سوسن جميل حسن : الرواية خيارات أخرى لعالم أكثر رأفة

العرب
تعاين الحياة وتشعر بها مثلما تعاين المتألمين في عيادتها الطبيّة، تتلمّس أماكن الوجع وبواطن النفس وما يؤلمها بحواسها مجتمعة، ثم تفسح مجالا للوعي كي يضبط الحالة، في لغة علوم الطب تقول ضيفتنا الروائية السورية سوسن جميل حسن، إن هناك ما يدعى بالتشخيص التفريقي، وهو يقوم بتوجيه الطبيب إلى التشخيص الأكثر صحة بعد جمع الأعراض والعلامات التي يستخلصها من معاينة المريض،عندها الرواية التي لا تمنحها متعة طرح الأسئلة وإثارتها ودعوتها للتأمل لا تحمل تجنيس الرواية. ?العرب? كان لها هذا اللقاء مع الكاتبة.
سوسن جميل حسن الروائية والطبيبة السورية ولدت في العاصمة السورية دمشق ودرست الطب في الجامعات السورية وأصدرت أربع روايات، فازت بجائزة المزرعة الأدبية، تعرّف عن نفسها أنّها ?ابنة الأرض السورية?، نسألها في ظل الإخوة الأعداء اليوم من هو ابن الأرض السورية، فتقول هو من يسعى ويجاهد في سبيل قتل هذه الفكرة ?الإخوة الأعداء?، ابن الأرض السورية اليوم هو من يسعى إلى تكريس فكرة الوطن والانتماء إليه، هو من يسعى إلى النبش عن الإيجابيات والاشتغال عليها والعمل على تخليص المزاج العام من التمسك بالسلبيات وجلد الذات؛ ابن هذه الأرض هو من يقف بشجاعة في وجه الطغيان مهما كان نوعه ومصدره وينحاز إلى قضايا الشعب.
الرواية والواقع
الرواية عند سوسن حسن هي خلق عالم جديد مواز للعالم الحقيقي المحيط بنا، فهذا العالم- الرواية تلزمه كي يتحقق عناصر ورموز وعلاقات ضرورية من أجل صياغته وإقناع القارئ به، والرواية بقدر ما يكون واقعها مقنعا وجاذبا للقارئ، بقدر ما تحقق غايتها وتترك أثرها في نفسه.
هذه البنية المعمارية الإبداعية لا يمكن تحقيقها إلاّ بتلك العناصر والرموز الحاضرة في الوعي الجمعي ومنظومة المعارف المجتمعية فالواقع يتشكل من التفاصيل، كذلك العالم الروائي يبنى بالتفاصيل، التي ليست هي إلاّ العلاقات والأحداث والفعاليات والتفاعلات بين عناصر الواقع إن كان في الأدب أم في الحياة.
فالرواية كما ترى ضيفتنا تمثّل الواقع وتعمل على إعادة تشكيله من جديد وفي هذا القول محاولة لفهم الرواية باعتبارها نموذجا لواقع بديل يحلم به الإنسان من خلال إعادة تشكيل للحياة، وهي رؤية استباقية لما يمكن أن يحدث، أو تصور لخيارات أخرى حول عالم أكثر رأفة بالإنسان ومواكبة لطموحه واحتراما لكينونته. لا يمكن تشكيل هذا الواقع المتخيل إلاّ بموجب رموز الواقع نفسه، بعناصره ذاتها مع ابتكار علاقات فيما بينها بطريقة أخرى.
في أعمالها الروائية الصادرة تلجأ سوسن حسن إلى السارد الديمقراطي وتبتعد عن السارد العليم وذلك، كما ترى، لتمنح الشخصيات فرصة الإفصاح عن نفسها والتحرّك والنمو بحرية أكبر، كما أنها تحقق نوعا من متعة التشكيل لديها كونها تعايش الشخصيات وتتفاعل معها، هي التي تتطور وتكتسب ملامحها، وتعيش حياتها بما يملي عليها فضاء النص وروحه أيضا، كما أنها تؤمن أنّ السرد الديمقراطي يحمي الكاتب من الانزلاق إلى التنظير والشرح الذي بدوره يبعد القارئ عن العمل الأدبي أحيانا ويدفعه إلى الشعور بمفارقة النص والخروج من عالمه، فغياب ضمير الأنا يمكّن الكاتب من تقنية السرد ليستطيع استخدام أدواته واستثمار خياله، والمهمّ في العملية السردية حسب ضيفتنا هو أن تمتلك القدرة على إمتاع القارئ والتأثير فيه وإقناعه.
