم إلحاقه بقوى التغيير.
إن القوى السياسية والإجتماعية التي ظلت مهيمنة على السلطة ظلت تعمل بشكل منهجي على تمكين وتوسيع قاعدتها الإجتماعية غير المرتبطة بالإنتاج والريعية وظلت وفية لهذا المبدأ. وأن الحرب لم تكن الإفراز السلبي الوحيد لتدهور القطاع الزراعي وإنما الخدمات آفة الهجرة إلى المدن والعنف والتطرف بسبب التهميش والإقصاء.
عموماً لسناهنا بصدد مناقشة كل قضايا الزراعة ولكن سوف نركز على حلقتين من حلقات الزراعة وهما الحصاد والتسويق.
إن المزارعين يواجهون عند بداية الموسم الزراعي عقبة التمويل وتأخيره لتأسيس المحصول ثم فترة تمويل العمليات الفلاحية المختلفة كمرحلة ثانية وأخيراً وهي المرحلة الأخطر هي تمويل حصاد المحاصيل. وتعتبر مرحلتي التأسيس والحصاد الأسوأ بالنسبة للإبتزاز الذي يتعرض له المنتج للبيع بالآجل أي نظام الشيل أو بأسعار أقل من التكاليف. وعلى الرغم من الموجهات العامة للدولة إلا أن البنوك تعاني من ضعف الإعتمادات المالية المخصصة للائتمان الزراعي وأن البنوك ذاتها لا تحبذ تمويل الأنشطة والإستثمار في مجال الزراعة للمخاطر الكثيرة الكامنة. وبما أن البنوك تمثل التوجهات السياسية للدولة فلا غرابة أن يتجه التمويل إلى العقارات والأنشطة التجارية والسيارات لتلبية الإحتياجات التفاخرية المتنامية للجماعات الملتفة حول السلطة. لذا يقابل المزارعون التلكؤ والمماطلة كسياسة في التمويل والذي يتم لجماعات محدودة وبعد فوات الأوان.
إن هنالك تداخلاً في إختصاصات وزارة الزراعة والنهضة الزراعية وإدارة المخزون الإستراتيجي والبنوك وعدم تنسيق وضحيته المنتج الحقيقي. إن معاناة المنتج تبدأ أيام الحصاد وخاصة بعد موسم طويل من العمليات الزراعية والإنتظار يكون المنتج قد إستنزف تماماً كل ما يملك من أموال. ومع الحصاد هناك إستحقاقات العمال العاجلة ومعينات التعبئة ووسائل الترحيل والرسوم والجبايات المختلفة. ومن هنا تبدأ المأساة التي تجبر المنتج على البيع بأي ثمن لحفظ الكرامة أمام العمال. ولا يجد أمامه غير المتربصين به دائماً من المرابين التقليديين والطفيلية المدعومة بأموال ضخمة من البنوك. وكجزء من التكتيكات الناجعة التي تستخدمها هذه الجماعات هو الإحجام عن الشراء في هذا التوقيت اللعين وهذا الوضع يتراكم فيه الإنتاج بدون مشترين ويزداد سوءاً وضع المنتج المقيَّد بالإلتزامات. إنها مسرحية مفجعةٌ تحدث سنوياً ولا خيارات سوى الإذعان والبيع بالغن بالأسعار التي يحددها المرابون والطفيليون. لا تكتفي هذه المجموعات الطفيلية بتدمير الزراعة والمزارعين بالأسعار غير المجزية فقط بل تمتد سيطرتها إلى نواحي أخرى من العمليات الإنتاجية فهي أيضاً التي تسيطر على إستيراد مدخلات الإنتاج كالأسمدة والمبيدات والجوالات والآليات والتقاوي والتي ترفع أسعارها كيفما أرادت ذلك وإلحان معروفة كإرتفاع الدولار. وبل أحياناً تقوم بتمويل بعض المزارعين ببعض المدخلات لضمان إستلام المحاصيل عند الحصاد. إنها عملية محكمة الإتقان وتنسيق الأدوار لتمليك المنتجين العوز والإملاق وجعلهم يحافظون على فقرهم كعلامة حصرية.
إن المنتجين لا يواجهون الطفيلية وبعض الضباع في الأسواق فقط وإنما يواجهون الجبايات ورسوم الأجهزة الحكومية المختلفة تسعى جاهدة لتسليم المحاصيل بأوراق مكتملة للطفيلين. وهنالك بيروقراطية البنوك وإدارة المخزون الإستراتيجي التي تعمل بشكل إنتقائي يدركه المزارعون من خلال عملاء يناورون أحياناً في الأسعار عندما تكون هنالك وفرة في الإنتاج وفرق أسعار بين الأسعار الجارية المنخفضة وأسعار التركيز الأعلى نسبياً.
