عبدالكريم الكابلى زخة العطر المهاجرة

مهدى يوسف ابراهيم عيسى

دلفت الى غرفة أخى الأمين يوسف بهدوء أصيل ذاك اليوم من العام 88 . لا أذكر أى شهر كان . لكنى على أية حال كنت حينها طالبا فى مدرسة المناقل الثانوية و كنت أسكن فى داخلية الطلاب الشهيرة بالبركل . لم يكن بمقدورى ان اذهب الى قريتى كل يوم . و لذا فقد كنت أتردد على غرفة أخى الأمين الذى كان يعمل وقتها معلما بمدرسة المناقل الثانوية ثلاثة . أما ليلا فقد كنت أختلف بصورة شبه يومية الى سينما المناقل حيث أطلق العنان لخيالى أن يركض على سهوب قصية . هذا قبل أن تمتد يد الحجاج الى كل دور السينما فى السودان و تحولها إلى بقاع يسكنها البوم .
لم أجد الأمين فى الغرفة فقد كان شغوفا بلعب الكرة منذ أيام صباه الأولى . وجدت جهاز تسجيله ذاك و بقربه ترتاح بضعة أشرطة غنائية . تناولت أحدها بفضول و وضعته داخل الجهاز و سرعان ما بدأ يتردد صوت عود أعقبه صوت رخيم مرددا ” يا ضنين الوعد أهديتك حبى ..من فؤاد يبعث الحب نديا ” . تسلل الصوت الى شرايينى فى يسر و عذوبة . تلك كانت المرة الأولى التى يصافح فيها صوت الكابلى أذنى القلب .
الشكينيبة فى التسعينات . النهار قد انتصف و أنا مستلق على ” عنقريب ” صغير فى غرفتى الأثيرة التى شهدت ما شهدت من تفاصيل حياتى حينها . صوت حجر يصطدم بالنافذة . افتحها فاذا بصديقى الشيخ أمير مهدى و هو يطل بوسامته و أناقته الشهيرتين و على وجهه ابتسامة فجرية الطلعة . يهتف بى ممازحا ” ود أم عيد . شن منومك لى هسه ؟ و الله البركة فى الشكينيبة الدخلتكن الحضارة . قوم افتح الباب يقوم صقرك ” . يدلف الى الغرفة بطيبته الدفاقة . أشاغبة ” كيفك يا ود جلالة ؟ ” . يرد مناكفا ” احسن منك . جبت لى شريط ليك الكابلى حا يعجبك ” . دقائق و يطرق كلانا للصوت العظيم و هو يتهادى كما المخمل مرددا ” أراك عصى الدمع شيمتك الصبر ..أما للهوى نهى عليك و على أمر ؟ !! ” . و بعد أن فرغ من سماع إلياذة أبى فراس الحمدان طفق أمير يردد بصوت فيه شئ من ملامح الكابلى :
كلمينى يا مرايا
شايفك طربانة
حكو ليكى حكاية و لا كنتى معانا ؟
و لا إنتى بتقرى يا ماهرة ظنونى
و لا شفتى الصورة الشايلاها عيونى
و لا يبقى أكيد عاداكى غنايا ؟
حكايتى مع الكابلى حكاية قديمة متجددة . و كلما صفعتنى الغربة بوحشيتها الباردة بحثت بين دفاتر اليوتيوب عن أغنية للكابلى بالعود . حينها تنقشع سماوات الشجن و تهدأ الشوارع فى المدينة و تزور الأفق غيمة كانت تختبئ فى مكان ما. صحيح أن وردى هو فنانى المفضل لكن الكابلى يريجنى أكثر . أما وردى فمرهق للروح . فهو فنان الجراح و الانكسارات و فنان الأسئلة الكبرى . و ما بين أغنية لوردى و أخرى للكابلى تمتد مشاوير من جمال خص الله به بلادى دون غيرها .
