رحلة إلي أنجمينا

رحلة إلي أنجمينا

د. الوليد مادبو

لم تزل عبارة للأستاذ القدير لزلي تيل (Leslie Theile) استاذ الفلسفة السياسية بجامعة فلوريدا، ترن في أذني بل تكاد تكون بمثابة الموجه الفكري لما أود إستكشافه من علاقة بين السياسي والثقافي (تكاد تكون شبه عضوية لكنها لا تخلو من خصائص ميتافزقية)، جعلت رمزية سيادته تؤمي بالإشارة إلي رأس الصبابة وقعرها من حيث الإنحسار والإنفراج، التأطير والإنفساح، البراح والضيق، بل ضرورة من حيث التوجيه الحركي. مثلاً، إن توجيه الثقافي للسياسي يعني تأطير الأخير بإطار أخلاقي، إما توجيه السياسي للثقافي فيعني المحاولة عبثاً لضرب سياج أو سلك شائك حول الوجدان.
لو أن الأموال التي صرفها الفريق/ صلاح قوش لقيادة حملات عسكرية فاشلة وجهت لبناء طريق يربط الجنينة بأبشي ومن ثم إلي أنجمينا لما تعطل تواصل الشعبين لمدة عقدين من الزمان، بل كان من الأجدي تخطي هذه الثنائية المخلة (تشاد- السودان) إلي تعددية تجعل من أنجمينا محطة إنطلاق إلي كآفة الحزام السودانوي (افريقيا الوسطي، كاميرون، نيجر، نيجيريا، إلي آخره). لكنه الجهل بحقائق الجغرافيا والتاريخ، والإمساك بدفتي قرطاس كان يُغني الكسول قراءة شطره ليدرك ما في الآخر من ثراء. وليبحر بنا الدليل من الفاشر شرقاً حتي إذا ما أدركنا سنار علمنا بأن زادنا لم يكن لينفد لو أننا تيمنا غرباً لنشارف برنو- كانم حضارة وشعباً. فالمسيد هو المسيد، والحلة هي الحلة، والفريق هو الفريق، والنغم هو النغم، والأهازيج لم تزل تطرب لسماع أبو زيد الهلالي وتعريجاته المائلة في تخريجات الرواة. فما الذي أعاق التواصل إذن؟
المسألة تتعدي بؤس الإسلاميين ونظرتهم الآحادية لشأن الحياة إلي المركزية التي تولدت عنها الهرمية العرقية وبالتالي العنصرية التي نعاني منها اليوم. فتشاد إرتبطت بالزنج في مخيلة الخاصة والعامة في وقت كانت فيه النخب النيلية (وبالتحديد الخريجية) جاهدة لنيل إحتراف من العرب (عرب الخليج). ولذا فقد أدرنا ظهرنا إلي تشاد ولم ننتبه إلي أهميتها الجيوإستراتيجية إلا بعد أن توالت علينا الصفعات الموجعات. وحتي هذه اللحظة لم يزل النظام السوداني يتعامل مع جارته بعقلية عسكرية/ أمنية متناسياً فاعلية الدور الثقافي – السياسي الذي يمكن أن يجعل من شعوب المنطقة وحدة متسقة تتكامل قدراتها من أجل مستقبل افضل.
لقد بذل المثقف البديع السفير/عبدالهادي الصديق جهده ليبين هذه الحقائق، خلفه في هذا الأمر المصلح الموقن د. عبدالله حمدنا الله، كل من زاويته، لكن جهدهما لن يكلل بالنجاح إلاَّ إذا دعمته مؤسسة تعليمية تؤمن بجدوي الكونفدرالية االثقافية. ففي إطار الوحدة السياسية يمكن مراعاة الخصوصية الثقافية للنوبة، الرشايدة، النوبيين، الفور، المساليت، ولاد راشد، السلامات، العطية والحيماد، إلي آخره. بل دلت التجارب علي أن مراعاة التنوع والإعتناء به من شأنه أن يدعم الثراء المعنوي والمادي للأمم، ويهئ لتحقيق كونفدرالية سياسية، لأن أهل كل منطقة أعلم بمجريات الأمور في جهتهم وأبرع في إحداث التواصل وأنفذ في تلافي الضرر. كما ان الدول التي تجاورنا لا تعاني من مركزية ثقافية قدر معاناتها من محاولات بين الفينة والأخري لغلبة قبيلة علي سائر القبائل وليست الهيمنة بمعناها السياسي والثقافي، (الأول يأخذ بُعداً أفقياً، والأخر يأخذ بُعداً راسيا)ً. لقد ظل عبدالله حمدنا الله يقول بأن تشاد أكثر عروبة من السودان، لكن أحدا لم ياخذه في محمل الجد لأن العروبة إرتسمت حدودها عند النخب السودانية بالمركز، كما أن الأمر لم يلفت إنتباه النخب التشادية لأنه بمثابة إسقاط للحالة السودانية علي الواقع التشادي. لقد ذكر لي أحد أقربائي من الرزيقات المهرية بأن مسئول الجوازات إستوقفه عندما كان في زيارة للسودان وأمعن في التحقيق معه لأنه رأي بأن ملامحه العربية (التي شبهها هو بالجعلية!!) لا تتمشي مع مواصفات الجواز التشادي. لقد إستنكر المهري هذا لأنه رأي فيه حالة إسقاط للأزمة النفسية السودانية علي الواقع التشادي. (إن جهل هذا الموظف لا يختلف البتة عن موقف النخب سياسية كانت أم ثقافية). ولنغير الصورة، هب أن موظفاً من السودانيين إستوقف زائراً من قبائل الودَّاي التشاديين، هل كانا يجهلان العمق الأفريقي في الوجدان القومي لكلا القبيلتين؟ لا . ولا حتي عرب درافور أو كردفان، ما كانا ليجهلان هذه الروابط، لكنها الأزمة التي تعانيها نخبة المركز والتي تسببت في ازمة للسودان ككل.
إن عرب دارفور وكردفان وعراضا، وآتيا، وأبشي يدركون دورهم الرسالي واهميته في إحداث الإستقراراللازم لإحداث تدامج ثقافي وإجتماعي (بالمعني الحيوي وليست الفلكوري)، لكنهم أحياناً ما يستهويهم الطمع وتستفزهم صيحات الأفك الداعية بإختيار أحد الفريقيين: زرقة أو عرب؟ لماذا لا تكون الإجابة: بشر، فكلكم لأدم وأدم من تراب. ألا تكفي إكتشافات الحامض النووي لدحض أراء العنصريين؟ أما آن لنا ان نستفد من تحقيقات الأنثربولوجيين القاضية بأن مسألة الهوية في حد ذاتها مسألة متخيلة؟ ألم ننتبه بعد إلي أنفسنا كي نعلم أن الإنتماء إلي القبيلة إنما هو إنتماء تقافي وإجتماعي وليست عرقي؟ إذن، فيما الشجار؟
لقد أعجبني تواصل النخب التشادية مع المواطنيين في الإعلام الرسمي بلغتهم العامية والإعتزار بلهجاتهم المحلية. بل أن الإعلاميين أنفسهم يعكسون بهيئاتهم الموزيك البشري لشعب أنجمينا، حتي لا تكاد تلحظ غياب فصيل دون الآخر. إن نخبوية إعلامينا قد حالت دون التواصل الحيوي مع القاعدة، كما أن إنتقائنا لأشكال بعينها قد جعل من الثقافة مسخاً لا هو بالسوداني الأصيل ولا الأجنبي البين، أي واضح السمات. إني احياناً أري مذيعة بيضاء بملامح سمراء، والحظ ملابساً “إسلامية”، وتصرفات ليبرالية (أقرب إلي الإنحلال)، فأعجب من أيَّ هبطن هؤلاء النسوة؟ لماذا لا نعتز بالهيئة التي خلقنا بها الله؟ لماذا نتجنب الفطرة ولا نتعامل مع سجيتنا السمحة؟ لماذا لا نعتمد المهنية والإحترافية قط دون سائر الكفاءات النسبية؟ وإذا كان هنالك تحيزاً فليكن لأهل الديار الأصليين من برغو، تاما، تنجر، حمر، كواهلة، نوبيين، وغيرهم فهم أولي من الوافدين (أحمرهم وأزرقهم).
لقد آن الأوان لنا ان نعتز بذواتنا ونفخر بمقومات هويتنا فهذا هو السبيل للإبقاء علي اللحمة المتبقية من جسدنا، والحيلة الوحيدة لإسترداد همتنا وإستنفاذ حيوية جهازنا العصبي.

