قصة الخرطوم The Story of Khartoum

بدر الدين حامد الهاشمي
قصة الخرطوم The Story of Khartoum
قصة الخرطوم The Story of Khartoum
سي أي جي وويكلي C. A. J. Walkely
تقديم: هذه ترجمة مختصرة لشذرات قليلة من مقال نشر في العدد الثامن عشر من مجلة “السودان في مذكرات ومدونات” الصادرة في عام 1935م، للكاتب سي أي جي وويكلي عن تاريخ الخرطوم. يتكون المقال من 21 صفحة (ولعل هذا هو الجزء الأول فقط مما كتبه السيد وويكلي، إذ أنه ينتهي بكلمة “يتبع”). وحاولت هنا تلخيص ما رأيته مهما في المقال، والذي ورد في ختام جزئه الأول رسم بديع متقن لميدان المديرية بالخرطوم (ربما في العهد التركي)، لا أدري إن كان الرسم للمؤلف نفسه أم لغيره. وأورد المؤلف كذلك في مقاله كثيرا من المراجع التاريخية مما لا يتسع المجال لذكره هنا. الجدير بالذكر إن الشبكة العنكبوتية تذخر بكثير من المعلومات المبسطة (والمغلوطة في بعض الأحايين) عن إنشاء مدينة الخرطوم، فبعضهم يذكر أن المدينة أنشئت على يد الحكمدار عثمان جركس باشا البرنجي عام 1824م، بينما يقول آخر إنها أنشئت عام 1821م. ويقول موقع الجزيرة إن الخرطوم “…كانت في البداية غابات وأحراشا قبل أن يؤسس بها والي مصر محمد على باشا بعد تغلبه على سلطة سنار في 1821م مدينة عرفت باسم الخرطوم، وأصبحت في العهد التركي المصري عاصمة للسودان بدلا عن واد مدني…”! هنالك رسالة لدرجة الدكتوراه من جامعة القاهرة عام 1963م عن “تاريخ مدينة الخرطوم تحت الحكم المصري 1820 ? 1885م” للدكتور أحمد أحمد سيد أحمد، نشرها فيما بعد د/ عبد العظيم رمضان في كتاب صدر في سلسلة بعنوان “سلسلة تاريخ المصريين” بعد أن ذكر أنه وجد الرسالة الجامعية معروضة للبيع في سوق للكتب المستعملة في سوق الأزبكية! وللدكتور الراحل محمد أبو سليم كتاب بعنوان “تاريخ الخرطوم”، ولدكتور جعفر ميرغني محاضرات مسجلة عن تاريخ الخرطوم وعلاقته بتوتي والمحس، تجدها مبثوثة في عدد من المواقع الإسفيرية.
نشر هذا المقال قبل أعوام، وهذه نسخة معدلة منه.
المترجم
لا يعرف الكثير اليوم عن تاريخ ما يسمى الآن بمدينة الخرطوم، ولكن كانت للرغبة في احتلال الأراضي، والتوسع التجاري، واستكشاف منابع النيل بالتأكيد تأثير بالغ في الحركة المبكرة نحو جنوب السودان والتجارة معه. وتقف صور بقايا مقابر “طيبة” على ذلك شهيدة. وترى في مقبرة من مقابر حاكم السودان (من سلالة هيو الحاكمة Hiu XVIII) صورا للأعراق الجنوبية التي حكمها، وزعماء قبائل مع تابعيهم يحملون قواربا مع قوم من زنوج يجلسون عليها، وقطيع من الأبقار، وملكة على عربة تجرها ثيران تشبه الثيران الحبشية، وفوق رأسها مظلة (شمسية) ملكية. ولعل أول أثر مكتوب عن زيارة لمنطقة قريبة من الخرطوم هو ما نقشه حاكم صعيد مصر “يونا Una” عام 3200 قبل الميلاد (ق م) عند غزوه للسودان ومروره جنوب مدينة الخرطوم الحالية.
