أخبار السودان

“أبوكن حي” بي نفس البساطة والهمس الحنون

الخرطوم – الزين عثمان
مهندماً بناصع البياض في أبريل الشعب من العام الماضي، يحتوي التراب جسد شاعر الشعب، ويمضي الشريف محجوباً. تتبادل الخرطوم في الثاني من أبريل كذباتها، قبل أن تجد نفسها في لحظة الحقيقة؛ بذات البساطة والهمس الحنون ترحل يا حبيبي من باب الحياة لباب المنون.. الآن فقط تعبر سنة من الحياة. عام والبلاد تفقد محجوبها.. سنة والشعب يفج الدنيا ياما، محاولاً الخروج من زحامها. يتسامى خليط الدهشة الأولى ليستعيد ذكرى زول، كان الشعر بكل تجليّاته يمثل نقطة ضئيلة في حياة محجوب الباذخة.
محجوب المولود في العام 1948 في أم درمان، كان قد تلقى تعليمه في مدارس المدينة عرب ليلتحق بعدها بمعهد المعلمين بالخرطوم، قبل أن يمسك بالطبشورة أستاذاً منذ العام 1968، وحتى العام 1989، حين تم فصله للصالح العام. لينخرط بعدها في التدريس في عدة مدارس، حتى العام 2005. لكن المؤكد ان مدرسة محجوب في الشعر كانت غارقة في خصوصيتها، مثلما طريقته في الحياة الغارقة في إنسانيتها.
وكتب محجوب في سبعينيات القرن الماضي قصائد لمايو، سرعان ما قام بتمزيقها متوجاً شعبه الطيب حارساً وفارساً لقيم سودانية، كان أبومريم ومي يجيد وضعها في مكانها الصحيح. وقبل رحيله كان محجوب يرسل من المستشفى آخر رسائله لشعبنا؛ ذلك الوالد الذي أحبه.. للقريب والداني، ويرسمها فوق الأرض التي أنجبته، وهو يمضي راضياً نحو مصيره؛ “أموت لا أخاف قدر ما أخاف أن يموت في لحظة ضميري”. في العام الأول من الغياب ما زال محجوب حاضراً في شوارع كل البلاد، وكأن ضمير الشعب يردد أنشودة ما بعد الرحيل في عبارة (الشعراء لا يموتون)، وأن الإنسانية تمضي طالما أن نهر الحياة لن يجف، أو هكذا يرسمون مشهد بلاد محجوب بعد رحيل الشريف.
يقول الشاعر محمد طه القدال في ذكرى الرحيل الأولى لمحجوب: من الذي غنى للشعب غيره؟ من الذي رسم أحلام الصغار وثورة الشباب؟ محجوب هو من أوقد لهيب الثورة وأمنيات الشعب، فجل الشعارات في الانتفاضة صاغها محجوب وهو يؤدي دوره اتجاه شعبه، ويسترد بعض عافيته التي أرهقتها سجون مايو رغم أن القضية عند محجوب كانت تحركها الجماعية وليس الرغبات الفردانية، وهو القائل: “مكان الفرد تتقدم قيادتنا الجماعية”.
وسرعان ما يرمي القدال وهو يتأوه من وجع الغياب والفقد جملة أخرى: “محجوب ما مات.. محجوب حي بمشاريعه المستمرة.. حي في قلوب كل الكادحين والخيِّرين.. محجوب حي يرزق مع كل خطوة تقطعها عربة رد الجميل”.
وتتماهى كلمات قدال مع النواح على المبذول على روح المحمول قبل عام على أكتاف الشعب؛ “آه يا مريم.. وآه يا مي.. محجوبنا ما مات.. أبوكن حي”. وفي أطول جنازة أمدرمانية يومها كان الموكب لكأنما يعيد التأكيد على دور لم يكن ليلعبه سوى شريف، وتأكيد آخر على أن القيم التي سعى المعلم لغرسها ستنبت في أماكن أخرى؛ فمشروع رد الجميل الذي ينشط فيه عدد من الشباب والشابات كان أحد مخرجات إنسانية محجوب، بعدما تحول مشروع التضامن السوداني من أجل علاج الراحل وبإشارة من أصبعه لمشروع جماعي، يعود ريعه لكافة السودانيين، بحسب اشتراطات محجوب، وهو ما دفع به لتسميته المشروع (رد الجميل)، مع إصرار شديد على ألا يتم تحويله لمنفعة شخصية، أو لصالح فرد، ومبادرة تحريك الساكن والمهمل والمركون من خير في قلوب الناس. وكان (رد الجميل) أحد مشاريع الراحل وهو يسعى من أجل خلق روح التضامن بين السودانيين، ومن أجل تعظيم الخير، وهو المؤمن بأن خير هذا الشعب لا يفنى أبداً.
