“ربي يخضر عود ضرعاتكم” ليس ثمة أقسى من حياة العمال الموسميين..

الخرطوم ? حسن محمد علي
تمثل وظيفة العمال الموسميين للزراعة حياة كاملة التفاصيل، وغزيرة المعاني، تتألف من حكايات تبدو أشبه بالمستحيلة، فيمكن أن تروي لك الحكايات قصة تاجر كبير بدأ حياته كعامل صغير في يوميات المشاريع الزراعية، إلى أن كون ثروة كبيرة وأصبح من أشهر رجال المال والأعمال.. واشتهر العمال عن غيرهم بثقافة موسوعية من خلال اهتمامهم بوسائل الإعلام خاصة (الراديو) لكن مع كل ذلك فإن لحياتهم مشقة وعناء غير محدود.
سوق العمال
مهنة العمالة الموسمية في القضارف ونسبة لأهميتها البالغة والحاسمة لديها أسواق خاصة يتجمع فيها العمال، إما وسط سوق مدينة القضارف في شارع المليون ذكي حيث يتجمعون أمام شجرة نيم كبيرة، أو في طرف المدينة الغربي (السوق الشعبي). وأسواق العمال لديها طبائعها الخاصة ونكهتها الطريفة، وفي رحلة بحثك عن هوية الزراعة الحقيقية تجد من يحمل في يده (منجلا) مكث مع أحد العمال عقدين ونيفا وآخر يحمل (ملودا) يبدو عليه القدم كأنه وثيقة من الحرب العالمية الأولى.
“ود القم الشهير”
ولمهنة العمال الموسميين (الجنقو) وسطاء وسماسرة لديهم إلمام واسع بالعمال، وهم بذلك يجنون وراءها (يوميات) معتبرة، فهم بلا شك يعرفون أن العمالة الماهرة تنحدر من جهات محددة، فيما يشتهر آخرون بإنجاز مراحل فلاحية محددة، ويشتهر (هارون ود القم) أحد سماسرة العمال بالقضارف بممارسة هذه المهنة لما يملكه من وعي كامل بالعمال، وقد أكسبته هذه المهنة روحا مرحة وفكاهية تمكنه من إقناع العمال الموسميين بالذهاب إلى المشاريع وهم في كامل الثقة من أداء مهمتهم، ولهارون حكايات مع العمال ما تنفك منها قصص تعرضهم لمخاطر الأمطار أو ظهور حيوان متوحش وهم في طريقهم إلى الخلاء البعيد في مناطق القضارف المختلفة.
حياة قاسية
ليس هنالك أقسى من حياة العمال الموسميين فهم يتعرضون لأكبر المخاطر أثناء أداء واجبهم، فعلى أرض مكسوة بالزراعة والحشائش ومناخ ماطر طوال أشهر تشوب عملهم الكثير من المشاق، حيث أن العمال يكونون في إحدى (التايات) ومفردها (تاية) لأداء مهامهم وتفاجئهم أمطار غزيرة أو رياح عاتية يقاومونها وهم عزل، لكن ترحيل العمال في العربات المكشوفة هو الأكثر خطرا على حياة العمال، ففي كثير من الأحيان وفي الطرق الوعرة التي يسلكونها في طريقهم إلى المزارع يتعرضون لحوادث سير، بجانب معاناتهم الدائمة من السير لمسافات طويلة في مناطق لا تستطيع السيارات الوصول إليها، كما تشكل المساحات الشاسعة في مناطق الزراعة المطرية عبئا ورهقا على العمال.
الكجيك وإذاعة أم درمان
يتناول العمال الموسميون بصورة راتبة وجبة (الكجيك) وهي أسماك يتم تمليحها حتى تجف لتمكث أطول فترة ممكنة، ويتناولونه في وجباتهم الثلاث في الصباح الباكر ومنتصف النهار وبعد مغيب الشمس، بجانب عصيدة (الكوجة) وهي عصيدة من الدقيق الفطير، ورغم القيمة الغذائية الضعيفة في وجبات العمال الزراعيين إلا أنهم يبذلون مجهودا جبارا ويعملون لأكثر من (13) ساعة يوميا، لكن عزاء العمال الوحيد وطوال يومهم هو الاستماع إلى الراديو فهم أصحاب ذاكرة موسوعية وثقافة عالية ببرامج الإذاعة.
فراسة وبداهة
للعمال الموسميين قدرة على تمييز البيئات المختلفة وأنواع الحيوانات ومواعيد ظهورها، وقد أكسبهم عملهم في الزراعة خصائص كبيرة، ويمكن للعامل أن يتفادى طوال عمله التعرض للسعات العقارب أو هجوم الأفاعي لما يملكه من حاسة ومعرفة بها، فالعمال يميزون أنواع الحشرات من مجرد ظهور رائحة محددة، كما يميزون العمل مع أي من المزارعين، ولقد اشتهر بعض المزارعين بسبب مصداقيته مع العمال بصرف أجورهم من أي مكان متى ما أبرز العامل الإيصال الذي يحمل اسمه، لكن العمال في غالب الأحوال وللظروف الأمنية في أماكن الزراعة البعيدة يتلقون أجورهم بعد الانتهاء من عملهم ووصولهم إلى المدينة
اليوم التالي