اليسار في السودان إلى أين (15)؟

الحلقة الخامسة عشرة.. اليسار العربي.. تساؤلات حيرى!!
وإذ تتفجر التساؤلات حول ارتباط السودان بفضائه العربي قوية كسيل الوادي المنحدر ثم لا تلبث أن تهدأ ثورتها قليلاً حتى تتفجر بطريقة أشد وطأة وأقوم قيلا. وعمقت إشكالية التنوع الثقافي في السودان من حدة المسألة وكستها بضرب من الجادة. وفي ستينات القرن الماضي شد المشهد السياسي والثقافي تداعيات مساجلة ساخنة بين الراحلين النور عثمان أبكر وصلاح أحمد إبراهيم إذ تساءل الأول بمقالة نشرت بجريدة الصحافة في 19 سبتمبر 1967 بعنوان : (لست عربياً ولكن)!!.. فرد عليه الآخر في نفس الجريدة بتأريخ 25 أكتوبر 1967م بمقالة بعنوان :(بل نحن عرب العرب ) وذهب صلاح إلى : (إن البحث عن خلوص شعب للعروبة مطلب غير مجدٍ. فما من شعب عربي إلا أختلط بـ “دماء الأعاجم”. حدث في مصر والجزائر ولبنان. فقَل العربي القح). لكن سيل الأسئلة لم يتوقف ولم يعد بلد عربي بمنجاة من عذابات سؤال الانتماء والهوية الحارق حتى الآن.
تحقيق : خالد فتحي : علاء الدين محمود
المزيد من الجدل
وبين مرافعته تلك لم يدع صلاح نصاً شروداً وإلا وتقفى أثره ليبين للناس بأن السؤال لايخصنا وحدنا لكنه يطرح بكل الأقطار العربية على نحو أو آخر :” في موريتانيا أثاروها فتنةً شعواء لأن موريتانيا قررت إدخال العربية في تعليمها الرسمي، وقالت ألسنة الاستعمار المحلية: إن شنقيط ليست عربية ..في المغرب يسعون بالوشاية بين عرب المغرب وبربرها.. في الجزائر يقولون: إن التعريب نكسة للوراء، فالجزائر ينبغي أن تظل فرنسية وأن تظل قبلية..في تونس خائن العروبة بورقيبة يأخذ زمام المبادرة مع سنغور في الدعوة لمجموعة البلدان المتكلمة بالفرنسية .. تلك الدعوة التي ركلتها الجزائر التي هي أكثر اعتماداً على الفرنسية..في مصر أصوات ما فتئت تسمع من حين لآخر تقول بالفرعونية وبطريق مصري منفصل..في لبنان لا يزال صراع ضار من أجل إثبات عروبة لبنان .. هناك يبكون على أجدادهم الصليبيين ويحنون إلى فرنسا الأم الحنون، وهناك من يبكون على فينيقيتهم وعلى صور وعلى صيدا!. في سوريا ما فتىء القوميون السورييون يعملون على إطفاء نور العروبة في أعز قلاع العروبة، وهناك من يبكي للسان السرياني ولا يري في العروبة إلا طاعوناً وبيلاً وصليباً تحمله سوريا وهكذا.
الإستواء معلوم
وإذ تستوي حركة القوميين في السودان على رافعتين فكرتين سياسيتين أولاهما حزب البعث العربي الاشتراكي وأخراهما ثورة 23 يوليو 1952م المصرية. والتيار القومي ينطلق من إيمان عميق بالأمة العربية،وتراثها الحضاري، وتعتبر الاستعمار بأشكاله المختلفة عدوها، وغايتها بناء الأمة على أسس عصرية باستلهام الماركسية لبناء مجتمع الكفاية، وسمي هذا النهج بـ(الاشتراكية العربية) أو (تعريب الماركسية).
ورأى فيه كثيرون محاولة جادة لتنزيل النهج الماركسي بما يكفي لنهضة المجتمع مايعني بالضرورة عدم التقيد الصارم بنصها كاملاً. واعتبرت تلك التيارات نفسها على نحو أو آخر حارسة لفضائل الإسلام ودوره التقدمي في استنهاض المستضعفين في الأرض والوقوف بصلابة ضد استغلال القوى الرجعية المتمثلة في حركات الإسلام السياسي والتيارات المتحالفة معها للدين لتحقيق أهدافها في سوق الشعب عن طريق الاستكانة وإذلال الخصوم السياسيين كما صدع المفكر محمود محمد طه في حيثيات محاكمته الشهيرة التي انتهت بإدانته بالردة وإعدامه في يناير 1982م.
