سيرة “مهدي دبكة” غطرسة المستعمر مع الأهالي ساهمت في بناء شخصيته المتمردة.. قبل 59 عاما اقترح “ابن الناظر عبد الرحمن” أن يكون السودان دولة مستقلة كاملة السيادة

الخرطوم? الزين عثمان

في التاسع عشر من سبتمبر للعام 1955، كان صوت مهدي عبد الرحمن دبكة يهدر من داخل جلسة البرلمان ويندفع بمقترحه: (أرجو الآتي: أن نقدم خطابا إلى معالي الحاكم العام بالنص التالي، نحن أعضاء مجلس النواب في البرلمان، نعلن باسم شعب السودان أن السودان قد أصبح دولة مستقلة كاملة السيادة، ونرجو من معاليكم أن تطلبوا من دولتي الحكم الثنائي بهذا الإعلان فوراً).. التصفيق وحالة التماسك التي أعقبت المقترح كان نتيجتها أن رفرفت الراية السودانية خفاقة، وصار السودان للسودانيين.

مهدي عبد الرحمن دبكة، الرجل الذي سجل اسمه بأحرف من نور في تاريخ البلاد التي تستشرق مستقبلها، فعل ذلك ونال شرف تقديم اقتراح الحرية ووضع أول لبنة لمشروع البناء الوطني في بلاد تستشرق عام انعتاقها الستين، وما تزال الأرض فيها حبلى بالأسئلة التي تنتظر إجاباتها.. وبعيداً عن السؤال حول هل حققت البلاد استقلالها الحقيقي أم أن الأمر مجرد حالة انتقال من مواجهة إلى مواجهة.. ومن صراع إلى آخر.؟ لكن يبقى سؤال الراهن هو ذلك المتعلق بالإجابة على من هو عبد الرحمن مهدي دبكة صاحب اقتراح الاستقلال من داخل البرلمان.؟

واحد من الناس

في عد الغنم بدارفور، وقبل أن يتم تحويلها لاحقاً إلى عد الفرسان جنوب غرب نيالا في تلك الأراضي المنبسطة بالخير ولد ابن ناظر عموم قبائل البني هلبة ووالدته فاطمة بنت الأمير عبد الرحمن أبو حبو. حين يولد المرء هناك فإن ذلك مدخلاً للتشبع بقيم سامية هي مجمل ما يعتقده الناس هناك؛ ففي وسط الخلاوى القرانية التي كان يرعاها الناظر وبيته الذي كان مقصداً للشيوخ وحفظة القرآن الكريم بدأت الشخصية تنمو وهي ترفض الظلم والخنوع مع اعتبار أن الإقليم في دارفور كان هو آخر المناطق التي استطاعت القوى المستعمرة أن تخضعها لنفوذها، كانت مؤثرات فاعلة في تكوين (الفارس) دبكة.

يسرد ابنه المحامي بالخرطوم محمد عبد الرحمن تاريخ الحياة الأولى لوالده، ويقول إن الروايات الشفاهية تؤكد أنه كان مثل أقرانه، ماهراً في ركوب الخيل التي كانت من الممتلكات التي تدل على شخصية صاحبها.

ويقول محمد إن سلوك الغطرسة الذي انتهجه المستعمر في التعامل مع أهل السودان ساهم بشكل كبير في بناء شخصية متمردة على الواقع لود الناظر، شخصية تنشد العبور بصاحبها في مدارج العلم باعتباره الطريق الأقرب لتحقيق التطلعات، لذلك حمل عبد الرحمن حقائبه واتجه إلى نيالا. حيث درس فيها المدرسة الأولية، وبعدها التحق بمدرسة الفاشر المزدوجة، ومنها انتقل إلى مدرسة الأبيض الأميرية، لكنه فصل منها أكثر من مرة دفعاً لفاتورة مواقفه ضد الإدارة الاستعمارية، واختار المفتش في نهاية المطاف أن يعيده إلى عد الفرسان تحت دعاوى مساعدة والده الناظر في إدارة شؤون النظارة بعيداً عن ضجيج المعارضة وقاطعاً عليه طريق الوصول إلى جامعة الخرطوم.

جلباب الأنصار

العائد من مدرسة الأبيض الأميرية إلى مرتع الصبا يصر على العودة إلى الخرطوم من أجل مقاومة المستعمر.. وروح المهدية التي لم تنخمد نيرانها بعد، جعلت ابن الناظر يختار مكانه ليضئ من خلال الانضمام لحزب الأمة مدافعاً عن رؤية (السودان للسودانيين) دائرة البقارة غرب في أوَّل انتخابات لم تجد صوتا غير صوت دبكة ليتحدث بلسانها في البرلمان السوداني الأوَّل، ففاز بأصوات الناخبين وذهب إلى البرلمان الأوَّل، انتظر اللحظة التي جاءته على طبق من ذهب وهو يحمل صفة أصغر البرلمانيين سناً، وكأنه يستبطن عبارة أن الوطن ترثه الأجيال القادمة.

دبكة الذي حقق مراد شعبه بطرحه لاقتراح الاستقلال سرعان ما عاد في الانتخابات (1958) قبل أن يقطع عليه العسكر طريق العودة مرة أخرى تاركاً الأمر يمضي في اتجاهات أخرى، اختار دبكة خدمة وطنه دون أن يكون نائباً برلمانيا.

