الغربة تُعيد للإنسان بعضاً من إنسانيته

فاطمة البلتاجي

وأنا ألملم أطراف نفسي وأُعدها لمعركة من معارك الحياة ،لم أفكر ألا في أنني أريد الخروج من السودان للبدء من جديد برتق ما تبقى من مستقبلي العلمي والمهني، مثلي مثل آلاف الشباب والشابات تزاحموا على وزارة الخارجية السودانية لتوثيق شهاداتهم في مشهد يجعلك تدمع مما وصل إليه الحال.

برغم من أن أحد أساتذة المخاطبة المتقدمة الأمريكي الجنسية الذي قام بتدريسي وهو يعلم عزمي المغادرة خارج البلاد يقول: “أنتم عقول هذا البلد لا تخرجوا”، الا أنه في اليوم الثاني من تسليمه مقالات عن موضوع ما وتفاجئه بالكم الهائل من الاحترافية في كتاباتنا لأن كل طالب منا كتب في موضوع له علاقة بدراسته قال وهو دامع “هنيئاً للبلد الذي سيحتضنكم “، وحتى لا أغوص في تفاصيل ستُدمعني لا محالة قام بتدريسي مقال بعنوان “Culture Shock” وهو يتناول كيف أن أي مهاجر تصيبه صدمة حضارية ونفسية في مراحل متعددة وتستمر قرابة الستة أشهر الا أنني وكعادتي (المُتجعلنة) رددت في نفسي (في ذمتك القراية ح تخلينا نفكر في المراحل دي؟)، وكان له طلباً خاصاً ألا أوقف كتاباتي وأنه يتمنى لو أقوم بترجمتها للإنجليزية وأن أحمل معاي كل ما أستطيع من صور عائلية ومستلزمات من أسرتي لأنني سأحتاجُها.

نصيحتهُ أدركت مغزاها مؤخراً بعد أن تركت خلفي ثوب والدتي المفضل الذي جعلته سداراً يدفئني ليلاً لابنة أخي حتى لا تفقدني بعد سفري واكتفيت بصور حملها (الواتسب عبر القارة ) لعائلتي وأصدقائي ليلتهمها فايروس تربص بذكرياتي كأنه يعلم بتصفحي لها يومياً قبل النوم .

الغُربة تعيدك طفلاً وإن شاب رأسك، تُرهقك المدينة بضجيجها وتكنلوجيتها وتطور أهلُها، يداهمك الحنين ليلاً ويصيبك بالحمى التي تخف تدريجياً وأنت ترفع الراية البيضاء وتُسلم عينيك لنوم مضطرب مع خيوط الفجر الأولى.

الغُربة تجعلك تُكثر من استعمال (المناديل) بصورة يمكن لصاحب المصنع أن يجعلك زبون العام المفضل.
الغُربة ليست قاسية كما يُقال عنها ولا مُوجعة ولكن الوحدة هي اللعينة، تنخر في نفسك رويداً رويداً وتسلمك لأمواجها .وصدقني عزيزي القارئ الذي ترفع راية الهجرة والخروج من حضن أهلك لن يخفف عنك أحد إلا نفسك ستتناول جرعات من حبوب الصبر والذكرى مع كل وجبة وكُلك أمل بالتوفيق لما سعيت من أجله.

الآن أكملتُ أربعة أشهر من رحلة مُدتها ثمانيةُ عشر شهراً يمكن أن تزيد ويمكن أن تطول وما زلت في المرحلة الثانية من صدمة الحضارة ألا أنني سعيدة بغربتي لأنني أدركت وأنا التي تلبس ثوب القوة بأنني مثلي مثل أبناء آدم ضعيفة ولأن دمعي بإمكانه أن يفلت رغماً مني إذا قرأت شيئاً رقيقاً على حوائط أصدقائي.

غُربتي ستطول ولكن دعوات أخواتي وأشواق أبنائهم تُمدني بالقوة، دعم أصدقاء تركتهم خلفك ودعاؤهم لي بظاهر الغيب يثلج صدري، هي رحلة تتعرف فيها على إخوة آخرين وثقافات أخرى والأهم دروس وعبر تقدمها لك الحياة مجاناً وعليك بالاستغفار والصبر للنجاح فيها.
تعريجة جانبية:

ما كنت بفتكر السنين زي أي زول بتغيرك ..راجيك يا حلمي الجميل أسهر معاك اتصورك

الجريدة

تعليق واحد

  1. قلمك قد يمس اي قلب من الوهلة الاولي عند القراءة ويبقي اثرة في من يتلوي الان من مرارة الغربة وحنينة لاهلة واصحابة .
    اما حان لك ايها الوطن ان تحتضننا وتلفظ هؤلا الذين اعتصروك غصبا وشردونا اما ان لك …. ((((موجوع)))

  2. أمنياتي لك أستاذة فاطمة بخالص التوفيق حيثما كنتي ونسأل الله ان يلتقي كل أبناء السودان قريباً في وطن معافى وخير يصين حقوقهم وحرياتهم ويحفظ كرامتهم وإنسانيتهم.

  3. نعم الغربة قاسية لكن الغربة في الوطن أقسى …

    تعريجة جانبية :
    فاطمة يا أختي إنتي من ناس البلتاجي الوحدييين ديل ؟

  4. ربنا يفك اسر البلد من بين مختطفه اللئيم “البشير” لكي نعود لنبني بلدنا بدل ماقاعدين بنبني في بلدان الناس.

