روائي عماني يكشف شخصية «الذي لا يحب جمال عبد الناصر»!

جميل الشبيبي*

يمثل العنوان في رواية العماني سليمان المعمري (الذي لا يحب جمال عبد الناصر) إشكالية تقود إلى فضاء روائي يمثل جملة ناقصة تشبه جملة العنوان وهي تحتاج إلى قراءة مضاعفة للكشف عن مستويات الدلالة فيها وعلاقة ذلك بالفضاء العام الذي تجري فيه ثورات الربيع العربي ومن اجل التعرف على وجهة نظر السارد العليم / المؤلف عن هذا الفضاء المربك والشائك .

فضاء روائي مرتبك

يفتتح السارد العليم فضاء الرواية بتحديد زمن الأحداث حين يصرح مستعيرا صوت جمال عبد الناصر :( إن الزمن يمر بسرعة ها هي ستون سنة بالتمام والكمال تمر اليوم على ثورة يوليو ..ص11) وذلك يعني أن زمن التفوه كان عام 2012، وهو زمن يقع في الزمن الفعلي لتجربة ( الربيع العربي!!!) في مصر التي تكللت بانتخاب مرسي الاخواني رئيسا لمصر وهذا يعني أن شخوص الرواية في كل تصرفاتهم يتنفسون هواء هذا التغيير بدرجات متفاوتة
وقد استثمر المؤلف تعدد الأصوات كتقنية للكشف عن الصراعات ووجهات النظر التي تتحكم بمجموعة صغيرة من الصحافيين،يعملون في صحيفة عمانية، لكن تعدد الأصوات في حدود هذه التجربة تبقى هامشية في معظمها، فهي شهادات بضمير المتكلم دون وجود مرو له صريح ? باستثناء شهادة بسيوني الموجهة إلى زينب ? مما يدخلها في البوح الذاتي ومع أنها بوح ذاتي فأنها تبقى تصريحات وجلة عن حتمية حدوث ثورة الربيع العربي ووعودها في تغيير الكيانات السياسية القائمة،في المنطقة العربية، فجميع شخص الراية يتحدثون بالتورية والمجاز ولا يصرحون بآرائهم بشكل واضح، كما يلاحظ أن الشخوص الذين يتقنعون بالدين هم شخصيات مسطحة همها الأول المصلحة الشخصية والحفاظ على الذات . أما الشخصيات المتحررة من التابوات فهي شخصيات متمردة تتحدث بحرية اكبر وتوجه نار انتقاداتها إلى الدولة والمسؤولين فيها .
ويبدو أن أصوات الشخصيات في الرواية هي شهادة عن أحداث الربيع العربي ممثلا بالثورة المصرية والثورة التونسية مع إشارات إلى حركات وتمردات في أقطار عربية جرى السيطرة عليها وأخرى قد تم التستر عليها وكلها تفصح عن أمل قادم وأخرى عن حسرة وتهكم عن هذه الثورات التي توقفت عند منتصف الطريق وهي تفوهات وأقوال تدخل في بلاغة التورية التي تهتم بالتكتم وعدم الإفصاح .
وتمثل شخصية بسيوني سلطان نموذجا صارخا للشخصية التي تجعل مبادئها مقياسا لا يقبل الخطأ فهو يعتقد انه يمتلك كل مواصفات الصدق والعدالة ويعزز أقواله دائما بآيات من القرآن الكريم أو من خلال شخصيته باعتباره شيخا أزهريا،
ويرسم السارد العليم شخصية بسيوني المغيبة عن الرواية بشكل يسميه باختين (النصاب أو المهرج ) الذي يصفه قائلا (النصاب والمهرج والغبي ينشئون حول أنفسهم عوالم صغيرة خاصة،ويتصفون بميزة خاصة وحق خاص، وهو أن يكونوا غرباء في هذا العالم لا يتضامنون مع أي وضع من الأوضاع الحياتية القائمة في العالم، ولا تناسبهم أيا منها فهم يرون باطن كل وضع كذبة )1
واتخاذ شخصية بسيوني محورا تدور حوله شهادات شخصيات الرواية، تعبر عن ميل واضح لرفض الأفكار الثابتة والأقاويل ذات المنحى التعصبي سواء كان فكريا او دينيا،ويمثل تغيبه عن السرد (سوى شهادته عن سيرته الشخصية، وهي شهادة ضعيفة ولا قيمة فنية او لها ) تساؤلا يفصح عن جدية وجهة النظر التي لا ترى في تطبيق الإسلام السياسي معبرا سليما لكل إمراضنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية

