إلى أي مدى تسهم “الطريقة البنكية في التعليم” في تخريج قوالب مكررة من البشر

قديماً سارت الركبان بمقولة “القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ”. وبينما تبدو العبارة إيجابية في حق السودانيين كمستهلكين للمعرفة، يعيدنا أحد العاملين في الحقل الثقافي إلى واقع مغاير؛ “مهلاً.. العبارة خادعة ومضللة”، وربما يضيف غيره بين سطور إفاداتهم لـ(اليوم التالي) أن المقولة “لا تعبر عن سودان اللحظة”. وربما كان التنبيه المبذول من قبلهم يجيء عطفاً على انشغالات كبرى طرأت على الخارطة الزمنية لـ(المواطن الذي كان قارئاً). وبينما نتساءل حول إشكاليات القراءة وعدمها تحتوي الخرطوم مجدداً بالساحة الخضراء أمس (الخميس) ذاكرة الأدباء ومطالعي الكتب، ضمن احتفائية عالمية تعرف بـ(اليوم العالمي للمطالعة) أو حسب ما يقول البعض (اليوم العالمي للكتاب وحقوق المؤلف)، وهي فكرة تلقفتها الخرطوم من (اليونسكو) التي أقرته في الثالث والعشرين من أبريل من عام 1995، حيث أرادت من خلال اليوم أن تقدر كل الكتّاب والمؤلفين، وأن تشجع الناس على القراءة والمطالعة، وخاصة الشباب، كي تدفعهم إلى استكشاف المتعة من القراءة.

وبين يدي الذكرى التي مضى عليها أكثر من عشرين عاماً، يُفتح قوسا التساؤلات؛ هل هناك أزمة قراءة؟ إن شئنا الدقة؛ هل نحن أمة قارئة أم لا؟ وما الأسباب الكامنة وراء عزوف أغلبية الناس عن القراءة؟

1

“المعايش جبارة”

حسناً، ثمة من يشير إلى خطر مباشر يتهدد القراءة ومستقبلها، سببه المناهج التي تدرس في المراحل الأوَّلية والثانوية للتعليم، وبشهادة المختصين فهي تخلو تماماً مما يربط الطالب بعالم القراءة خارج نطاق واجباته المدرسية اليومية، وهذه السمة متكررة في غالبية دول العالم الثالث.

لكن البعض يرى أن الانغماس في الحياة المادية، وانشغال الناس بتدبير أمورهم المعيشية، هو السبب، حيث لا يجدون وقتاً كافياً للمطالعة، والبعض يرجع ذلك إلى طغيان وسائل الإعلام الحديثة من إذاعة وتلفزيون وفيديو وإنترنت، حيث أصبحت هذه الأجهزة تقدّم المعلومات دون أدنى مجهود يبذله المستمع أو المشاهد، وبالتالي أصبح دور الكتاب محدوداً لدى هذه الفئة. إلا أن آخرين يرجعون سبب العزوف عن القراءة إلى غلاء أسعار الكتب، حيث يجد المواطن العادي والمثقف أيضاً صعوبة مالية في اقتناء الكتب. كما يضاف إلى الأسباب تقصير البيت والمدرسة معاً في غرس عادة القراءة في نفوس الناشئة منذ الصغر.

2

خادعة ومضللة

وظاهرة عزوف الناس عن القراءة، إن جاز إطلاق صفة ظاهرة عليها، بالفرضية التي تتبناها الخرطوم وتدافع عنها بين نظيراتها في العالم -بأنها تقرأ- يدحضها عثمان شنقر، عضو اتحاد الكتاب السودانيين، حين يقول لـ(اليوم التالي): “بصورة عامة، الأمة العربية ليست أمة قارئة بالمقارنة بالدول الأخرى، ونحن في السودان ركنا طويلاً لمقولة خادعة كانت تقول: القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ”. هذه المقولة التي تبدو إيجابية في حق الخرطوم، وفي حق السودانيين كقراء مستهلكين للمعرفة، ليست خادعة فقط وإنما مضللة، وذلك على الوجه الآتي: “إذا كانت هناك أمة قارئة مثلما تفترض المقولة، فلماذا لا تتحول إلى أمة منتجة للمعرفة؟ بمعنى لماذا لا تطبع وتكتب وتقرأ في ذات الوقت؟”، ويمضي في تساؤلاته: “وإلا لماذا لم تتحول هذه المعرفة المتراكمة إلى فعل إيجابي يغيّر حياتهم؟”، وإذن والحال كذلك، “فإن مقولة إننا قراء، وما إلى ذلك، ليست أكثر من فرية طالت” بحسب ما يرى شنقر.