لا أعتبر الكابلى مطربا عاديا أسمعه و انصرف بعده الى شأن مختلف . لكنه مدينة التقيت على دروبها بأحباب كثر . منهم من أخذته منى تصاريف الحياة فى داخل بلادى و منهم من هاجر الى بلاد بعيدة و منهم من عبر الخط الرقيق بين الحياة و الموت مثل الصديق ” نصر الدين الأمين ” الذى كان التقانى ردد بنشوة عارمة :
الزول السمح فات الكبار و القدرو
كان لاقوهو ناس عبد الله كان يعذرو
ثم و أنا معلم فى معهد سلتى فى أواخر التسعينات سمعتنى إمرأة قمحية اللون مترنما بشئ من تبتل العباسى :
أرقت من طول هم بات يعرونى ..يثير من لاعج الذكرى و يشجونى
منيت نفسى آمالا يماطلنى ….بها زمانى من حين إلى حين
هتفت لى ممازحة ” انت رجل راقى ” . شكرتها و دفنت صمتى فى فنجان قهوة . بعد دقائق وجدتها تجلس فى إحدى فصولى التى أدرسها و بعد شهرين أصبحت تلك السيدة واحدة من أقاصيص العمر الكبار !!
قصتى إذن مع الكابلى قصة عمر لا قصة أغنية فقط !!
تقول رزنامة عمره إنه ولد فى مدينة بورتسودان فى العام 1932 أى قبل عام فقط من مولد العبقرى الأكبر محمد وردى . بدايات الثلاثينات كانت حاسمة فى تاريخ بلادى . وقتها رحل العبقرى خليل فرح . ثم كافأتنا السماء بمقدم الكابلى و وردى . لكنها أيضا أمدتنا برجل قدر له فيما بعد أن يذيق بلادى صنوفا من العذاب الكبار . و تلك سنة الله فى الأرض . أن تتجاور الورود و الرمال و أن يلعب الطفل كرة الماء على شاطئ يرقد قربه التمساح !!
فى بورتسودان نفسها رافق الكابلى الشاعر العظيم ” حسين بازرعة ” و لا أعلم الى اليوم كيف لم يتغن الكابلى لهذا العبقرى اليمنى الجذور السودانى الهوى .
تنقل الكابلى كما غيمة فى عدد من مدن السودان لعل أبرزها كسلا التى تغنى لها فيما بعد برائعة توفيق صالح :
كسلا أشرقت بها شمس وجدى ..فهى فى الحق جنة الإشراق
ثم حطت خيوله بمدينة الخرطوم فيما بعد ودرس الثانوية هناك . لم يلتحق الرجل بجامعة بها بل عمل فى المصلحة القضائية ، مترنما فى فراغه بأغنيات الكبار ، مشهورا بين خاصته بشغفه بأغنيات حسن عطية و عثمان حسين . كتب أغنية ” يا زاهية قلبى الشلتى جيبى ” ولحنها ليتغنى بها عبدالعزيز داؤود . و حين زار عبدالناصر السودان فى الستينات لحن الكابلى أغنية ” أنشودة آسيا و أفريقيا ” للراحل تاج السر الحسن ، و بحث عن فنان ليؤديها أمام الزعيم الضيف . لكن زمرة من أصدقائه أقنعوه أن يؤديها بنفسه .و بالفعل صعد إلى المسرح لتبدأ مسيرة واحد من أساطين الغناء السودانى بل العربى قاطبة .
اشتهر الكابلى بثقافته الموسوعية . فهو قارئ ضليع للشعر العربى و يحفظ دواوين شعر بأكملها . و قد استمعت اليه غير مرة متحدثا عن المتنبئ فاذا به ملما بخبايا حياة و قصائد شاعر العربية الأكبر . وهو متحدث بليغ للغة الانجليزية حافظا لآدابها فى مختلف عصورها و أزمانها . و تدرج فى سلك الصوفية فى جماعة شهيرة قبل أن يتوقف عن ذلك و إن ظلت شفايفة المتصوفة بعضا من تركيبه العبقرى !!