توابع الزلزال
ولا غرو أن التصورات والرؤى الماركسية كانت أعمق مما أبصر قادة التيارات القومية الذين شعروا أن بالإمكان تفادي “توابع” أو أثر الهزة العاتية التي أعقبت زلزال انهيار الاتحاد السوفيتي باعتبار أن المثال المنهار تصورات ماركس للاشتراكية وليس أمثولة القوميين في الاشتركية. ويؤكد فتحي محمد الحسن في مقالته : (التجديدي والسلفي في بعث السودان):” للوهلة الأولى شعر البعثيون أن انهيار المعسكر الاشتراكي رغم دلالاته السالبة وما ألقاه من ظلال على فكرة الاشتراكية، لا يشكل ضغوطاً فكرية على البعث بحكم التمايزات الواضحة للتصورات البعثية للاشتراكية عن نظيراتها الماركسية وفكرياً يوحي بذلك الشعور أن ماحدث ليس أكثر من سقوط التصورات الماركسية غير أن الأمر يتعدى ذلك الشعور التبسيطي. فثمَّ التقاء فكري بين اليسار القومي واليسار الماركسي واليسار العربي استعار التصورات الماركسية وعلى وجه الخصوص تطبيقاتها للديمقراطية الشعبية”.
الخلايا الأولى
أما أحد أبرز مؤسسي التيار القومي وحزب البعث بالسودان محمد علي جادين فيقول في مؤلفه القيم ( صفحات من تأريخ التيار القومي وحزب البعث في السودان): بدأ نشاط التيار القومي الاشتراكي في السودان في الوسط الطلابي في الجامعات والمدارس الثانوية في خمسينات وبداية ستينات القرن الماضي”. ويضيف:” إن هذه التنظيمات لم تنشأ حلقات فكرية هدفها القراءة والدراسة والمناقشة، وإنما كانت منذ نشأتها تنظيمات سياسية مناضلة لها مواقف معلنة حول كافة القضايا الوطنية والقومية والعالمية، وكان لها موقف معارض معلن ضد حكومات الائتلاف الحزبي قبل 1958م، وضد انقلاب نوفمبر 1958م، ونظامه الديكتاتوري وكانت لها صراعاتها الفكرية والسياسية مع التنظيمات الطلابية التابعة لحركة الأخوان المسلمين والحزب الشيوعي وغيرها”.
ويمضي جادين ليقول :” كل هذا لم يؤد إلى تأسيس تنظيم بعثي في السودان حتى العام 1960م، حيث تأسست أول الخلايا البعثية داخل تنظيمات حركة التيار القومي الاشتراكي عن طريق الراحل د. حسن أحمد عبدالهادي، أول سوداني يعتمد رسمياً عضواً في حزب البعث عندما كان يدرس الطب في جامعة بغداد ثم تحوَّل إلى جامعة عين شمس بعد طرده من العراق ضمن مجموعة كبيرة من الطلاب العرب”. بعد تصاعد الخلاف بين القوميين العرب بقيادة عبدالسلام عارف من طرف ونظام عبدالكريم قاسم والشيوعيين من طرف آخر.
سر علني
بعد انفصال مصر وسوريا نظمت الجبهة العربية الاشتراكية مظاهرة في جامعة الخرطوم وتحركت إلى ميدان أبوجنزير وسط الخرطوم وسارت حتى بلغت جامعة القاهرة فرع الخرطوم، وهناك التئمت بها مظاهرة أخرى نظمتها الطليعة التقدمية وواصلوا طريقهما حتى السفارة المصرية بالخرطوم وخاطبها محمد سليمان الخليفة الذي لقي مصرعه في تحطم طائرة كانت تحمل عتاداً حربياً بعد انقلاب هاشم العطا وتحركت بغداد استجابة لطلب زعيم الحزب الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب الذي طلب دعماً من نظام البعث العراقي لتثبيت دعائم الانقلاب الوليد.