وحكمت مصر على مر العصور بإمبراطوريات الفرس والإغريق والرومان، وحاول كل هؤلاء، دون كبير نجاح، سبر غور المسار الغامض للنيل ومنابعه. ولم يسجل التاريخ أكثر تلك المحاولات. غير أن المؤرخين سجلوا محاولات الإمبراطور الفارسي قمبيز لتتبع مسار النيل في الرمال الحارقة في أرض إثيوبيا (النوبة). وتقف “مروي” بأهراماتها وآثارها، والتي سميت بهذا الاسم على أخت قمبيز، ولا تبعد كثيرا عن شندي، كدليل آخر على المحاولات الاستكشافية لذلك الإمبراطور الفارسي. سجل هيرودوت أن الجنود المصرين الذين هجروا جيش فرعون مصر ياسمتيك اتجهوا جنوبا نحو أثيوبيا واستقروا في المنطقة الواقعة جنوب مروي، في المنطقة الواقعة بين النيلين الأبيض والأزرق. نجح الجغرافي وأمين مكتبة الإسكندرية الإغريقي اراتوسثينس Eratossthenes في جمع معلومات مكنته في حوالي عام 50 ق م من أن يرسم، وبدقة معقولة، خريطة للنيل حتى الخرطوم. في حوالي عام 50 ق م كتب الفيلسوف والجغرافي بلايني الأكبر (23 ? 79 ق م) أن المستكشفين الإغريق درسوا النيل، وأن بعض رحالة إغريقي اسمه سايموندس عاش في مروي لمدة خمسة أعوام كاملة، بينما توغل آخر (اسمه داليون) عبر النيل لمناطق بعيدة جنوب الخرطوم.
لما عزم نيروNero (الذي حكم الإمبراطورية الرومانية بين عامي 54 و 68م، واشتهر بمحاولة حرق عاصمته روما ليفسح ? كما زعم – مكانا لبناء مجمع ضخم له. المترجم) على غزو السودان، أرسل أولا للبلاد 200 من الجنود في رحلة استكشافية في عام 66م. رحب أمراء النوبة الودودين بهؤلاء “المستكشفين” (وكان أحد هؤلاء الأمراء يحكم المنطقة بين أتبرة والنيل الأزرق) بل وفروا لهم المراكب ليصلوا بها إلى النيل الأبيض. جمع هؤلاء الجنود معلومات غزيرة عما شاهدوه في المناطق التي زاروها في السودان، ولم يرجعوا لوطنهم إلا بعد أن أعاقت مسيرتهم المستنقعات.
ولا يعرف الكثير عن تاريخ الخرطوم القديم غير ما ذكرنا، حتى جاءت بداية القرن السابع عشر الميلادي. كتب المؤرخ الأرميني أبو صالح أنه كانت هنالك مدينة قرب الخرطوم الحالية هي سوبا وكانت عاصمة مملكة علوة المسيحية. تبعد سوبا نحو 13 ميلا عن الخرطوم، وتقع على الضفة اليمنى للنيل الأزرق. وكانت تلك مملكة واسعة فيها نحو 400 كنيسة، أكبرها في سوبا وتسمى كنيسة “منبالي”، وكانت كل كنيسة تشيد في وسط قلعة، كما هو الحال في شمال النوبة.
ويوجد من الدلائل ما يشير إلى وجود مدينة قديمة على الضفة الشمالية من النيل الأزرق بجوار مدينة الخرطوم الحالية. وفي تاريخ قريب (1929م) اكتشفت السلطات إن سكان بري كانوا يحفرون في منطقة تقع غرب منطقتهم (وجنوب محطة الكهرباء) للحصول على طوب محروق من حيطان مدفونة. وفي ذات المنطقة تم العثور على بقايا عظام بشرية. ودللت تلك الاكتشافات على وجود مدينة صغيرة في تلك المنطقة. وعزز من ذلك الاعتقاد العثور على بقايا أدوات فخارية مدفونة على عمق لا يتجاوز مترا ونصف من سطح الأرض الحالي، ولعلها كانت من بقايا مدينة قامت في تلك المنطقة في القرن السابع قبل الميلاد. ووجدت كذلك بقايا أثرية من عظام وفخار محطم في منطقة شجرة غردون (شجرة محو بك. المترجم) يعتقد أن تاريخها يرجع إلى عام 400 ? 500 م. وجدت كذلك بقايا آثار مسيحية في منطقة ود الحداد على النيل الأزرق، وفي القطينة على النيل الأبيض، وفي أماكن أخرى.
