العالم صورة تتشكل من الكتابة وفنون الطباعة إلى العصر الرقمي

الباحث عبدالعالي معزوز يسعى في كتابه إلى توضيح التحولات الطارئة على الصورة منذ ظهور الكتابة وما تلاها من تغيرات خلال العصر الرقمي والافتراضي.
العرب
محمد أشويكة
صدر مؤخرا ضمن منشورات ?أفريقيا الشرق? كتاب قيّم للباحث وأستاذ الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بمدينة الدار البيضاء عبدالعالي معزوز، تحت عنوان: ?فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل?، ويتكون من 240 صفحة من القطع المتوسط وست صفحات ملحقة تتضمن لوحات تشكيلية توضح بعض ما جاء في متن الكتاب.
يتشكل معمار كتاب ?فلسفة الصورة: الصورة بين الفن والتواصل? للباحث المغربي عبدالعالي معزوز، من تقديم وفصل أول يعنى بقضايا وإشكالات الفن المعاصر، وفصل ثان يتناول فلسفة الفن المعاصر، وفصل ثالث ينتقد ويفكك ثقافة الاتصال والصناعة الثقافية، وفصل رابع يهتم بأنظمة الصورة ورهاناتها، وفصل خامس وأخير حول تفكيك آليات الصناعة الثقافية فضلا عن خاتمة وبيبليوغرافيا.
منذ العتبة الأولى يصرح الكتاب بمضمونه معلنا انخراطه الجاد في التصدي لإشكالية الصورة في عالمنا الذي أضحى صورة في حد ذاته، فمنذ أن ينخرط المتفرج في المشاهدة، ويلج ?كهف? الصورة، ينشد أيما شدّ لجذبها وفتنتها، ثم يسقط في شباكها ويتسرب التأثير إلى نفسيته.
ترى ما الدور الذي تلعبه الصورة في عالمنا المعاصر والراهن؟ ما هي رهاناتها؟ ما الأفكار والأيديولوجيات التي تمررها علنا أو خفية؟ وما حدود الحياد في صناعتها؟ إلى أيّ حدّ تساهم في توجيه الأفراد والجماعات؟
نظرة فلسفية
منح كل من الفيلسوفين فيخته وبرغسون قيمة كبرى للصورة قصد فهم روح العالم المعاصر. فالفيلسوف هنري برغسون حاول في كتابه ?المادة والذاكرة? ربط الصورة بمعالجة قضية الإدراك من وجهة نظر نفسية فلسفية، بينما سلك الفيلسوف فيخته منحى مغايرا للمنظومة المثالية المتعالية، وهو يبحث في دراسة الكلمات الخاصة بالبحث عن الله، وهو المبحث الذي سيتحول في ما بعد إلى مذهب يخص البحث في الصورة.
فالصورة مجال لتداخل المقدس والمدنس، وهي منتج إنساني يشير إلى نشاط الذات، إذ لم تصنع قط لتكون بعيدة عنها، كما تفصح عن ذلك استعمالاتها أو تداولاتها الراهنة.
ترتبط الصورة، بعدة حقول معرفية وجمالية وعملية وتكنولوجية مما يطرح قضية الانفتاح على مناهج علمية متعددة لفهمها وتفسيرها، وذلك ما اعتمده الباحث عبدالعالي معزوز في مؤلفه الرامي لفك شفرات الصورة من خلال الاستعانة بالفلسفة وسيميولوجيا الصورة وسوسيولوجيا الوسائط والميديولوجيا وعلم الأيقونات وإستيتيقا الصورة، مما أغنى منهجه النقدي، وهو المطّلع على غنى مصطلحات مدرسة فرانكفورت أو ما يسمى بالمدرسة النقدية.
يقول المؤلف في مقدمة الكتاب ?حاولنا في الباب الثاني إعمال منهج نقدي في فك ما استغلق من آليات الصناعة الثقافية وأنماط إنتاج الصورة السينمائية والتلفزيونية، دون إغفال الحوامل الحديثة المتمثلة في التكنولوجيا الرقمية، وفي قراءة رسائلها الصريحة والمضمرة، يرافق ذلك كله مجهود فلسفي اقتضى التزود بشبكة مفاهيم وبجملة استشكالات، أسعفنا في طرح القضايا في مواضعها والمفردات في سياقاتها? (ص: 5 و6).
لقد أتاح هذا التعدد لصاحبه أن يتقصى مختلف تمظهرات الصورة استنادا على مقاربة مختلف منظوماتها، فالصورة ناقلة للمعلومات، وهي حاملة للخطابات والرسائل الدعائية، ومجال للتعبير الجمالي والإبداع الفني.
عندما نكون بصدد فهم صورة معينة، فإننا لا نكتفي بالنظر وإنما تتداخل عمليات التأمل والتخيل والحلم، فموضوع الصورة لا يجعل وعي الفرد مستقلا، لأنه يدعوه للانخراط في بلورة تصوره الخاص، انطلاقا مما يراه سواء كان ذلك ساذجا أم ذكيا. هذا مع العلم أن النظر إلى صورة معينة، لا يعني أن النّاظر قد تمكن من فهمها، وذلك ما يجعل الصورة قابلة لتأويلات لا حصر لامتداداتها.