هذا الفهم المختلف يدفعنا إلى سؤالها عن الزمان والمكان بالنسبة إليها في أعمالها الروائية، خاصة وأنّها في روايتها ?النباشون? تناولت حيّا عشوائيا في مدينتها اللاذقية، لتسير أحداث الرواية تلك في فضاء زماني ومكاني محدّد لتقول إن الزمان والمكان بالنسبة إلى العمل الروائي هما حاملان فعّالان للأفكار ولرسالة العمل، وهما يشكلان الفضاء الذي تقع فيه الأحداث، وتعيش فيه الشخصيات، فالكاتب عندما يصوغ عمله يريد أن يقدم إلى القارئ منجزا إبداعيا يحمل رسالتين: المعرفة والمتعة، وهما لا يقلاّن شأنا عن الأسلوب اللازم للعمل، والعمل الروائي بما يقوم عليه من رسم عالم مواز للعالم الواقعي يقوم على الأحداث، والأحداث هي حركة في المكان تستحضر الزمن أو تجلي مفهومه. أما الحدث كما تؤكّد لا يختزل في مجرد الحركة، وإنما هو دال على نشاط الإنسان، في فضاء المكان خلال فترة من الزمن.
الأديب والسياسة
العشوائيات تصفها ضيفتنا بالنموذج لقاع المجتمع السوري، سكانها أناس سوريون بأحلام منتهكة وطموحات مجروحة، وبكثير من انعدام الأمل تحوّلت إلى قنابل موقوتة في الزمن السوري الراهن، وهذا أمر بديهي -كما تقول- فمن الإنصاف الاعتراف أن الحراك في سوريا لم يأت من الفراغ فكان نتاج لتراكم ثقافي فكري وفلسفي وأدبي ونقدي ومسرحي ودرامي وكل أنواع الفنون، التي سلّطت الضوء على انتهاك كل القيم المتمثّلة بالكرامة والعدالة الاجتماعية وحرية الفكر والتعبير، واستقلال الإرادات، وغيرها، هذا كان بمثابة محفز لنشوء نزعة التمرّد على الواقع.
حديث الكاتبة سوسن حسن عن الانفجار في سوريا دفعنا إلى سؤالها عن دور المثقّف في ما حدث ويحدث، لتقول ?إنّ ما يطلق عليه النخبة، مثلهم مثل أي مواطن يعيش الأحداث الراهنة، أذهله الحراك الشعبي، وأربكه مساره، وهو الآن يقف حائرا وذاهلا أمام المصير الذي وصلت إليه البلاد?، لذلك تصرّ على مكانة المثقف، وترى في الزاوية المطلة على المشهد، والتي يمكن من خلالها متابعة ما يجري والوقوف موقفا نقديا منه، تختصر رؤيتها بضرورة استقلال المثقف عن السياسي أو عن السياسة بشكل عام لينحاز إلى الإنسان وقضاياه.
مهمّة المثقف الأساسية حسب الطبيبة الروائية ليست تعبئة الجماهير ودفعها إلى التمرّد، فهو رافعة الثورات وليس أداتها أو محركها. وليس دوره الأساسي استشراف مصير الثورات، لكن عليه دور كبير -والحديث لضيفتنا- وهو أن يكون فاعلا في الحراك، بمتابعته ورصد التحوّلات التي تطرأ على الواقع والبنية المجتمعية والوعي العام ومنظومة القيم، وعليه أن يكون جريئا في موقفه النقدي تجاه كل ما يحدث. ربما كان المثقف الذي دفع ثمن مواقفه وآرائه وأفكاره في زمن الاستبداد يتنبّأ بتمرّد ما، هكذا هو منطق الأشياء، إنما تظنّ أنّه كالجميع فوجئ بالفعل وبتحوّل هذا التراكم إلى ممارسة.
حديثها عن دور المثقف المراقب المنتظر للحدث دفعنا لإثارة ما قام به الأدب من مرافعات دامية أمام الاستبداد في سوريا، لتعلّق حسن إنها لا تستطيع فهم المواجهة بين الأدب والاستبداد من هذا المنظور ?المواجهة الدامية? لأنها توحي بالعنف وباستخدام أسلحة لا يستخدمها الأدب. الدم هو نتاج العنف والقتل بكل أشكاله، والأدب يختص بصناعة الحياة، الأدب يزهر حتى بين القبور.
ودوره اليوم وفي كل يوم وفق رؤية ضيفتنا هو الرقي بالشعوب والمجتمعات على المستوى الفكري والروحي. حتى في زمن الأعاصير، مثل الإعصار السوري، على الأدب ألاّ يفقد بوصلته وألاّ ينزلق إلى ميادين القتال الدامي، عليه أن يقاوم بالأمصال المضادة التي تحصن ضدّ كل أشكال الخراب الإنساني والمجتمعي.