وداعا زنوبيا .. ملكة ملوك الشرق

تدمر تلك المدينة التي عانقت الشمس قديما تغدو اليوم ركاما وأنقاضا من حجر مهشم طاولتها معاول الوحشية والبربرية والإرهاب الأسود.

ميدل ايست أونلاين

بقلم: مي فاروق

فارسة الصحراء

امرأة ليست كالنساء في زمن ليس كأي الأزمان, سيرتها أقرب لسير الأبطال في الأساطير, فارسة الصحراء التي دونت لنفسها خلاصة تاريخ الشرق, هي الملكة المحاربة أعظم من حكمت مملكة تدمر الأثرية أقوى ممالك الشرق, امتدت مملكتها من شواطئ البسفور في تركيا حتى النيل في مصر.

حررت “الهلال الخصيب” من الاحتلال الفارسي والروماني وجعلتها دولة واحدة كاملة السيادة, ما كانت زنوبيا تشبه غيرها من الملكات الشرقيات أمثال نفرتيتي وحتشبسوت وحتى كيلوباترا. كانت ذات نكهة ثقافية خاصة فمع قيادتها للجيوش بحكمة ودراية وحزم كانت تكتب في الآداب والتاريخ, وتجيد اليونانية والآرامية والهيروغليفية واللاتينية. اطلعت على تاريخ العرب واهتمت بالعلم وجعلته إلزاميا وأقامت صالونا أدبيا ضم نخبة من رجال الفكر أبرزهم الفيلسوف كاسيوس لونجستيوس الذي عينته مستشارا لها, ذلك المفكر الذي قامت الثقافة الغربية على كتاباته, وكتابات أرسطو.

امرأة وصلت لأقصى النخيل وأمسكت بالظل، واقتفت أثر البطولة في ركاب الخيل, وجه عبقري مفتوح كالسفر البعيد.

هي الفاتنة التي سلبت بحسنها العقول والفارسة التي زرعت السهول على وقع الطبول, المثقفة التي أسست في تدمر مركزا حضاريا قبل ثلاثة آلاف عام.

زنوبيا ظاهرة حضارية بارزة ظهرت في أيام سحيقة وبعيدة لتموت اليوم نحرا وبحد السيف.

تدمر تلك المدينة التي عانقت الشمس قديما تغدو اليوم ركاما وأنقاضا من حجر مهشم طاولتها معاول الوحشية والبربرية, فكيف لامرأة من زمن بعيد تبني حضارة تعيش أكثر من ثلاثة آلاف عام لتموت اليوم أسيرة الجهل وقطع الرقاب, انتهاك واستفزاز ثقافي سافر يضاف لقائمة داعش الإرهابية قامت به في الثالث عشر من مايو/آيار الماضي, لتنهي بمعولها حضارة ثلاثة آلاف عام, وتعتدي على امرأة صنعت تاريخا وتدمر أكبر متحف سوري في الهواء, بعد تدميرها السابق لآثار النمرود الآشورية التي تأسست في القرن 13 ق. م جنوب مدينة الموصل, وبعد تدمير متحف نينوى شمال الموصل وتدمير قلعة تل عفر عبر تفخيخ ونسف أبراجها, وأسوارها.

أهكذا ينهي السفهاء سيرة الأبطال؟ أهكذا تسقط الثقافة والعطاء الحضاري والإنساني ضحية من ضحايا التطرف والوحشية الذي طاول الأشخاص والتاريخ والذاكرة والثقافة؟

فلم يعد الإرهاب مقتصرا على الرقاب بل العقول وما تحمله من رسالات إنسانية ثقافية, فلماذا يجتاح هذا الطوفان الماضي؟ هل لأنه ضمير إنساني؟ أم لإفراغ أوطاننا من هويتها الثقافية؟ أم كلاهما معا؟

لا أريد الخوض في التبريرات ذات المرجعيات السياسية لأنني أخشى الغرف المظلمة المليئة بالذبح والحرق والظلم والقهر والجهل, وأيا ما كان اسم تلك الجماعات (داعش أم فاحش أم غادر) لا يهم لأنها لم تكن التنظيم الإرهابي والاستبدادي الوحيد الذي يمارس العنف ضد إرادة الشعوب وتاريخها, ولكن ما يستحق الملاحظة والاهتمام أنه في ظل آلة القتل والإبادة وجز الرؤوس وأكل قلوب البشر والتطهير باسم الدين ? وهو منهم براء ? وجود توجهين فكريين يبدوان متعارضين لكن بينهما خطوط وتقاطعات مشتركة:

-التوجه الأول: التوجه الأصولي الديني والعرقي الذي يتبنى نكوصية للهوية وما يحمله من انحصار وجزر ثقافي.

– التوجه الثاني: التوجه الحداثي ذو الموجة المتصاعدة والمتنامية وما يحمله من مد ثقافي .