نمذجة الواقع روائيا

وتبدو جريدة المساء فضاء مصغرا لما يجري في خارجها اذ تتوفر في هذا الفضاء شخصيات منمذجة بالاتجاه الذي يكشف الصراعات في عالمنا المعاصر من خلال عينات متنوعة لها ولاءات سياسية ودينية ومذهبية مختلفة فالخراصي مسؤول الصفحة الدينية اباضي يرى ان مذهبة مثالا للاعتدال وهو يمثل الدين،وزينب رئيسة القسم الاقتصادي شيعية ومتزوجة من اباضي معتدل على وفق شهادتها لم يطلب منها تغيير مذهبها عندما تزوجها كما ان له موقفا رافضا من زواج المتعة الذي يجيزه مذهبه، هناك المصحح السوداني السني الذي يختلف عن بسيوني في اعتقاده الديني وهو يتعصب لوطنه وهناك التونسي السني ايضا الذي يؤمن بثورة تونس دون أن يفصح عن انتمائه السياسي،وكل هؤلاء يمثلون شخصيات وسطية لا فاعلية لها، ولكنها تلقي ظلا ثقيلا على تجمعات وأوساط شعبية تشبهها تمثل وسطا للاختيارات السياسية التي أسهمت في وصول السلفيين وأمثالهم إلى مواقع متقدمة في السلطة السياسية، واقصاء الشخصيات الإشكالية التي أسهمت بشكل فاعل في حركة التغيير العاصفة، ويمثل هذه النخبة الشخصيات الإشكالية في الرواية :
رئيس القسم الثقافي العلماني العماني حسن العامري ورئيس القسم المحلي سالم الخنصوري إضافة إلى شخصيتي زينب العجمي والمصحح التونسي الذي (رأى) خريف ثورات الربيع العربي في تونس،وهي تسحق على يد السلفيين كل هؤلاء جمعهم المؤلف في الرواية، بمواجهة شخصية بسيوني الغائبة عن السرد، أما لماذا غيب بسيوني عن السرد، فذلك يدخل ضمن تصورات السارد الذي يرى أن عالم بسيوني معروف و أفكاره وتطلعاته معروفة أيضا بما طرحته الجماعات السلفية المتشددة من برامج في إنشاء نظام إسلامي يشبه نظام الخلافة الإسلامية

شخصيات كاريكاتير وأخرى إشكالية

يستثمر الروائي سليمان المعمري الفضاء الروائي لإغراض جمالية وفكرية تهتم بتسجيل وجهة نظر ساخرة عن الأوضاع التي تعيشها شخصياته الإشكالية في عمان، وقد استثمر السخرية وسيلة أساسية في سرد يغلب عليه الفكاهة والتندر والضحك من الشخصيات الدينية المتشددة، كما انه استثمر بلاغة التورية للتعتيم على المواقف الجدية التي تطرحها شخصياته الإشكالية التي تؤمن بالتغيير، ويلاحظ في بناء شخوص الرواية، ميل المؤلف إلى رسم الشخصيات النمطية بصيغة الكاريكاتير، في تضخيم جوانب الهواجس الخاصة لديها، والاستطالة في سرد سيرتها الذاتية الفارغة من المعنى وهي تتمحور في الحفاظ على الذات وتغليب الجانب النفعي في تعاملها مع الآخرين، كما هو حال بسيوني سلطان الذي يبدو عمانيا أكثر من العمانيين في حضرة المسؤوليين العمانيين،ومصري يكن للعمانيين الكره مع غيرهم، كما تتضح صورة الكاريكاتير في شخصية رئيس التحرير الذي يتعامل حتى مع زوجته تعاملا نفعيا،ويلخص المصحح التونسي شخصية رئيس التحرير بالكلمات التالية ( نصب، ومنصب، وانتصاب ص188).
اما الشخصيات الإشكالية التي تنتمي إلى تيار التجديد والتغيير فقد صورها الكاتب تصويرا لائقا بها وأعطى شهاداتها وسيرتها الذاتية بعدا خاصا يشي بعلاقتها الوطيدة بالتغيير والحث عليه .
لقد استثمر الروائي الشاب سليمان المعمري فضاء التغييرات الصاخب لما سمي بالربيع العربي، لضخ أسئلة واستفهامات ووضع علامات تعجب عن مجريات الأحداث الواقعية واتجاهاتها المربكة، لينير المسالك المغلقة والطرق الشائكة وهي تفرز أنظمة استبدادية أقسى من الأنظمة التي سقطت، وتتجه القراءة المتأنية لهذه الرواية الساخرة باتجاه رفض وجهة النظر المحايدة او المهادنة وعلى وفق أرضية صلبة كان قد عبدها مارتن لوثر كنك بمقولته الشهيرة (إن المكان الأكثر اتساعا في جهنم محجوز لأولئك الذين يقفون على الحياد في القضايا الأخلاقية الكبرى ص80).

* كاتب عراقي

جميل الشبيبي*
القدس العربي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..