  5. بلا شك ستحسون بانسانيتكم في الغربة وستكتشفون لاول مرة ان للانسان حقوق وكرامة وانكم تساوون شيئا فهنيئا لكم
    الكثيرين من الاجانب يزورون السودان ولا يعرفون شيئا عن السودان حتى يعودون ادراجهم بعضهم يصف السودانيين بالطيبة وهو لايدرك انها ضرب من ضروب الاستسلام للهوان والمذلة فليس للسوداني في المستقبل امل رغما عن انه ذو معدن طيب وعاش الحياة يوما وازدهر ولكن جاءت دورة الحياة ظلمته وجعلته يبتسم في موقع البكاء ويبكي في موقع الابتسام ويهجر وطنه الفسيح لاحساسه بالضيق حيث تجري الانهار من تحته وتمتد الاراضي الشاسعة ولكن هنالك من يحشرونه حشرا في زاوية ضيقة لا يسمحون له ان يتعداها ابدا الا الى خارج السودان وليتهم يتركونه في حاله بعد ذلك انهم يطاردونه لتاجير جنسيته وجواز سفره عليه برسوم وجبايات مما جعل الكثيرين يبحثون عن جنسية ووطن بديل كما هو حاصل تماما فالكل يلهث نحو خارج السودان وعن جنسية اخرى

  6. بالجد الغربة فيها دروس الواحد بيستفيد منها اذا احسن استغلالها و ربنا يوفقك أستاذة فاطمة و يرد غربتك و جميع المغتربين

  7. بي غض النظر عن كلام المقال إن كان حقيقيةأم كان خيال إلي أن عنوانه أغرب من الغربة نفسها وليس في مكانه البتة .. بحيث إنه يعني إن اللذين لم يتغربو عن أوطانهم قد ضاعت إنسانيتهم .. الرجاء أن تدرك ماتكتب قبل أن تكتب .. وهذه ما يطلق عليها الفلسفة العمياء .

  8. الغربة سترة حال
    والمبدأ أن الغربةوسيلة لغاية
    فترة الصدمة الحضارية موجودة لاسيما فيمن تربوا على التوالف والحنية وهي صعيبة كفطام الطفل
    يمكن تخفيف آلام الغربة بالتواصل ودعوة الأقارب للزيارة خاصة الوالدين
    بمرور الزمن ستنتهي الصدمة الحضارية وتبدأ مرحلة التأقلم والولاء للبلد المضيف (الوطن الجديد) وفي نهاية المطاف تصبح الغربة غاية وليست وسيلة
    ولا ننسى بأن الغربة تسرق من عمرنا

  9. الجوا البلد مامقتنع ويري في الغربة الامل الوحيد لتحقيق احلامه والموجود في الغربة
    يري كثير منهم انه استعجل في اتخاذ قراره.وكانما سدت جميع الطرق فاما المكوث في البلد مستسلما لقدره او الخروج منها لنهاية مجهولة ..في الحالتين راح تدفع ضريبة
    قرارك.

  10. وطنَ النجومِ، أنا هُنا، حدّقْ.. أتذكُرُ مَن أنا؟
    ألمحتَ في الماضيْ البعيدِ فتًى غريراً أَرعنَا؟
    جذلانَ يَمرحُ في حقولكَ كالنّسيمِ مُدندِنَا
    أنا ذلكَ الوَلَدُ الّذي دُنياهُ كانت ههُنَا!
    أنا مِن مِياهكَ قطرةٌ فاضتْ جداولَ مِن سَنا
    أنا مِن تُرابكَ ذرّةٌ ماجتْ مواكبَ مِن مُنَى
    أنا مِن طيوركَ بُلبلٌ غنّى بمجدكَ فاغتنَى
    حمَلَ الطّلاقة والبشاشةَ مِن ربوعكَ للدُّنا
    كم عانقتْ روحِيْ رُباكَ وصفّقتْ في المُنحنَى

  11. لك التحية اختنا
    كلنا في الغربة ونعاني بعض الاشاء لكن الحمدلله مع وجود بعض السودانيين لا نشعر بالغربة
    فنتمنى أن يجمعنا الوطن الغالي جميعاً ونعيش في امن وسلام ومحبة
    وكل ما نتمناه لبلادنا هو الامن والسلام وان يعم جميع ارض الوطن

  12. اسمك فاطمة البلتاجي بالجد وله بتهظرى؟؟؟؟ لأنه ام كلثوم كوكب الشرق اسمها فاطمة البلتاجي

  13. نشكرك على حسك المرهف وقلمك الناصع … وكلنا في الهواء … لكن الغربة تبدو ان تسلب انسانيتنا وتطمس هويتنا وتقتل قلوبنا… لكن ماذا نفعل … بلدنا رفضنا وطردنا ولفظنا… وبلاد الناس احتضنتنا واحترمتنا وتفضلت علينا بالعيش الكريم.

  14. الغربة تعيد للانسان بعضآ من انسانيته ..
    وتعيد ايضآ الكثير من نضارته ولمعانه وتصلح ما افسدته الكتاحة وتذهب عنه الغباشة وعجاج المكشاشة .
    اعادك الله الي وطنك سالمة غانمة
    ونيابة عن كل احبابك اهديك :
    الغروب بسألني عنك
    وامسياتنا في شوق اليك

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..