فهل استمرار موجات الحداثة مرهون بوجود هذه الموجات العرقية أم أن هذه الأخيرة نتيجة حتمية لتصاعد الأولى.

على أن كلا التوجهين يمارس العنف الثقافي ذاته على اختلاف درجاته وممارساته وأشكاله، كلاهما يدعي احتكار الحقيقة وتهميش الآخر, كلاهما يمارس ثقافة العنف سواءً بالتحريض أو بالتحريك أو بالإقصاء.

فمن قال إن المعرفة الإنسانية سلمت من الاعتداء والتنكيل ألم تسقط على مر التاريخ أسيرة للأنظمة الشمولية التراثية التي أنجبت (الخوارج والقرامطة بالأمس، والقاعدة وطالبان وبوكو حرام اليوم) وتتكرر المشاهد العدائية ضد الكتب والثقافة, فتقع الكتب في محرقة على مر التاريخ، فماذا عن حرق مكتبة الإسكندرية القديمة, وحرق مكتبة بغداد وحرق كتب ابن رشد في الأندلس وحرق كتب ابن المقفع بدعوى الزندقة.

وما فعلته النازية لا يختلف كثيرا عن هذا المشهد السابق, فقد عمدوا لتفجير معالم ثقافية روسية كما قاموا بتسوية مدينة وارسو البولندية بالأرض خلال الحرب العالمية الثانية. واليوم تتكرر المحرقة بحرق المكتبة المركزية وسط العراق وهي من أقدم المؤسسات الثقافية التي تضم الكتب والمخطوطات القديمة في شتى العلوم ولن ننسى محاولة الاعتداء على المجمع العلمي بالقاهرة.

روايات تحمل نفس الحدث التاريخي باختلاف الأشخاص والزمان والمكان, وإذا أردنا المقارنة بين تلك الروايات وبعضها كأننا نقارن السيئ بالأسوأ هذا ما يحدث على مر التاريخ, فلماذا نستغربه اليوم؟

لم تكن سياستنا المعرفية يوما قائمة على الحرية واحترام الآخر بل قائمة على الإقصاء والاحتكار المعرفي, وإلا فلماذا تختفي حقبة تاريخية طويلة من مناهجنا الدراسية تسمى “التاريخ القبطي”؟

حقبة تمتد ستة قرون كاملة إلا من إشارات عابرة وربط القبطية بظهور المسيحية دون التركيز على التاريخ القبطي الثقافي والحضاري, بل يزداد الأمر سوءا عندما تقتصر كليات علمية على أغلبية مسلمة ككلية دار العلوم وأقسام اللغة العربية بكليات التربية والآداب, فمن فرض هذه الوصاية على العلم والمعرفة؟ ولماذا لا تدرس اللغة العربية كسائر اللغات الأخرى كنص معرفي مفرغا من البعد الديني؟ ولماذا لا نتعامل معها في إطار علمي بعيدا عن قدسيتها باعتبارها لغة القرآن الكريم أو لغة أهل الجنة؟

إن ما أردت قوله إن المعرفة والثقافة والتاريخ بأكمله لم يبن إلا على أكتاف الأحرار والمناضلين وأصحاب المبادئ السامية, ولم تهدمه إلا معاول العبيد والمأجورين وأصحاب الأسنان النابية, وأننا إذا أردنا حماية الثقافة, فلا بد أن تتحرر الدراسات والبحوث العلمية لتغدو شفافة قادرة على مواجهة الفكر الشمولي، وأن نؤمن أن الثقافة لا تقوم على التمييز والاحتكار وأن نبتعد عن المواقف الفصامية حتى لا يغدو التاريخ مجرد حجر وركام.

وحدها الحرية قادرة على البناء والعطاء, وحدها من يفك هذا الخناق، وحدها من يخلق وعيا حضاريا، وحدها من يعيد الألواح السومرية والآثار التدمرية, وحدها قادرة على استنساخ وجه عبقرية كزنوبيا.

العدل والحرية كفيلان بوقف نزيف الدماء البريئة وهتك الحرمات وتدمير البُنى الثقافية.

وسؤال أخير ماذا يحدث إذا وقعنا تحت تأثير الجهل وانحسر الفن والأدب والشعر والمسرح والرسم والرياضة والموسيقى والغناء, بل والرقص؟

هل ستظل ملامحنا بشرية؟ أم سنتحول لآلات ووحوش؟

إجابتي عن هذا السؤال الافتراضي المخيف في عبارة رددتها زنوبيا عندما وقعت أسيرة في يد الرومان: “بئس ما تاج على رأس خانع ذليل, ونعم ما قيد في ساعد حر أبيّ”.

تعليق واحد

  1. أعتقد أن على الشعوب في الشرق الأوسط حفظ تاريخها في المتاحف الأروبية والأمريكية للحفاظ عليها لحين يسود العقل المنطقة كما أنني ضد محاولات هذه البلدان استعادة تاريخها وآثارها من الغرب لأنها بذلك تعرضها للضياع إلى الأبد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..