ومع الظهور العلني وفض مغاليق سر التنظيم وخروجه إلى ساحة المنافسة العامة طفا الجدل حول ترتيب الأولويات على السطح ودبت الخلافات بين مجموعة جامعة الخرطوم ومجموعة جامعة القاهرة، فالأولى كانت تركز على البعد القومي والشعارات القومية العامة بشكل رئيس وعلى القضايا الوطنية بدرجة أقل أو ربما خطاً تابعاً للخط القومي والثانية كانت تركز على القضايا الوطنية بشكل أساسي وعلى القضايا القومية بدرجة أقل، وهذا الخلاف كان له تأتيراته في الخط السياسي وتكتيكاته.
الشيوعيون والقوميون
“شهدت مطالع سبعينات القرن الماضي تحولات أساسية في هوية وتوجهات حركة التيار القومي والاشتراكيين وتعددت اللقاءات بين الشيوعيين والبعثيين بعد ظهور الصراع داخل الحزب الشيوعي بين التيار الموالي لانقلاب مايو بقيادة أبوعيسى وسورج وأحمد سليمان والتيار الذي يعمل على تطويره إلى ثورة وطنية ديمقراطية من موقع مستقل، وشارك في تلك اللقاءات شوقي ملاسي وبدر الدين مدثر ومحمد علي جادين واسحق شداد من الاشتراكيين العرب وعبدالخالق محجوب وعز الدين علي عامر والتجاني الطيب من الشيوعيين، ونظمت زيارة مهمة لفاروق حمد الله لبغداد ماجعل أجهزة الأمن بنظام نميري تشيع أنه ذو صلة تنظيمية بحزب البعث” حسبما ماذكر جادين في مؤلفه المشار إليه سابقاً.
ويضيف جادين :”في 1972م دارت مناقشات حول خطة تحويل تنظيم الاشتراكيين العرب إلى التنظيم البعثي وانتقادات حادة حول الغرق في العمل السري والتنظيمي وإهمال النشاط السياسي وسيطرة التوجهات المركزية على حساب الديمقراطية الداخلية، وطرحت مبادرة لتبني الماركسية لحل الأزمة الفكرية، وكان علي الريح السنهوري ومحمد عثمان أبوشوك من أشد المؤيدين لهذا النهج الذي جرى التراجع عنه، لأنه يتناقض مع تطور الفكر البعثي”.
دوي الراجمات
وفي بضع سنين تألقت حركة القوميين العرب بالسودان متوشحة بوهج التجربة الناصرية المستمدة من الحضور الأسطوري لجمال عبدالناصر الذي تحوَّل بضرورات المعركة ضد الاستعمار الغربي وإسرائيل والقوى الرجعية وتنبى نهج وطني لتفكيك دولة الإقطاع لصالح مجتمع العدل والكفاية من بطل عادي إلى بطل ملحمي أشبه بـ”هيركليز” و”اخيل” و”اودسيوس” في مخيلة الكادحين والحزانى والمتعبين والمستضعفين في الأرض.
ولم تقف حركة القوميين بالسودان وأشياعهم في كسبها عند تقديمها لتصوراتها لفلسفة الحكم والسياسة عن حد شخصية عبدالناصر وتجربته وحدهما، بل كان هناك “كسوب” مباشرة المتمثل في الرفد المالي والتنظيمي والسياسي الذي يتدفق من شقي البعث العربي بقطري سوريا والعراق والأخير بنحو خاص، والذي بلغ تجلى في المدد العسكري الذي أعطى لمرشد السجادة الختمية وزعيم الحزب الاتحادي الديمقراطي محمد عثمان الميرغني في العام 1988م، وأسهمت الراجمات العراقية في تمكين الجيش السوداني من استعادة بلدتي الكرمك وقيسان بالنيل الأزرق من أيدي مقاتلي الجيش الشعبي، وأحدثت الراجمات العراقية دوياً هائلاً تعدى ميادين القتال إلى أطراف بعينها محلياً وإقليمياً ودولياً بأن العرب لن يتركوا السودان يمضي إلى الصراع وحده، لشعورهم بأن المعركة واحدة وأن تعددت جبهات القتال.
وعزز ذلك الشعور عندما أطلق العراقيون شعاراً بأن السودان يحمي البوابة الجنوبية للوطن العربي بينما ظلوا يحمون هم البوابة الشرقية ضد جحافل الفرس المعتدين كما كانوا يسمون حربهم الضروس مع إيران التي امتدت لثماني سنين حسوماً.