تغنى الكابلى بعيون الشعر الفصيح من السودان و خارجه . و تعمق فى التراث السودانى دارسا و مغنيا و محاضرا و متحدثا عن أهميته فى تعميق الانتماء الى الماضى و الفخر بالحاضر و استشراف المستقبل و لعله الفنان الوحيد الذى يمتلك رؤية فلسفية محددة لقضية التراث . كتب الكابلى عشرات القصائد الفصيحة التى تغنى ببعضها بنفسه كما كتب القصيدة العامية السودانية المعروفة المكتوبة بلغة أهل الوسط المفهومة . بل إنه كتب اغنيات على غرار الدوبيت السودانى المكتوب باللغة العامية الريفية العصية الا على المتخصيين . كتب و لحن الكابلى لفنانين آخرين ولعل أشهر من غنى له الفنان ابو عركى البخيت فى رائعة ” جبل مرة :
مرسال الشوق يا الكلك ذوق
طوف بى الحبان فى كل مكان
قول ليهن شفنا جبل مرة
و عشنا اللحظات حب و مسرة
بين غيمة تغازل كل زهرة
و خيال رمانة على المجرى
و لا أعلم الى الآن كيف التقط خيال الكابلى الوثاب صورة الرمانة على المجرى ليعتقلها فى نص شعرى .
و ذات رحلة فنية الى مدينة ود مدنى لاحظ كمال ترباس أن الكابلى كان يجلس وحيدا . لم يقاطعه فقد أدرك بحاسته أن الرجل القامة تحت تأثير إلهام ما . بعد دقيقة أمسك الكابلى بالعود و بدأ يترنم :
بريدك والريدة باينة فى عينيا
بريدك والشوق غمرنى و فاض بيا
ما إنت شبه البترادو
تصلح الكانو اتعادو
قول ليا بس كيفن القاك
قول ليا آه قول ليا
التقطها ترباس و صارت من أغنياته الكبار . و الأمثلة كثر .
تغنى الكابلى بعشرات القصائد العاطفية أشهرها ” ضنين الوعد ” و ” أكاد لا أصدق “و طائر الهوى ” . تغنى أيضا للوطن غناءا مباشرا مثل ” يا قمر دورين ” . لم تقتصر مشاركاته على حدود السودان بل تمددت مساهماته للغناء للقضايا الكبرى من ايام مؤتمر باندونج و مرورا بقضية فلسطين و غيرهما .
الكابلى من عباقرة بلادى . ظل صامدا بها ، واقفا كما صارى السفينة فى قلب تقلباتها و ثوراتها منذ الستينات و الى عهد قريب .
قبيل عام تقريبا حزم الرجل حقائبه و هاجر الى أمريكا كما هاجر كل شى جميل من بلادى . سألت صديقا إعلاميا عن سبب رحيل هذا الرجل الغيمة فقال لى إن للأمر أسباب طبية فبلادى شهيرة باغتيال خيولها و ما محمود عبدالعزيز و والى الدين إلا مثالين فقط . لا أدرى . لكنى أشعر شعورا خفيا بأن الرجل ما عاد يحتمل ما يحدث من غثاء يفيض على بلادى سيما فى عصر من يطنون فى أذاننا ليل نهار .
و يبقى الرجل فينا و لو نام بيننا محيط و ليل و ضباب !!
………….
مهدى يوسف ابراهيم
جدة
الجمعة غرة مايو 2015
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. أمتعتنا والله أستاذ مهدى
    كلامك يقول أن وراء الأكمة ماوراءها
    لكن يبقى بيت القصيد في كلامك “كما هاجر كل شىء جميل من بلادى ”
    كان الله في عون بلادى وإنسانها ومبدعيها وما تبقى من جمال.
    لافض فوك يارجل ولا أسكت الله لك حسا.