في بقعة المهدي

في ستينات وسبعينات القرن المنصرم اختار دبكة البقاء في أحضان البقعة الأم درمانية وبالتحديد حي الثورة. حيث طاب له المقام قريباً من مركزية الفعل المؤثر على الحراك عموماً، لكنه اختار أن يعمل من خلال تغذية روح (التعاون) بين السودانيين، فقد نجح بمعية آخرين في بناء وتأسيس الحركة التعاونية بالسودان، وكان أميناً للمال في أول اتحاد لها كما كان عضواً لعدد من مجالس إدارات الشركات والمؤسسات العاملة في القطاع التعاوني، لكن التواجد في أم درمان لم يمنع الرجل من القيام بدوره لأهله في منطقة دارفور. حيث عمل محاسباً في مصلحة البطري ومستشفى نيالا الملكي. عمل بمصلحة الأشغال بنيالا.. الرجل الذي تولى منصب السكرتير العام للاتحاد التعاوني السوداني جلس أيضاً كرئيس للمجلس الإقليمي بدارفور. وذلك تقديراً للدور الكبير الذي لعبه وللمقدرات التي مكنته من تحقيق النجاح في مختلف ضروب العمل العام.

انطفاء الشعلة

الأوّل من فبراير في العام 1988 بعد تسعة وعشرين يوماً من احتفال السودانيين بالذكرى الثالثة والأربعين لإنجاز دبكة ورفاقه في الحركة الوطنية وفي مدينة نيالا في يوم الاثنين رحل دبكة عن الحياة تاركاً سيرة عطرة وذكرى لا تنمحي، ترافقها في الوقت نفسه مجموعة من الأوسمة التي نالها من كل الحكومات التي تعاقبت، كان على رأسها وسام النيلين من الطبقة الأولى ووسام الإنجاز السياسي ومعها وسام الجمهورية من الطبقة الأولى، وإن كان ما يزال الجميع يردد أنشودته في التاسع عشر من كل سبتمبر (السودان دولة حرة مستقلة كاملة السيادة) ذلك هو مطلبنا آنذاك وهو ما حدث بالفعل. شعلة دبكة لم تنطفئ فما يزال أبناؤه وأحفاده يعيدون إشعالها من خلال انطلاقهم في عدة مجالات وهم يضعون خطواتهم في سبيل السعي لبناء وطن كان والدهم أحد مؤسسيه

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. لم اكن اعرف ان الذي قال هذه الكلمات الخالدات في تاريخ السودان هو رجل دارفوري

    لعله لم يدر في خلدي من اي جهة في السودان هو…….. فكلما فكرت في تلك الفترة نسيت كل شيئ عن العنصرية وتذكرت كيف كان السودانيين امة واحدة

    دارفور يا قلب السودان ….اليوم الذي تنهضين فيه ينهض كل السودان

  2. سيرة عطرة خلفها هذا الرجل القامة اللهم ارحمه رحمة واسعة و اجعل سلفه مقتديا به فهو نعم النموذج و نعم الوطني الغيور على وطنه .. نرجو من الله ان يعيد لنا هذه الشخصية في الاجيال التي بعده ..

  3. سؤال مهم عايز بحث هل النخبه كانت مؤهله اخلافيا حتي نرث الان دمار السودان ؟
    حقيقه النخب الصنعت الاستقلال في كل من البرازيل والهند والصين وامريكا والاردن ماذا ورث شعبها الان اقتصاد قوي ؟

  4. رحم لله السيد / ود ناظر بني هلبة ( ابراهيم دبكه) واضافة فقط للمعلومة ، فقد كان دبكة اول من صدح بضرورة استقلال السودان من داخل البرلمان حتى يضع دولتي الاستعمار البريطاني والمصري امام الامر الواقع . ولكن للمعلومية فان النائب الثاني الذي أيد مفترح دبكه ( هو الشيخ القامة مشاور جمعة سهل ) نائب دائرة بارا الغربية بشمال كردفان .. فهؤلاء النائبين هما الذان نالا شرف المبادرة فى اقتراح استقلال السودان ، وقيل ان الجلسة التاريخيه تلك كان يحضرها السيد/ عبدالرحمن المهدي ، والسيد/محمد عثمان الميرغني ، حيث تغيب والده علي الميرغني عنها. وقد وصف المأرخون انه بعدان نال الاقتراح التاييد قام الازهري بالقاء خطابه واعقبه السيد/محمد احمد محجوب ثم تحدث السيد/مبارك زورق ، ثم هرع النواب جميعا نحو السيد/ عبدالرحمن المهدي (السودان للسودانيين) يهنئونه بالاستقلال قيل ان السيد/ عبدالرحمن اجهش بالبكاء بصوت عال ، وعبر عن خوفه من مآلات مستقبل البلاد التي يرجو لها العزة والتقدم تحت ادارة ابناؤها وهيهات فقد صدق حدس السيد/عبدالرحمن الذي تأثر بها حتى بكى امام النواب فرحا باستقلال البلاد وخوفا عليا من الفشل . وللاسف فقد سامها أبناؤها سوء العذاب .
    وكسرة اخيره فى هذا التعليق ، ماهي معلومات القراء الشباب عن النائب محمد ابراهيم دبكة نائب دائرة نيالا الغربية والشيخ /مشاور جمعة سهل نائب دائرة بارا .. للاسف تاريخ بلادنا الوطني الهام كله مدفون تحت ركام الانانية والجهوية ودعاوى البطولات الزائفة .

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..