وعلى الرغم من التزام الراحل مع الحزب الشيوعي السوداني، وحضوره في مناشطه فقد كان أفضل من يجيد التفريق بين الإنسانية والتوجهات السياسية. يقول مختار الخطيب، السكرتير العام للحزب الشيوعي، إن الرجل لم يخلط بين الأمرين أبداً. بل مضى البعض أكثر من ذلك حين قالوا إن نهر محجوب الإنساني لا يمكن أن تحمله ضفة سياسية مهما كانت، فمحجوب كان رجلاً أكبر من حزبه.
ويقول محجوب إنه شاعر سوداني ينتمي للتعدد الثقافي والعرقي والديني، وهو يعتقد دائماً أنه لا بد من وجود مسافة واضحة بين المبدع والسلطة -أية سلطة- حتى لا يكون المبدع بوقاً لها، وتمنى الراحل في حديثه للجزيرة نت أن يُهال عليه التراب قبل أن يقول عنه أحد ذات يوم إنه كان انتهازياً، وقد تحقق له ما أراد، فما من توصيف يمكن أن يطلق على الشريف غير المناضل الملتزم، فما من رجل تشابهت أقواله بأفعاله مثل نموذج محجوب شريف، فقد بقي الرجل على مواقفه الداعية للديمقراطية ومناهضة الشمولية ليتوجه الشعب ناطقاً باسمه.
ويرفع عدد من الشباب شعار: “حنكمل مشروع محجوب شريف”، ويحرص هؤلاء على أن يلحقوا دوماً باسمه توصيف (أبونا) محجوب. ويخطط البعض لإكمال المشروع من خلال تقديم الدعم لمن يحتاجه من المرضى. قريباً من شارع الحوادث ستجد حتماً المتطوعين ممن يواصلون مشاريع توفير الدواء لمن لا يستطيعون إليه سبيلاً، وتوفير الفحوصات لمن لا يملك ثمنها.. ثمة تفاصيل أخرى ضمن المشروع من شاكلة تدوير المركون، وتحويله لشيء ينفع الآخرين. ويرفع كل هؤلاء الراية لدرجة أنه عندما تنقص أعداد الطباشير المتاحة ستجد بعض أبناء محجوب يحملونها ليمضوا بها من أجل صناعة جيل. ويمضي المشروع من خلال إقامة ذكرى عام على بقائه وهو الراحل.. قالتها مي في يوم الأربعين: إن مثلك يُحتفى به ولا يُبكى عليه، فالبكاء متروك لأرض تفتقد شريفها القادر على تجميع شتات أهلها وهو يلف عمامته بسودانوية خاصة. ويجتمع الشعراء في السجانة في مهرجان محجوب شريف الشعري ويؤكدون على أن المشروع سيصل إلى غاياته.. بعد عام هم يعلمون ليس ثمة ما هو فاجع على أمة، مثل أن يغيب فيها شاعر، وليس هناك ما هو أفجع من أن يكون هذا الشاعر هو محجوب شريف.. لكنهم يعودون ليؤكدوا أن محجوب شريف لم يمت هو حي بما قدمه، وحي بما سيقدمه الآخرون من أبنائه وبناته

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. نعم أن مثلك يحتفى به لا يبكى عليه ……. لكن والله الدموع لا تجف عندما فقط يذكر اسمك يا محجوب ….. الرحيل المر …. إنا لله وإنا إليه راجعون ….

  2. كل الجروح بتروح
    الا التي في الروح
    خلي القلب شباك
    نحو الامل مفتوح
    كلماته العظيمة هي روحه الابدية التي ستعيش معنا ما حيينا .غشته الرحمة من الرحمن الرحيم .اّمين

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..