ولعل تلك العلاقة لم تنشأ من الفراغ أو بين عشية وضحاها لكن قبل ذلك بكثير إذ مهد لها كثيرون في أزمان وأماكن شتى كان أبرزهم الراحل الشريف حسين الهندي حسبما قال القائد البعثي الراحل حسين ملاسي في مؤلفه : (أوراق سودانية) :”إن الهندي توطدت علاقته ببغداد وقرأ الكتب والوثائق التي وفرت له بتركيز شديد وأبدى إعجابه بالفكر البعثي وتأسف أنه لم يطلع عليه في الفترات السابقة، وأشار إلى أن حزب البعث امتداد طبيعي وحديث للحزب الاتحادي الديمقراطي، ولذلك طلب دمج الحزبين في حزب واحد، لكن المناقشات أقنعته بالتحالف. فقبل التحالف مع البعث دون أي حسابات”. ولا تزال طائفة من الاتحاديين يضعون حزبهم في خانة أحزاب يسار الوسط وربما بتأثير أفكار الشريف واختراقاته تلك.
انغراس عميق
بالرغم من كل ما تقدم بدت تجربة القوميين العرب بالسودان أشبه بالتنظيمات الفوقية التي لم يكتب لها الانغراس عميقاً في التربة السودانية ربما كانت استبطاناً لرفض قطاعات مقدرة بالمجتمع السوداني لأننا عرب ومن هنا بدأت أولى مشاكل القوميين المتثملة في شبهة إعلاء العنصر وكلما تصرمت السنون تزايدت حدة السؤال عن الانتماء والهوية ولعبت قضية الجنوب دوراً لافتاً في هذا إيقاظ السؤال وجعله متقداً على الدوام. ولم تنطف جمرته الواهجة بانفصال الجنوب أو استقلاله في 2011م، بل أطلت مرة أخرى مع تفجر الصراع بتخوم “الهلال الدامي” في إقليم دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق وأخيراً التهاب أقاصي شمال السودان متزامناً مع قضية السدود.
ويدفع د. بكري محمد خليل أحد مؤسسي التيار القومي بالسودان عن حزبه شبهة التحيز لعنصر أو إدعاء تفوقه على الآخرين ويبين ذلك في مؤلفه (هوية السودان الثقافية) بأن :” رسالة البعث هي رؤيته المستمدة من دور العرب الحضاري واسهامهم التأريخي في دفع مسيرة الإنسانية وإعلاء قيمها وهذه النظرة لم تكن أبداً مدعاة للتفوق على الآخرين، لأن البعثيين ببساطة ليسوا رسل العناية الإنسانية”.
لكن د. بكري يبلغ نقطة مهمة في هذه المكاشفة كانت أشبه بالاعتراف بأن :” البعثيون أصيبوا في العقود الأخيرة بهاجس النزعة التطهرية وهي نزعة تنقلب إلى انزواء وتأفف خشية الاقتراب من القوى السياسية الأخرى”.
لكنه عاد ليعطى رفاقه وصفة لأبطال سحر تلك النزعة التطهرية التي مستهم بأن :” عليهم المزيد من الانفتاح على سواهم دون تقديس لذاتهم الجماعية أو برامجهم وعقيدتهم وذواتهم وهذه أخلاق الرسالة”.
تقاطعات حادة
التباين والخلط الواضح بين الاستراتيجية والتكتيك وبين مطلوبات الخط القومي وضرورات الدور الوطني – والذي ساد منذ بدايات ظهور التيار القومي بالسودان- استفحل حتى أوشك أن يضيع التنظيم نفسه لالتباس الرؤية ليس هذا فحسب، بل كثيراً ما جر البعثيين إلى مواطن الزلل ومواضع الشك والريبة والاتهام بأن همهم الأول والأساسي منصب على القضية القومية، وأن القضية الوطنية تأتي في المرتبة الثانية من اهتماماتهم. وأن الإشارة لابد أن تأتي إليهم من الخارج، وحتى وأن كانت تلك الإشارة المستلمة تتقاطع بطريقة حادة مع إشارات تتصدر من الداخل.