وقام عبد الله أحمد بن سليم (من مواطني أسوان)، وكان أحد ثلاثة سفراء أرسلوا لعظيم النوبة، بوصف سوبا في عام 969 م، وأثنى على جودة الإبل والخيول واللحوم والبيرة فيها! ووصفت سوبا بأنها كانت مدينة ذات مبان كبيرة، وبيوت جميلة، وكنائس تحوي كثيرا من الكنوز الذهبية، وتحيط بها الحدائق. كان ملكها يضع على رأسه تاجا من الذهب (وهو معدن متوفر بكثرة في مملكته)، وكان أكثر قوة ونفوذا من الملك المسيحي في “شمال الوادي”، حيث كانت الأرض أقل مساحة وخصوبة رغم أن إنتاجها كان أوفر. وكانت الكنيسة في سوبا تتبع الكنيسة اليعقوبية في مصر، ويخضع أساقفتها كذلك لبطريرك مصر. وكانت كتب كنيسة سوبا مكتوبة بالإغريقية، لكنها ترجمت للغتهم المحلية. ووجد عبد الله أحمد بن سليم في بلاط ملك سوبا رجالا كثيرين من دول مختلفة كان بعضهم مسيحيا، والآخر محمدي الديانة، بينما كان للبقية معتقدات أخرى مثل عبادة الشمس أو القمر أو النجوم أو النار، وبعضهم أتخذ شجرة أو حتى حيوان كرب له.
وزاد ازدهار مملكة سوبا المسيحية، خاصة في القرن الحادي عشر الميلادي. ولم تتأثر تلك المملكة كثيرا بجحافل الجيوش القادمة من الشرق لغزو أفريقيا، ولا بقيام وانتشار القوى المحمدية، والتي أشعلت ثورة كاملة في كثير من الجوانب السياسية والأخلاقية بالقارة. وبقيت مملكة سوبا مسيحية حتى القرن الثاني عشر الميلادي، ولذا ظلت في حالة عداء دائم مع القادمين من الشرق، رغم أن دواعي التجارة المتبادلة فرضت نوعا من الهدنة، وذلك لفترة من الزمن.
وظلت المعلومات حول المنطقة بين ملتقى النيلين يلفها الغموض. وكتب المؤرخ والجغرافي العربي الإدريسي (والذي عاش في منتصف القرن الثاني عشر) أن هذه المنطقة هي التي تفصل بين النيلين، نيل مصر (والذي يجري من الجنوب إلى الشمال)، والآخر، والذي كان يعتقد أنه ينبع من الشرق ويجري غربا، وتقوم حوله عدد من ممالك الزنوج العظيمة.
وكان لشيوع تجارة الرقيق الأثر الأكبر في إضعاف قوة الممالك المسيحية في السودان، مما جعلها “لقمة سائغة” للإسلام. في عام 1275م سقطت دولة النوبة الشمالية في يد المسلمين، الأمر الذي قطع صلة مملكة سوبا بالكنيسة الأم في مصر. ومنذ ذلك التاريخ أصبح سقوط مملكة سوبا مسألة وقت لا أكثر. وأدى تجميع الرقيق كجزية إلى فوضى عارمة وحروب متصلة بين الممالك السودانية الصغيرة. وفي عام 1286م اشتكى آدور Ador ملك مملكة السودان الجنوبي لسلطان مصر من تابعيه من حكام النوبة السودانيين، ولكن النزاعات والحروب القبلية استمرت. وفي المائة عام التي تلت ذلك تحولت الأمور من سيء إلى أسوأ، وذلك بسبب تدخلات سلطان مصر، والذي كان يزكي نار الصراعات الداخلية بين الممالك السودانية، ويشجع تجارة الرقيق. وما أن حل عام 1550م حتى تم القضاء الكامل على كل الممالك المسيحية في السودان، رغم استمرار وجود تجمعات مسيحية متفرقة في أرجاء البلاد لفترات متفاوتة من الزمن. وفي القرون الثلاثة التي تلت ذلك التاريخ لم تقم أي حكومة مستقرة في المنطقة بين وادي حلف وشمال غرب الحبشة، وظلت البلاد غارقة في حالة بائسة من الفوضى والسرقة والنهب.
ولم يبق من آثار مملكة سوبا وكنيستها الجميلة سوى تمثال الحمل الحجري وعمودين وضعا الآن في الكاتدرائية الأنجليكانية. وكان ذلك الحمل الحجري قد اكتشف بواسطة الرحالة الألماني ديوميشن في عام 1863م، وقد أحضره غردون للخرطوم (ورد ذلك في كتاب من تأليف جون وارد، وصدر في عام 1905م، اسمه “سوداننا: أهراماته وتطوره”. لاحظ “سوداننا Our Sudan” هذه! المترجم).