تعليق واحد

  1. مقال رائع,, وقراءة موضوعية.. انشا الله يسمعوا ليك اولئك المستعربين الذين يقيمون الناس على اشكالهم وجيوبهم

  2. شكرا لك الحبيب العزيز الوليد مادبو على هذا التحليل المتعمق كعادتك ، وكما هو مشهود فقد سيطرت العقلية المتعربنة على مخيلة الكثير من ساستنا ومثقفينا ، وفي سبيل الوصول الى تنقية الجينات وهندستها بما يشبة تلك الخليجية بذل هؤلاء مجهودا امتد لسنوات طويلة استخدمت فية كل امكانيات الدولة السياسية والثقافية بل وحتى التجارية من اجل طرد الملامح الافريقية ،واتلقرب من ناحية اخرى الى العادات العربية برغم صفعاتهم كما قلت … وحتى ان تكررت لعقاتهم من عدم امكانية سلخ جلودهم تراهم متعلقين على ابواب عكاظ بمزلة المنبوذ المتعشم في رضا القبيلة … لا تخرج هذه النفسية عن كونها وليده عقلية اتهزامية مقهوره عانت عزابات ضميرية جعلتها تجرم بادمان انكار ذاتها والتلذذ المصطنع بجرجرة كرامتها في صحراء العرب … وهذا الانقسام الناتج من هذا القهر جعل منا نمازج لكائنات تعيش فقط على مخيلتها … وما يتعجب لة انة وحتى الان مازالت الدولة تدعم الاجرام على الذات وهي تدري … فليس منبر السلام العادل ادل من ذلك …

  3. د الوليد افاض الله عليك علما فوق علمك كم ودد لو يقرأ الخال المعجزه هذا المقال الرائع روعه السودانيين الاصيلين

  4. قال أحد الشعراء (محلاكي ياداربرقو في القعاد..واحدلبن طارنه واحدلحم جداد..الخ
    إن العمق التاريخي الافريقي للسودانيين برغم مساحيق العروبه الذائفه في فكر الرئسماليين الاسلامويين الطفيليين الااننانجدان مسألة تشارك وتعايش هذه المجموعات الذي ليس له موجهات بل يربطه علاقة زمان ومكان وتبادل افكار ومصالح هذا التبادل قديم قدم الانسانيه أمافيما يخص من كتب عن هذا الاستاذ جمال محمد الاستاذاحمد الطيب زين العابديب الاستاذمحمدعمر بشير أمامالاافهمة الفرق بين الدور الحيوي والفلكلوري معي العلم ان الثقافة هي (معرفة وخبرة في حالة فعل)

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..