ويسوق الذين يرمونهم بهذا الاتهام نماذج كثير لكن هناك أمثلة يمكن أن تعطى صوراً حية لتلك الإشارات مثلاً الرسالة التي بعث زعيم حزب البعث بالسودان بدر الدين مدثر من مقر إقامته بالعراق في أبريل 1991م، يعلن فيها تأييده باسم الحزب لقيام المؤتمر القومي العربي والإسلامي الذي أسسه حسن الترابي. في وقت كانت جباه المعارضين وأجسادهم تنزف الدم والألم والمرارة داخل معتقلات النظام الوحشية وتعاني تعذيباً يفوق طاقة احتمال البشر داخل بيوت الأشباح .
ولم يقف الأمر عند ذاك حد رسالة بدر الدين الكارثية فقد تبعتها رسالة أخرى من علي الريح السنهوري تدعو للاستفادة من أجواء المشاركة في سلطة الإنقاذ لإعادة بناء الحزب. وتبلور ذلك الخط المهادن إثر لقاءات وحوارات مع أقطاب نظام الإنقاذ جرت خارج السودان في سني حكمها الأولى.
لكن ثمَّ ضوء لاح عند نهاية النفق الشديد الإظلام بأن قوبلت تلك الرسائل بمعارضة قوية للغاية ورفضاً واسعاً في الداخل وأرسلت قيادة الداخل رداً مطولاً برفض الفكرة وتنصح بالاستمرار بالتجمع الوطني الديمقراطي.
بالرغم من إدراكهم التام بأن ماتقدم من إشارات الخارج كان نتيجة حتمية لتأييد نظام الإنقاذ لنظام صدام في غزوه للكويت ولم تجد قيادة الحزب بالخارج مفراً من مسايرة بغداد والاتجاه لابتدار خط تصالحي مهادن مع نظام الإنقاذ، في وقت لم تكد دماء الضباط المنتمين إليه تجف عقب إعدامهم بتهمة التدبير لانقلاب رمضان الشهير، ولا برأت جراح المعتقلين في أقبية التعذيب، ولا هدأت أرواح الذين خسروا المعركة غير المتكافئة مع الجلاد.
التزام وانقسام
غير أن التزام بعض قادة الحزب بالشق القومي كان يفوق كل التصورات لقد كان شيئاً أشبه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها وعلى سبيل المثال فانتماءات بدر الدين مدثر القومية كانت أقوى من أي التزمات أخرى، فالرجل عاش في العراق منذ عام 1973م حتى سقوط النظام عام 2003م حين عاد إلى الخرطوم بتكتم شديد، وقد شكَّل بدر الدين مدثر مع قاسم سلام (يمني) وعبد المجيد الرافعي (لبناني) قيادة قومية ثلاثية للحزب بديلاً عن القيادة التي تشتتت باعتقال أعضائها من العراقيين.
وخلال عضويته في القيادة القومية عندما كان يعيش في العراق كان مدثر مسؤولاً عن تنظيمات الحزب في الدول الأفريقية العربية .. وطوال وجوده في العراق لثلاثين عاماً لم يعرف عنه تدخلات في شئون السلطة حيث كان منصرفاً للقضايا التنظيمية إلى أن تمكن من مغادرة العراق عام 2003 عائداً إلى بلاده ليواصل نشاطه الحزبي القومي والقطري منها. وذكرت مجلة (المجلة) اللندنية ذائعة الصيت: “إن بيته كان الملاذ الآمن الذي يجد فيه الرئيس صدام حسين الاطمئنان”.
وأيضاً ما تقدم يشير بجلاء أن حزب البعث ليس بدعاً من تماوجات الصراع الخفي بين قيادة الداخل والخارج، إذ تنصرف قيادات الخارج إلى توفير الدعم السياسي والمالي لقيادة الداخل التي تتولى إدارة المعركة بالنار والدم، وفيما بعد عندما تضع الحرب أوزارها يبدأ كل طرف حتى أن لم يصدع بذلك في تقييم وحساب من الذي دفع الثمن الباهظ في المعركة؟.ومن هنا يتفجر الصراع كما حدث وسط البعثيين الذي وصل ذروته في أروقة بالانقسام الشهير في العام 1997م.
مفترق الطرق
عمق الخلافات التي وضعت الحزب على مفترق الطرق وقادت لانقسام 1997م الفاصل لم تكن وليد اللحظة بأي حال، لكنها نتاج تراكمات طويلة الأمد، وان اتخذت أشكالاً مختلفة بينها تنظيمي مؤسسي يتعلق بالاختلافات والخلافات حول أسلوب إدارة الحزب وترتيب مواقفه ورؤاه حول مختلف القضايا.