3

“حاجتنا إلى ثورة”

عزوف أغلبية الناس عن القراءة، من وجه نظر الكاتب والروائي منصور الصويم، تكمن في أن ممارسة القراءة كـ(فعل ثقافي تنويري) لم تترسخ بعد لدينا كشعب أو مجتمع، لظروف ومسببات، ورأى أن “من الضروري أولا أن نصلح من نظمنا التعليمية والتنموية، ونحارب الأمية المتفشية وسطنا، حتى ننتقل إلى هذه المرحلة المهمة في الترقي الحضاري. أما إذا خصصنا السؤال أكثر وحصرناه في الفئات المستنيرة والمتعلمة، ولماذا انحسرت ثقافة القراءة وسط هذه الفئات، فالإجابة حتماً تكمن في التقلبات السياسية والاقتصادية التي ضربت البلاد خلال ربع القرن الماضي، فالتدهور القيمي والمجتمعي لا ينفصل أو يتشكل في جزر معزولة؛ بل هو تدهور وتراجع عام اكتسح كل شيء، وصارت حاجتنا إلى ثورة (معرفية ? تنويرية – سياسية) أمراً ضرورياً حتى يتحقق لنا هذا الموقع (الثقافي) المتوهم الذي ظللنا نباهي به دون إنتاج أو مشاركة حقيقية”.

4

منافسة الوسائط الإلكترونية

ويرى وليد سوركتي، مدير مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، إنه “في السابق كانت هناك مكتبة في كل مدرسة، وحصة أو حصتان للاطلاع في الجدول اليومي، وهذا يجعل الطالب يكتسب عادة القراءة وتلازمه في حياته، ويصبح الكتاب جزءاً أساسياً من حياته، لكنها غابت الآن”. وليد يعزو عزوف الشباب عن القراءة خاصة في الأعوام بين العشرين وما فوق، إلى دخول الوسائط الإلكترونية الأخرى في منافسة مع الكتاب، وانصراف الشباب إلى القراءة من الوسائط الإلكترونية (الكومبيوتر، اللابتوب، آيباد، الهواتف الذكية) ما جعل أشكال القراءة مختلفة وليس الكتاب فقط. وبينما يعلق سوركتي بعض أسباب العزوف عن القراءة على مشجب الوضع الاقتصادي، وسطوة (المعايش) لا شراء الكتب، فإن (الزمن) أيضاً يتموضع خلال إفادته بحسبانه واحداً من الأسباب التي هزمت القراءة في الآونة الأخيرة، ويستدل على الزعم بأنه في السابق كان معظم السودانيين يعودون إلى منازلهم في الثالثة بعد الظهر، وفي يد كل منهم صحيفة، مجلة، أو كتاب، ما يجعل في الوقت متسعاً للقراءة، ولكن الآن مع انشغال الناس بهموم الحياة وقضاء أطول الأوقات في البحث عن الرزق وهموم العمل، جعلت وقت القراءة أكثر ضيقاً، فالزمن المتاح للقراءة مع هموم العمل بات ضيقاً حقاً.

5

نسبة التعلم

ويعود الروائي المعروف، منصور الصويم، ليقول إنه “لابد من محاولة تبسيطية لـ(فعل القراءة) نفسه، الذي يعني أولاً وقبل كل شيء القدرة الأولية على التعاطي مع القراءة كوسيلة معرفية أساسية، كيما تنهض أي أمة، وقياس ذلك يتم من خلال معرفة نسبة التعلم لدى هذه الأمة مقارنة مع نسب تفشي الأمية لديها؛ وهذا الأمر بلا شك حين نخضعه للواقع سنجد أن الشروط الأولية التي تجعل من أمة ما (أمة قارئة) غير متوافرة في الأصل لدينا؛ ناهيك عن بقية المحددات والاشتراطات الأخرى التي تتحول معها القراءة من وسيلة توعوية في حدود الحياتي اليومي، إلى فعل ونشاط ثقافي يمارس في ذاته ولذاته، اعتماداً على المخرج المعرفي الحضاري الذي سينتجه نهايةً، مثلما هو حادث ويحدث للأمم المتحضرة والمتقدمة من حولنا”. وبناء على ما سبق، يعتقد الصويم في حديثه لـ(اليوم التالي) أنه “يصعب تصنيف أنفسنا بأننا أمة قارئة، فما يزال أكثر من 50% من هذه الأمة يعاني ويلات الأمية التقليدية ناهيك عن الأمية الإلكترونية”، ويرى أنه يجب أن نحل أولاً إشكالات التعلم الأولية ومن ثم ننتقل إلى مرحلة (القراءة) كفعل ثقافي عام تتسم به كافة أطياف المجتمع.

