المتوسط? قبور بلا شواهد للمهاجرين الأفارقة

مأساة المهاجرين تكشف فشل 30 عاما من سياسات أوروبا التي لم تجد حلولا كافية أمام تدفق سيل المهاجرين غير الشرعيين لأراضيها.
العرب
من قمة الأحلام إلى قمة اليأس
ظاهرة تنامي حركة الهجرة لا تهم الاتحاد الأوروبي فحسب، فيما تحاول بعض الجهات الأوروبية تحريف الحقيقة بربطها بجنوب المتوسّط، على غرار تونس وليبيا والمغرب، لتحقيق غايات سياسية واستراتيجية دفينة، دون النظر إلى جذور الأزمة التي تعود إلى داخل أفريقيا حيث تدفع براكين الأزمات المشتعلة والأنظمة الدكتاتورية المترسّخة بأبناء دول الجنوب الأفريقي إلى ركوب قوارب الموت.
سلطت كارثة غرق المئات من المهاجرين غير الشرعيين في السواحل الإيطالية الأضواء مجددا على ظاهرة الهجرة غير القانونية التي تتدفق من الجنوب نحو الشمال، في أوسع موجة بشرية للهجرة عبر التاريخ، مدفوعة بعوامل اجتماعية وسوسيو ـ اقتصادية وإنسانية، قصد البحث عن مقعد تحت الشمس على الجـانب الآخر من المتوسط.
لكن كارثة الأسبوع الماضي، التي خلفت ما يزيد على 500 مهاجر غريق وسط احتمالات بوجود أعداد أخرى مفقودة، ليست الأولى ولا الأكبر من نوعها في السنوات الأخيرة. ففي شهر سبتمبر من العام الماضي، غرق ما ينيف على 500 لاجئ في حادث متعمد دبّره المهربون لإرغام اللاجئين من جنسيات مختلفة على الانتقال إلى قارب آخر. وفي أكتوبر من العام 2013، غرق 359 مهاجرا أفريقيا بسبب اشتعال النيران في القارب الصغير الذي كانوا على متنه، قريبا من سواحل لامبيدوزا الإيطالية.
وقد حولت ظاهرة الهجرة السرية البحر الأبيض المتوسط إلى مقبرة للمهاجرين، منذ أن انتشرت ظاهرة القوارب الخشبية التقليدية الصغيرة التي تستخدم لأغراض الصيد في بداية التسعينات من القرن الماضي، لنقل المئات من الراغبين في اجتياز المئات من الأميال للوصول إلى الحلم الأوروبي.
لكن ذلك الحلم غالبا ما كان يتحول إلى جنائز أو يحفر قبورا بلا شواهد للآلاف من المهاجرين الذين لم يحالفهم الحظ.
وبعد أن كان البحر المتوسط في الماضي جسرا من المياه يعبره الغزاة والقراصنة، وتنتقل عبره الحضارات، أصبح في نهاية القرن العشرين معبرا للفقراء وتعيسي الحظ والهاربين من الحروب التي تأكل أبناءها في القارة السمراء.
وتكشف الأرقام أن أزيد من 21 ألفا من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين عبروا المتوسط نحو القارة الأوروبية انطلاقا من أفريقيا منذ شهر يناير من هذا العام، وهو رقم يبين ارتفاع أعداد المهاجرين السريين بنسبة 42 بالمئة، مقارنة بالعام الذي قبله.
بيد أن هؤلاء لم يصلوا جميعا إلى حيث كانوا يريدون، إذ غرق حوالي 1700 شخص في عمليات الترحيل الجماعي عبر قوارب صغيرة بفعل التقلبات البحرية أو الحوادث المتعمدة، أي ثلاثة أضعاف أعداد الغرقى المهاجرين خلال السنة الماضية.
طرق عبور المهاجرين
خلال العقدين الماضيين طوّر المهاجرون غير الشرعيين القادمون من مختلف بلدان القارة الأفريقية، طرقا متعددة للتحايل على أنظمة المراقبة عبر الحدود البرية أو المعابر البحرية، للوصول إلى السواحل الأوروبية.
وشكلت موريتانيا، في السنوات الماضية، نقطة تجمّع لهؤلاء المهاجرين المنحدرين من غرب أفريقيا وجسرا يربط بين دول القارة والمغرب العربي، نظرا لطول الحدود التي تربطها بكل من الجزائر ومالي والمغرب، والتي تمنح المهاجرين فرصا عدة لتلافي الاعتقال والترحيل.
وتقول تقارير لـ?وكالة حماية حدود أوروبا الخارجية? (فرانتكس) إن موريتانيا شهدت خلال العام 2008 أكبر تركز للمهاجرين الأفارقة المرشحين لعبور البحر نحو أوروبا، حيث قدر عددهم بحوالي مليون شخص، أما لماذا يتم اختيار هذا البلد كنقطة عبور فلأن تقاليد الترحال وسط القبائل تجعل هؤلاء المهاجرين في مأمن عن أعين السلطات الموريتانية، وتوفر لهم وسيلة للتخفي.