يسعى الكتاب إلى توضيح التحولات الطارئة على الصورة منذ ظهور الكتابة، وتطور فنون الطباعة وما تلاها من تغيرات خلال العصر الرقمي والافتراضي، الأمر الذي جعلها تكتسب قيمة ثقافية كبرى في حياتنا الثقافية الحديثة، والتي تتجلى في حضورها شبه المطلق، وكذلك عبر هيمنتها على مجريات الأحداث والتأثير فيها، وتوجيهها للرأي العام، وتحويلها لمآسي الفرد إلى مجرد صور للاستئناس، مما جعلها تنزاح إلى عالم الاستعمال، لتنغمس في قطاعات الإشهار والتسويق والصناعات الترفيهية والثقافية، عبر توظيف النجوم وكافة أشكال المؤثرات البصرية.
خصوم جدد
يطرح الباحث مسألة مواجهة الفلسفة لخصومها الجدد، والذي وصفهم بالأكثر شراسة من السفسطائيين على عهد سقراط وأفلاطون، والذين يتمثلون في الاتصال والمعلومات وعلم التسويق، مستندا إلى رأي جيل دولوز الذي اعتبر في كتابه ?المحادثات? أن الإعلاميات والاتصال والتسويق التجاري، هي التي تستحوذ اليوم على كلمات ?مفهوم? و?إبداع? (ص: 216).
وبذلك فالفلسفة لم تستنفد قواها لأنها تقاوم تسليع العالم، وتشيّؤ الإنسان، واختصاره إلى مجرد كائن يستهلك أو يهيم متنقلا بين الأسواق الصغرى والكبرى، وهو يدفع عربته الصغيرة الرامزة إلى الاستهلاك الأعمى الذي بات يحدق بأواصر الأخوة والتضامن، ويقضي على إنسانية الإنسان، ويقوي جشع الرأسمالية التي لا تدخر جهدا في رضوخ الناس لمغرياتها بواسطة الصورة.
يسجل الباحث المتأمل بأن الصورة قد صارت وسيلة فعالة لترويج أفكار العولمة الرهيبة، ودمج الثقافات ضمن ثقافة واحدة تتبلور عبر سياق مفتوح تتحكم فيه الرقمنة التي تهدف إلى تمرير الهيمنة عبر الوسائط البصرية، وتشجيع الاستهلاك كجزء لا يتجزأ من الرفاهية الراهنة إلى الدرجة التي لا يمكن الإفلات منها تحت ضغط إغراءات الصورة.
رغم ذلك يسعى الكاتب إلى مقاربة الصورة وفق رؤية فنية تستحضر تاريخ الفن، وتستعين ببعض تياراته للوقوف عند خاصياته الفنية والتعبيرية، مستندا على بعض الفلاسفة الذين ربطوا الفكر بالفن من أمثال دولوز وديريدا وفوكو، خاصة وأن الكثير يشكك في أن ?الفن يفكر? ناكرا أشكال التجاذب بينهما، ما دامت الفلسفة تعمل على بلورة المفاهيم، بينما يذكي الفن الأحاسيس ويستثيرها، إلاّ أن التفكير في الفن يمده بالعدة المفاهيمية الضرورية لكي تتضح معالمه، وتبرز إشكالاته، وتنجلي مغالقه، وتتجسر الروابط والتقاطعات.
لا يمكن أن نتصور أي خطاب فلسفي راهن لا يتطرق إلى تأمل واستشكال العلاقة الحاصلة بين أنظمة الصورة ورهاناتها المتداخلة والمتحققة، عبر علاقاتها المتاخمة للسلطة والإشهار والعنف والرغبة.
يعتبر أفلاطون أن الجدل -أعلى درجات التفكير- يمر عبر الصور، لذلك استخدم كثيرا الصور والمقارنات والاستعارات والرموز والأساطير ومن ضمنها ?الكهف? الشهير الذي ينبني على لعبة الانعكاس الضوئي (ظلال الحقيقة).
وفي المقابل هل تسع البلاغة مستجدات الصورة اليوم؟ للإجابة عن ذلك لا بدّ من فحص نقدي لحواملها الجديدة والمؤثّرة، ونخص بالذكر الراديو والفوتوغرافيا والسينما والتلفزيون والإنترنت، ما دامت اللعبة بين هذه الوسائط تنبني على الضم والتجاوز.
فالكثير من الناس، اليوم، يدركون الصورة في بعدها الأيقوني المتجسد عبر الصورة السينمائية والتلفزيونية، وتلك الرائجة عبر الإنترنيت (الصورة الافتراضية)، مما يقوض الصورة البلاغية المنبثقة عن الممارسة اللغوية المتولدة داخل النص الشعري أو السردي.