هذا الوضع السائد في سوق المحاصيل أفرز الإعسار والسجون وبيع الممتلكات والإحباط والتخلي عن المهنة والإنصراف للأعمال الهامشية بمدن الفقر الجديدة.
لابد من التصدي لهذا الواقع الذي فُرِضَ على المنتجين وإنتاج حلول وإلا فإن مستقبل الزراعة والوطن في خطر.
وفي تقديرنا أن أول خطوة أو إجراء في طريق إنصاف المنتجين هو أن تقوم الدولة عبر أجهزتها بإعلان أسعار ابتدائية للمحاصيل عند بادية الموسم الزراعي لكي يحدد بعد ذلك المنتج أنواع المحاصيل التي يود زراعتها على حسب سياسة الأسعار المعلنة وعلى أن تعلن الدولة عند فترة الحصاد أسعار التركيز التي يجب ألا تقل عن الأسعار الإبتدائية في بداية الزراعة.
وتأتي الخطوة التالية في تمكين البنك الزراعي كجهة متخصصة وجعله النافذة الأساسية في التعامل مع المزارعين من حيث توفير السيولة في المواعيد ومدخلات الإنتاج وضم إدارة المخزون الإستراتيجي وإمكانياته لإدارة البنك الزراعي السوداني وكذلك فإن ميزانية النهضة الزراعية الضخمة يجب أن تكون تحت إشراف البنك الزراعي والتي يجب أن تخصص إلى مشروعات البنيات التحتية كالصوامع والمخازن ووسائل النقل.
وكما كان ولازال الغرض أساساً من إنشاء البنك الزراعي هو حماية المنتجين بشكل عام وصغار المنتجين على وجه الخصوص فإن البنك يقوم عادة بعمليات مسح ميداني تبدأ بفترة تأسيس المحصول لحصر المساحة الفعلية ثم متابعة سير النمو والعمليات الفلاحية وأخيراً تقديرات أولية للإنتاج. كل هذه الذخيرة من المعلومات تشكل خارطة طريق للبنك للتعامل مع المنتجين من أجل التمويل لعبور هذه الفترة الحرجة والمفصلية من الحصاد التي يراد منها لي وكسر المزارع للبيع بأسعار أقل من التكلفة وفق خطط السماسرة والطفيليين. فإن على البنك يقع واجب إستلام المحاصيل وتخزينها لمصلحة المنتج إلى حين تحسن الأسعار على أن يبيع للبنك. وإذا ما تم هذا فإنه يكون إنتصاراً عظيماً للمزارعين ويكون البنك قد حقق واحداً من أهم أهدافه في حماية المنتجين.
إنَّ الزراعة السودانية تواجه مشكلة إرتفاع تكاليف الإنتاج من حيث معيار الزمن والطاقة وتواجه إرتفاع مدخلات الإنتاج والرسوم الجمركية والجبايات المخلتفة والعمالة وتخلف التكنولوجيا والمواصفات وعدم معرفة الأسواق العالمية وإحتياجاتها والمنافسة. ولكي تنهض الزراعة والعاملون بها لابد من حمايته على الأقل في دعم البترول للمنتجين وإعفاء المدخلات الزراعية من الجمارك عبر البنك الزراعي وإزالة وإلغاء كل الجبايات التي ترهق المنتجين وتخفيض أسعار الفائدة للحد الأدنى وتوفير الخدمات وترقيتها وإلا فإن المجاعات والحروب سوف تطيح بما تبقى من السودان.
إن البنك الزراعي السوداني يمتلك خبرات وتجارب غنية وكوادر يمكنها بالتعاون مع المنتجين أن يبتكروا معالجات وصيغ أكثر عدالة وإنصافاً وتضمن إستمرار الزراعة ورفاهية للمنتجين حتى لا تصبح الزراعة سبباً في مأساتهم الأبدية. وكل ما ما هو مطلوب وضع سياسة صحيحة في خط الزراعة تراعي المصالح القومية وفئات المنتجين.
وفي هذا الإطار فإن وجود أي أفكار خلاقة أو أي نوايا حسنة تكون عديمة الجدوى مالم يكن هنالك صوتاً قوياً أو كياناً نقابياً يعبر عن مظالم ومصالح المنتجين ويعكر الطمأنينة الراكدة للطفيليين والسماسرة الذين يرضعون من ثدي شقاء المنتجين?وهذه دعوة للكتابة.
الميدان