رجال ونساء حول الجنوبي أمل دنقل

تطلّ الذكرى 32 لرحيل الشّاعر المتمرّد أو الثائر بالقلم أمل دنقل المولود في أسرة صعيدية عام 1940 بقرية القلعة، مركز قفط بمحافظة قنا في صعيد مصر، وتوفي في 21 مايو عام 1983 عن سن 43 سنة.

العرب ممدوح فرّاج النابي

أمل دنقل كثيرا ما أعطى وقليلا جدا ما أخذ

لا يطلّ اسم الشاعر أمل دنقل إلا وتطل مصاحبة له معاني التمرّد والمقاومة للظلم بدءا من ظلم العائلة وانتهاء بظلم الحاكم المستبد، لذا لم يجد غضاضة في أن يلقى مناصه في سبارتكوس محرّر العبيد قائلا «المجد للشيطان معبود الرّياح»، وهو المعنى الذي حرّفه الإسلاميون، ووصلوا إلى تكفير أمل دنقل.

تعدّدت روافد دنقل الثقافية التي نهل منها وإن كان صديقي جمال عطا يرى أن للوجودية ونيتشه خاصّة فكرة العدمية، تأثيرات مهمّة، وإن كان هناك من ينكر هذه التأثيرات الغربية جملة وتفصيلا، حيث يرى أمل صعيديّا، وفي الرفض والإباء هذين من شموخ الصعيدي، وهو ما حدا بوصفه بالماركسي الصعيدي كما يصرّ الدكتور أحمد شمس الحجاجي.

المتأمّل في تكوين أمل يجد أن حياة أمل وتربيته الصّارمة التي عاشها في قريته وسط عائلة تعيش في واقع قاهر، ما يعدّ رافدا مهمّا في تشكيل شخصية أمل، حيث اليتم والظلم خلقا منه رجلا وهو طفل صغير لم يتجاوز العاشرة، حتى أنه كان يرفض دخول السينما لأنه لا يليق بشاب جادّ (وللصدفة أول فيلم دخله كان مصطفى كامل بما يحمله من معاني الرجولة والتضحية)، كما ظلّ لأعوام يرفض أكل الحلوى لأنها لا ترتبط بالرجولة، والإحساس بالظلم ترجمه في قوله:

ورأيت ابن آدم/ ينصب أسواره حول مزرعة الله،/ يبتاع من حوله حرسا، ويبيع لإخوته/ الخبز والماء، يحتلب البقرات العجاف لتعطى اللبن.

ينتمي أمل إلى عائلة تعزّز صفات القبيلة في جنوب مصر، والحقيقة التي تغضب الجميع أن شهرة أمل أكسبتها الكثير دون أن تقدّم له شيئا على الإطلاق، رغم أن عمه كان عضوا في مجلس الشورى لدورات ومنخرطا في الحزب، وبالمثل صار أنس (أخوه) عضوا في البرلمان لدورة واحدة، أنس كان يحتفظ بالكثير من الوثائق والقصائد المجهولة بخط أمل الجميل، أخرج بعضها في كتاب، لكن ماذا قدّم لأمل؟ الجواب: لا شيء.

لكن في المقابل ماذا أخذ؟ الجواب هو أعلم به. الغريب أن أوصياء أمل كثر وأهمهم على الإطلاق الدكتور جابر عصفور، الذي كان صديقا له، بل إن أمل كان يحبّه، حتى أنه أوصاه بألا يأخذ نقودا من أحد لدفنه في بلدته، وأعطى له قيمة ما يكفي لذهاب الأصدقاء لتشييع جنازته، بقدر هذه المكانة والعلاقة بينهما: ماذا قدّم لصديقه؟ كأستاذ جامعي لم يقدّم سوى قراءات متفرقة لشعر أمل، ومقدمة لديوانه، وإن كانت في نظر الكثيرين، أقلّ بكثير مما كتبها عبدالعزيز المقالح الشّاعر اليمني للأعمال الكاملة، بالإضافة إلى ندوة في المجلس الأعلى للثقافة عندما كان رئيسه.

أما النموذج الأقرب بحكم خصوصية العلاقة، هو زوجته عبلة الرويني، لا ينكر أحد حجم المعاناة التي تحمّلتها عبلة الابنة الأرستقراطية في سبيل حبها لأمل من عائلتها، ومن أصدقائها في جريدة الأخبار، وحتى من أصدقاء أمل أنفسهم الذين كانوا يقدحون فيه عند غيابه ويصفونه بأقذع الصفات المهينة التي لا يتحمّلها بشر.

لكن في المقابل ضحّى أمل بأشياء كثيرة في سبيل حبه أيضا لعبلة، بأن رهن قطعة الأرض التي ورثها عن أبيه، وأبقاها له أعمامه بعد أن استولوا على الجزء الأكبر من الميراث، ليشتري لها الخاتم الألماس حسب اتفاق الأم التي أصرّت على طلبها، فاشتراه لها في كبرياء.

كما فكّر في السّفر للعمل مع طلال سليمان في جريدة السفير كمشرف على الصفحة الثقافية، والأهم أنّه منحها اسمه الغالي الذي صار قرينا بها، وقلادتها التي تتزيّن بها رغم مرور أكثر من 32 عاما على رحيله، ماذا قدّمت في المقابل لأمل؟ لا شيء سوى كتاب بعنوان الجنوبي، أظهرت فيه نبلها وصبرها وحبّها لأمل، لا أنكر أنّ الكتاب أضاء الكثير من جوانب أمل، لكن لم تنس دورها ولا اسمها ولا تضحياتها، وكأنّه كتاب عن ذاتها في صورة أمل، إضافة إلى ملف في جريدة أخبار الأدب، ثم فصل في كتابها «الشعراء الخوارج».

قد تبدو الحقيقة المرة أنّ كلّ من يتحدّث باسم أمل هو من أكثر المستفيدين منه دون أن يردّ الجميل لما اكتسبه من أمل، فمتى نردّ الدّين لصحابه؟

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..