6

التوزيع أيضاً مشكلة

سوركتي في إفادته لـ(اليوم التالي) اعتبر التوزيع واحداً من المعوقات للقراءة، لأنه بحسب الرجل فقد كانت هناك في السابق دور توزيع كبيرة في كبريات المدن، في مدني وكوستي والأبيض وبورتسودان، وهناك شبكة تتولى التوزيع، ولكن الآن الناشر يكون هو المؤلف، والناشر، والموزع، وهذه تضيف إليه عبء توصيل الكتاب. ومن وجهة نظر سوركتي فإن التقنية هزمت الكتاب ولكن لم تهزم القراءة، وذلك بلجوء البعض إلى الانترنت لتحميل كتب من مواقع مجانية، واعتبرها إيجابية لصالح القراءة إجمالاً سواء من كتاب أو من موقع إلكتروني.

وبوصفه مديراً لواحد من صروح توزيع المعرفة والكتب، ومن خلال متابعته اللصيقة لحركة الإقبال على الكتب، يسترسل سوركتي بالقول إن معظم المترددين على بعض المكتبات ودور النشر هم من الطلاب طالبي المناهج الأكاديمية والكتب المرتبطة بدراستهم، وإن كتب الثقافة العامة لم تعد كسابق عهدها في الطلب عليها، ولكن هذا لم يمنع كثيراً من المترددين من شراء كتب تلبي اهتماماتهم في الأدب والقصة والروايات والفنون الأخرى، بحسب قوله.

7

الحرية أمر حاسم

ما ذهب إليه سوركتي يتفق فيه معه عثمان شنقر، حيث يقول “إن هناك اهتماماً بالأدب والروايات أكثر من اللازم، إذ أن القراءة يجب أن تكون متنوعة وفي فروع معرفية متعددة، تشمل الفلسفة والفكر والاجتماع والرياضيات والفيزياء والتاريخ… الخ. الاهتمام بالأدب أمر جيد، لكن الأدب ليس هو كل المعرفة، ولا يمكن للأدب أن يوفر معرفة بالحياة بهذا الاتساع والشسوع”.

واتفق سوركتي مع الفرضية التي تقول إن محتوى الكتب هو واحد من الأسباب المساهمة بدرجة كبيرة في عزوف الناس عن شرائها، وقال إن الكتب ذات المحتوى السياسي والفكري يطلبها قطاع معين ومحدود بجانب القراءة المتخصصة”. بينما يقول الكاتب الصحفي يوسف حمد، إنه يقر كغيره بتراجع نسبة قراء الكتب في السنوات الماضية، وإن أسباب ذلك عادة ما تأتي مركبة ومتداخلة، منها تأثير القرار السياسي على نوعية الكتب ومحتواها، من جهة، وتأثير القرارات الاقتصادية على أسعار الكتاب ومدخلات طباعة الكتب بشكل عام. وأشار إلى أن الحرية أمر حاسم في عملية انتشار الكتب وقراءتها.

8

“الطريقة البنكية”

ثمة سبب مباشر وأكثر خطورة يعتقد يوسف حمد أنه يتسبب في العزوف عن القراءة، يتعلق بالمناهج التي تدرس في المراحل الأوَّلية والثانوية للتعليم، وبشهادة المختصين فإنها تخلو تماماً مما يربط الطالب بعالم القراءة خارج نطاق واجباته المدرسية اليومية، وهذه السمة متكررة في غالبية دول العالم الثالث، ويشير إليها الخبير التربوي البرازيلي بول فرايري بأنها “طريقة بنكية في التعليم”، وهي أن يقوم المعلم بإيداع المعلومات التي تحتويها المقررات سابقة التجهيز في أدمغة الطلاب الذين يقتصر دورهم على التلقي السلبي لتلك الإيداعات، واسترجاعها وقت الامتحان فقط. ومن شأن هذه العملية أن تخرِّج قوالب مكررة من البشر، لا تمتلك حساً نقدياً للواقع، بل تسهم في تكريس الوضع القائم، ولا تسعى إلى تغييره.