  2. شكرا لك وانت تكتب عن قامة مثل الكابلى

    تعودنا ان نعرف قيمة ما نمتلكه من مواهب بعد فوات الأوان وبعد ان يغيبهم عنا هادم اللذات

    اتمنى ان ينفض الغبار عن هامات فى شتى المجالات وان يكرموا فى حياتهم

    انت فعلا انسان راقى

  3. كلامك وكتابتك راقية وانت تكتب عن قامة فنية سامية مثل كابلى ….لقد هاجرنا وهاجر كل شىء جميل من بلادى وعزاءنا فى الارث الفنى والادبى لهؤلاء العمالقة.

  4. الاستاذ الراقي مهدي
    تحياتي
    الاستاذ موجود بامريكا معية ابنائه
    لدي عم في مقام والدي يهاتفه دايماً، كان زميله في القضائية
    ممكن ان امدك بهاتفه في امريكا ان رغبت
    انت انسان سوداني راقي ، مثلك تلبى طلباته من غير معرفة
    مع مودتي

  5. لله درك يا استاذ مهدي فقد هيجت شجوننا بعد موات. حركت فينا شجونا كم هيجها استاذ الاجيال الفنان القامة الرائع/ استاذنا الكابلي. حينما كان السودان السودانا و حينما كان المواطن يعيش مختارلا في وطنه و بكامل آدميته كان صوت الكابلي يمنحه النشوة و السعاد، و وكم رددنا أغانيه بل و أحديثه السمحة و حينما جف الزرع و الضرع و أصبحت الخضرة يبابابل حتى أحاسيسنا ماتت في دواخلنا حينها لم يحتمل الانسان المرهف الفنان الكابلي فهاجر و أخذ قلوبنا معه بعيدا بعيدا في الأفقز أسأل الله لك العافية و أن يجود الزمان غلينا بعودتك في أطيب الظروف و الأوقات و أن نشجو معك في هذه البلاد و قد عادت الابتسامة من جديد

  6. مقال اكثر من رائع يا استاذ مهدي بروعة هذا البلد العبقري الذي انجب هؤلاء الافذاذ …الي متي هذا الكابوس الاخواني ؟؟الي متي؟؟

  7. أشكرا الجميع على تعليقاتهم ثناءا و نقدا . لكم التحية و لأستاذ الأجيال عبدالكريم الكابلى الصحة و العافية و العمر المديد .
    ….
    مهدى يوسف

  8. تغني الكابلي لكل ماهو جميل في بلادنا تغني لكسلا ومروي وجبل مره تغني لثوار اكتوبر وهبت الخرطوم في جنح الدجي ,, تغني واطربنا بلمحمة الشريف زين العابدين الهندي الذي طفنا معه فيها في كل ارجاء الوطن والتي ابدع فيها الشريف الهندي الذي لم تغب عنه شارده او وارده في بلادنا الحبيبه,,, لم يترك معلم اونهر او غابه او حيوان او حتي البئة التي يعيشون فيها لم يذكره وتغني لرموزنا الوطنيه في تلك القيده العصماء او الاوبريت,,,

    امتع اذاننا وعواطفنا باغانيه العاطفيه من كيف يهون وضنين الوعد والمراياوحبك للناس وحسنك فاح مشاعر وتطول القائمه,,,

    ترك الكابلي السودان كغيره من المبدعين الذين صعب عليهم العيش في هذا الزمن الانقاذي الاخواني الاغبر,,,
    متعك الله بالصحه والعافيه يا عبدالكريم وباذنه تعالي ستعود لبلادنا بعد ان يطل علينا فجر الحريه مجددا وستهب الخرطوم في جنح دجا اخر وسيتم كنس خفافيش الظلام الذين تحجرت عقولهم وقلوبهم غلف الي مزبلة التاريخ,,,

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..