أولى هذه الأزمات حدثت إبان حرب الخليج الثانية التي سميت بـ”عاصفة الصحراء” حيث أعلنت الحكومة السودانية مساندتها للعراق ضد الحرب التي قادتها دول التحالف “الثلاثيني” لتحرير الكويت، ولما كان التجمع الوطني الديمقراطي يعتمد على دول الخليج في الدعم السياسي والمالي وأسقط في يديه وتنازعوا أمرهم حتى انتهوا بتأييد ضرب العراق. في المقابل لم يجد البعثيون مفراً من مظاهرة قيادته القومية في بغداد، وبالتالي أعلن دعمه ومساندته لنظام صدام حسين ضد قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية .
ولسوء الحظ وجد البعثيون أنفسهم في خندق واحد مع نظام الإنقاذ الذي اتخذ موقفاً مسانداً للنظام العراقي ومخالفاً لتوجهات معظم الدول العربية ماعدا الأردن واليمن والتي عرفت لاحقاً بـ”دول الضد”.
وفيما بعد قادت “أخوة الخنادق” لإظهار حزب البعث بالسودان نوعاً من المرونة إزاء النظام، وبدأ التخفيف من حدة خطاباته المناهضة للنظام ربما لشعوره بالإمتنان لهذا الموقف.
لكن التوترات وسمت علاقة الحزب بالتجمع الوطني المعارض بسبب تباين موقف الطرفين من أزمة الخليج ، وانتهت موجة التوتر بطرد الحزب من التجمع وهياكله ومهدت تلك الواقعة لاحقاً لأخطر إنشقاق بهياكل حزب البعث والتي لا يزال يعيش أثارها المدمرة إلى يومنا هذا.
لكن التيار الذي أسس حزب البعث السوداني بعد انقسام 1997م الشهير اجتهد لوضع الحزب في مساره الصحيح ورفع شعاراً بأن الموقف الوطني الصحيح يقود إلى الموقف القومي الصحيح وهذا يمثل قطع مباشرة مع التبعية، ويعطي الحركة خصائصها السودانية. مع التسليم بأن الذين سايروا نهج نظام الانقاذ وكالوا الاتهامات للتجمع الوطني كانت أعينهم على مصلحة العراق قبل مصلحة السودان.
ثم ماذا بعد هذا ؟
في مقالته :(نظرة نقدية للحركة القومية ونموذج حزب البعث السودان ) يقول ضياء الدين ميرغني الطاهر:” إن المتتبع لمسيرة الحركة القومية وتطور فكرتها يلاحظ أنها تعرضت للعديد من الصعوبات النظرية والعملية التي وصلت بمرور الوقت إلى حد الأزمة مما يجعل طرح السؤال التالي أمراً موضوعياً ومشروعاً من داخل وخارج الحركات المعنية : هل مازالت الفكرة القومية العربية وأطرها التنظيمية تلبي حاجة المواطنين العرب السياسية؟ بل هل مازالت هذه الأطر وفكرتها تلبي حاجة المواطنين العرب العاطفية، أي شعورهم المصدوم والمهزوم بعدم تحقيق تطلعاتهم وأمانيهم من خلال أنظمة الحكم التي حملت لواء القومية والوحدة العربية ؟” ونضيف هل لايزال بإمكان القوميين البعثيون منهم والناصريون التعويل على أفكار وتصورات منظري ومفكري حركة القومية العربية وقبلهم ماركس بطبيعة الحال فحسب باعتبارهم حجر الزاوية في البناء الاشتراكي؟ أم أن هناك تطورات فكرية وسياسية لابد من أعمال النظر فيها والانتباه إليها؟
الحلقة الأخيرة .. البحث عن غد.
التيار
وخاطبها محمد سليمان الخليفة الذي لقي مصرعه في تحطم طائرة كانت تحمل عتاداً حربياً بعد انقلاب هاشم العطا وتحركت بغداد استجابة لطلب زعيم الحزب الشيوعي السوداني عبدالخالق محجوب الذي طلب دعماً من نظام البعث العراقي لتثبيت دعائم الانقلاب الوليد.
ارجو التاكد من المعلومة قبل النشر هذا تدليس ومزايدة في التاريخ