أغنية الحقيبة ترياق الخلود وسره.. الكلمة أم اللحن أم حنين السودانيين للماضي؟

محاولة : أيمن كمون
تنفلت قبضة السنوات يوماً بعد يوم، عن كل شئ إنساني، وتتساقط الأجساد بهدوء وتهدأ الأنفاس، وتخبو الإضاءات وهي ترقب الخفوت الأزلي لكل الأصوات، ومن بعيد تضحك الشمس كل يوم على البشر بخبث العارفين المدركين، لأنها تعلم أن كل إنحناءة نحو المغيب تخصم مزيداً من الساعات منا ونحن ساهمون في الذكريات والأوجاع دون انتباه منا.
وبين هذه الملامح تشرق شموس الأفعال الإنسان الابداعية وهي تعلن عن تجسيد جسور جديدة للخلود كل صباح، في تحدٍ واضح للموت والغياب، لتوقع في يوميات العشاق وعذاباتهم، وتصبح جزءاً صامداً من حكاياتهم، أوجاعهم وذكرياتهم النبيلة الخفاقة، وبين هذا المغيب والشروق البشري السرمدي في السودان تقف أغنية الحقيبة التي تمثل عهداً من مزاج أهل السودان، ولغة ًسادت ثم خلدت ولم تزل كأنما بخلودها وجبروتها الكبير هذا تؤكد أن هنالك سر للبقاء يقاوم زهايمر السنوات، ويهزم جبروتها القاهر في كبرياء، ويبقى على جبين الكلمة واللحن والأداء يثير الدهشة .. كيف لها أن تستمر وتبقى وتخلد كل هذا الزمان.
نافذة أولى
حيث يحلل الأستاذ عبد الحليم أبو قصيصة هذه العناصر الثلاثة فيقول: (“طبيعة العمل الفني الغنائي هي طبيعة إنتاج جماعي، حيث أنه عادة ما يتداخل في إنتاج العمل الفني الغنائي شخصان فأكثر، ورغم أنه في تاريخ الإنتاج الغنائي السوداني تجارب إنتاج كامل بواسطة شخص واحد، إلا أن ذلك لم يكن القاعدة، بل الاستثناء، فضلاً عن أن ذلك لم يعد ممكناً في الوقت الراهن بطبيعة الاتجاه نحو التخصص، وأيضاً مع تطور وتعدد عناصر العمل الفني والتي كانت تقتصر سابقاً على الكلمة واللحن والأداء الصوتي. طبيعة تعدد عناصر العمل الفني الغنائي، وبالتالي تعدد المبدعين المشاركين في إنتاج العمل، تحرم العمل الغنائي من أن يخلق داخل مخيلة واحدة -مثل اللوحة أو القصيدة- وبالتالي فإنه ليس بمقدور أحد من المشاركين في إنتاج العمل الفني الغنائي تصور العمل بكامله من العدم داخل مخيلته منفرداً. هذه الطبيعة تجعل تفاعل وتناسق وتكامل عناصر العمل الفني الغنائي مهمة صعبة بتعدد المشاركة فيه واختلاف طبيعتها ودرجتها ولكن هذا في النهاية ما يكسب العمل الفني الغنائي طعمه كعمل متكامل (أغنية) وليس كقالب يحتل فيه كل عنصر مكاناً مستقلاً داخل هذا القالب المشترك. لذلك في اعتقادي أن جودة عناصر العمل الغنائي منفردة لا تنتج بالضرورة عملاً غنائياً جيداً، فالعمل الغنائي الجيد توليفة منسجمة ومتكاملة من جميع العناصر حتى ولو لم تكن أياً من العناصر بدرجة متفوقة من الجودة في الحالة المنفردة “.
يقول إبراهيم أحمد عبد الكريم في مقاله “تراثنا غير قابل للتحنيط” }جريدة سنابل- العدد 4- 10/6/96{ :( لم يفرض أحد أغاني الحقيبة علي جهابذة الغناء الحديث ولكن جميع الذين أحدثوا النقلة إلى الغناء الحديث أمثال إبراهيم الكاشف وحسن عطية وأحمد المصطفى وعثمان حسين وعثمان الشفيع وعبدالعزيز محمد داوود، تغنوا بأغاني الحقيبة وكبار الفنانين الذين جاءوا بعدهم أمثال عبد الكريم الكابلي ومحمد وردي ومحمد الأمين لم ينصرفوا عن أغاني الحقيبة. وحتى فرق الشباب المنتشرة في الأحياء تعتمد إلى حدود متفاوتة على أغاني الحقيبة لا لشيء إلا لأنها تجد القبول عند المستمع السوداني ويستقبلها بارتياح تام).
ويرى الأستاذ أسامة أحمد نور الدائم في نص مقاله الذي نشره على موقع موسوعة التوثيق الشامل على الإنترنت: (إن أهم أسباب خلود أغنية الحقيبة اعتمد على عدة عوامل أسهمت بقوة في تثبيت أقدامه وغرس أشعاره وألحانه عميقاً في وجدان الأمة السودانية، هذه العوامل:
أولاً .. البلاغة والبناء الشعري، ثانياً .. العامل الديني، ثالثاً .. العامل البيئي
رابعاً .. العامل الثقافي والاجتماعي، خامساً .. عامل الاحتكاك.
واستدل أسامة بما قاله الدكتور صلاح الدين المليك في كتابه (فصول في الأدب والنقد)، الأغنية القديمة حينئذ، أو تركبت من ثلاثة أجزاء:
أولها الوصف الجمال الحسي والمعنوي، ثم وصف الوجد وحرقة الجوى وآلام النوى ونيرانه وبعبارة أخرى الهيام، وتمجيد عفة المرأة واحتشامها وغيرة أهلها عليها وحفاظهم على سيرتها وسلوكها.
ويمكن أن نعدد المزيد من المميزات لكنا نعلم أن المساحات التي قد تبخل علينا من سرد كل التفاصيل هي التي تجعلنا نوقن أن هنالك مجموعة متكاملة من المكوّنات والمترابطات وراء هذا الخلود، وشكلت سبباً منح أغنية الحقيبة سر خلودها، وسقاها ترياق البقاء الذي جعلها تبقى مجيدة في وجدان السودانيين، ومدها بهذا اليقين المقدس في عقلهم الجمعي الراسخ.
التغيير