ورغم ما ذهب إليه كثيرون، بما يشبه الإجماع، من تراجع القراءة عن السابق، إلا أن وليد سوركتي قطع بمؤشرات عملية وعلمية بأن منتوج الكتب وطباعتها في زيادة كبيرة لتسهيل التكنولوجيا عمليات الطباعة والجمع والتصميم عبر الكومبيوتر، بجانب وعي الناس. وليد قال إنه سنوياً يُطبع حوالي 20 كتاباً تكلف بين 400 إلى 500 مليون جنيه، لكنه وضع يده على مكمن العلة في أن المباع من تلك المطبوعات من الكتب يعاني من ضعف الإقبال عليه، وأشار إلى أنه خلال 3 سنوات يمكن ألا تبيع دار النشر ألف نسخة من الكتاب!

9

مخاوف على الكتاب الورقي

سوركتي ينحي باللائمة على وسائط التواصل الاجتماعي وأن كثيراً من الناس يتحسس هاتفه الذكي أكثر من الكتاب، إلا أنه بدا مستبعداً التخوف من اختفاء الكتاب الورقي مع ظهور التكنولوجيا والإنترنت، مستدلاً بأنه عند ظهور التلفزيون لم تختف الإذاعة أو المسرح، فليست هناك أداة تزيح الأخرى.

ويتفق يوسف مع سوركتي في ما ذهب إليه بالقول “ينبغي أن ننتبه أولاً إلى أنه ليس بمقدور أداة اتصال أن تلغي أداة اتصال أخرى مطلقاً، لذلك لا أرى أن لوسائل التواصل الاجتماعي والتقنية الإلكترونية والتلفزيون والإنترنت دوراً في عزوف الناس عن القراءة، والقراءة من الكتب تحديداً”.

10

“مفروش” ومبادرات أخرى

قوسا التساؤل ربما يكونان عصيين على الإغلاق، دون الوقوف عند ما يحدث داخل البلاد من حركة للقراءة، وما تقدمه الحكومة أو الجماعات المهتمة، فالقراءة كفعل تحتاج إلى اصطحاب الإيمان والقناعة بأن التغيير يبدأ بفعل صغير، وينتهى بتحولٍ عظيم، بين يدي هذه المبادرات ظهر معرض (مفروش) لبيع وتبادل الكتاب المستعمل. وليد سوركتي يعتبر أن الدولة ليس لديها دور واضح في الاحتفاء بالمناسبة على مستوى رسمي، لكن المبادرات الشبابية هناك بعضها ينظم يوماً للقراءة مثل مبادرات نادي الكتاب، وحمّل الدولة بعضاً من تقصير في عدم الترويج للكتب في برامج تلفزيوينة أو إذاعية وحتى الصحف قال إنها لم تعد تهتم كالسابق بالترويج للكتاب الصادر حديثاً في الملاحق الثقافية. بينما يرى شنقر في المسألة وخلافها من الفاعليات أنها صحوة ربما متأخرة؛ “هناك عودة لمطالعة الكتب، وهناك احتفال واحتفاء سنوي في السنوات الأخيرة باليوم العالمي للقراءة، تنظمه منظمة تعليم بلا حدود وعدد من المنظمات الأخرى، في الساحة الخضراء بالخرطوم”.

11

فاقد الشيء لا يعطيه

وعن غياب السودان ? الرسمي – عن تنظيم فعالية أو منشط في مثل هذه المناسبة، يقول منصور صويم إنه بكل بساطة فاقد الشيء لا يعطيه، فمن يحارب الثقافة والمثقفين لا يمكن أن يسهم في إنتاج ثقافي حقيقي، ومن يخرب عن قصد المناهج التعليمية والتربوية الحضارية لا يمكن أن يهبنا فرداً قارئاً مستنيراً ينشد المعرفة، وهذا يقود ? بلا شك ? إلى عدم مقدرة المدارس على تخريج أناس لهم علاقة بالقراءة كفعل ثقافي وكأداة لنقد الواقع وتغييره.

حسناً، بين كل هذا، الخرطوم ربما تحاول جاهدة مزاحمة عواصم العالم، وإن غاب الشكل الرسمي لهذه المناسبة إلا أن الفتية والفتيات الذين تواصلوا في ما بينهم للاحتفاء بالكتاب يحافظون على جذوته بين الناس أن تنطفئ، فهل يصمد الكتاب والقراءة في عصر الأجهزة المحمولة؟

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..