غير أن الوصول إلى تلك النقطة البرية التي تنقلهم إلى سواحل جنوب المتوسط، حيث يتعين عليهم العثور على واحد من أفراد العصابات التي تعمل في مجال ترحيل المهاجرين غير القانونيين، يتطلب أياما طويلة، وأحيانا أسابيع، من السير على الأقدام في الصحراء والأماكن الخطرة لمئات الكيلومترات، في ظروف مناخية وطبيعية صعبة. وفي الكثير من المرات تسجل حالات وفاة وسط هؤلاء المهاجرين، خاصة من النساء والقاصرين، إما بسبب المرض أو التعرض لآفات الطريق أو الاعتداءات أو العطش، نظرا لأن الرحلة تتم في موسم الصيف والحر؛ وهو الموسم الذي يفضله أصحاب القوارب لأن البحر يكون أقل خطرا وخاليا من العواصف.
أما عن المعابر البحرية فإن المهاجرين السريين يتوزعون في الغالب بين السواحل التونسية والليبية، التي تنقلهم إلى إيطاليا، أو السواحل المغربية، التي تقودهم إلى أسبانيا.
وبعد أن أصبحت أوروبا في الأعوام الأخيرة أكثر تشددا حيال ظاهرة الهجرة غير الشرعية وكثفت التعاون مع السلطات المغربية، تحول اهتمام المهاجرين إلى نقطتين أساسيتين، هما سبتة ومليلية المحتلتان شمال المغرب، حيث يعمل المهاجرون على تسلق السياج الأمني ودخول أسبانيا عن طريق المدينتين.
لكن دون أن يخلو ذلك من مآس إنسانية، فقد قتل خلال الأعوام الماضية المئات من هؤلاء المهاجرين، إما على يد الحرس المدني الأسباني الذي يستعمل ضدهم الرصاص المطاطي لمنعهم من اختراق السياج الأمني، أو بفعل الازدحام والسقوط من أعلى الحواجز، كما حصل بالنسبة إلى العشرات من الأفارقة خلال محاولتهم القفز من أعلى السياج الأمني.
أما النقطة الثانية فهي المدن الساحلية الصحراوية في أقصى الجنوب المغربي، حيث يمكن للمهاجرين الوصول إلى جزر الخالدات، أو جزر الكناري كما يعرّفها الأسبان، التي تبعد بحوالي ستين ميلا، على متن قوارب خشبية.
ويقضي هؤلاء المهاجرون جلّ أوقاتهم متخفّين عن أعين السلطات في غابات قريبة من السواحل أو الحدود البرية وفي ظروف إنسانية صعبة، بانتظار لحظة الصفر لركوب البحر، ولأن أغلبهم لا تتوفر له الإمكانية لدفع مقابل الرحلة، فإنهم يلجأون إلى التسول أو نهج بعض السلوكيات الاجتماعية المنحرفة مثل السرقة أو السطو، لتوفير ثمن السفر.
الربيع العربي.. مزيد من الهجرة!
تكشف التقارير الصادرة عن وكالة (فرانتكس) أن الهجرة غير الشرعية من جنوب المتوسط نحو الشمال ارتفعت بوتيرة أسرع منذ بداية أحداث ما سمي بالربيع العربي عام 2011، ويفسّر هذا الأمر برغبة المهاجرين المقيمين في بعض البلدان التي شهدت اضطرابات مثل تونس وليبيا في مغادرة أماكن الاضطرابات، وكذا طموح المهاجرين الأفارقة إلى الهجرة باستغلال الظروف الجديدة.
وعلى سبيل المثال، فإن عدد المهاجرين الذين تدفقوا على السواحل الإيطالية خلال عام 2012 انطلاقا من ليبيا وصل إلى 20 ألفا، ليصل عام 2013 إلى 70 ألفا.
ووفقا لأحدث التقارير الصادرة عن الوكالة، التي تعتمد مؤشر عدد الاعتقالات في صفوف المهاجرين غير الشرعيين على الحدود الأوروبية لقياس تحولات الهجرة غير القانونية، فإن معدل الهجرة السرية من البلدان الأفريقية عبر بلدان المغرب العربي تزايد بطريقة ملحوظة خلال الربع الثاني والربع الثالث من العام 2011، ليتضاعف في السنوات التالية. وسجل الربع الثالث من العام 2014، أوسع موجة هجرة غير مسبوقة في السنوات الثلاث السابقة، بمعدل زيادة بنسبة 43 بالمئة.
ويظهر هذا التزايد في أعداد المهاجرين خلال اضطرابات الربيع العربي أن تلك الاضطرابات أنتجت مناخا من الفوضى استغــله الراغبون في الهجرة لعبور المتوسط.