وفي بداية القرن الثامن عشر الميلادي نقلت من بقايا مملكة سوبا أطنان من الطوب المحروق لتستخدم في بناء مدينة الخرطوم الحالية. وتواصل ذلك قبل وصول غردون بأربعين سنة أو تزيد، واستمر ذلك حتى بعد فترة عمله الثانية في البلاد بين عامي 1874 ? 1876م.
وكما هو متوقع، لم يكن في السودان قبة أو فكي قبل عام 1500م، وليس معروفا إن كان العرب قد وصولوا للبلاد قبل ذلك التاريخ. ولكن عند سقوط مملكة سوبا على يد الفونج لم تعد المسيحية هي دين البلاد الرسمي.
وذكر بعض المؤرخين أن موقع الخرطوم الحالي في السنوات التي سبقت عام 1691م كان مجرد معسكر لصيادي السمك والحيوانات البرية. وكانت الخرطوم أيضاً نقطة توقف للعابرين للنيل. ولكن قبل ذلك التاريخ كان هنالك وجود دائم لجزيرة توتي، والتي كانت مركزا لأفراد قبيلة المحس الذين يدعون أن أصولهم تنحدر من الخزرج، تلك القبيلة العريقة في الجزيرة العربية. وفي حوالي عام 1691م هجر رجل دين مسلم مشهور بالعلم والصلاح هو الفكي أرباب العقائد جزيرة توتي واستقر في الخرطوم، وبنى بيتا كان هو البيت الوحيد في ذلك الزمان الذي تدل ملامحه على إنه بيت “دائم”. وتقاطر حول منزله عدد من الجعليين والمحس من مريديه، وأقاموا لهم منازل، وتطورت تلك القرية وكونت فيما بعد ما عرف بالخرطوم.
وبحسب أحد اللهجات المحلية المتداولة تعني كلمة “الخرطوم” خرطوم الفيل، وقد تشير إلى ذلك الشريط الضيق من الأرض الممتد بين النيلين الأزرق والأبيض، والذي يشبه خرطوم الفيل. ويعتقد الرائد جي. أ. جرانت (والذي كان قد وصل للخرطوم في عام 1863م مع حملة الرائد سبيك الاستكشافية لمنابع النيل) أن اسم الخرطوم مشتق من اسم زهرة القرطم (Carthamus tinctorius) والتي يسميها الأهالي جارتون، وتزرع بكثرة في مصر ويستخدم زيتها للحرق. وهذا تفسير مبتكر ولكنه يفتقر للسند.
كان للفكي أرباب العقائد طالبين من “حيرانه” هما الشيخ خوجلي، والشيح حمد ود أم مريوم. دفن الشيخ خوجلي في قبة في (حلة خوجلي) المسماة عليه، والآخر في قبة مجاورة في (حلة حمد).
وقام الطبيب ام. بونست في عام 1698م برحلة عبر النيل؛ بيد أنه فشل في الوصول إلى الخرطوم. وحاول مرة أخري في العام الذي تلاه، ووصل إلى منطقة “قري”، قرب شلال السبلوقة، ومنها سافر عن طريق البر إلى سنار عبر غابات كثيفة من أشجار السنط. وكذلك فشل الرحالة جيمس بروس (بحسب ما جاء في كتابه “رحلات لاستكشاف منبع النيل” والصادر في أدنبرا في عام 1790م. المترجم) في الوصول للخرطوم في رحلته من سنار إلى شندي، ولكنه زار الحلفايا ووصفها وصفا ممتعا، وقال عنها إنها بلدة كبيرة وجميلة ولطيفة، بها نحو 300 منزل طيني مسور. وكان من سبل كسب العيش في الحلفايا آنذاك (وكذلك في أغلب المناطق حتى أتبرا) هو نسج الدمور. وبالحلفايا أشجار نخيل غير مثمرة، والناس بها يأكلون القطط والتماسيح وأفراس النهر (القرنتي)، والتي تكثر في تلك المنطقة.
وأنشئت في انجلترا في عام 1788م جمعية أو رابطة لمستكشفي المناطق الداخلية في أفريقيا. وبعد عام من ذلك التاريخ بعثت تلك الجمعية بالأمريكي ليديارد من مصر للقيام برحلة في أعماق أفريقيا. ووصف الرجل فيما بعد القوافل التي كانت تسافر من مصر إلى سنار (على مسافة نحو 600 ميلا) محملة بالحلي والصابون والأمواس والمقصات والمرايات وخرز السكسك والملايات الحمراء (لعله يقصد الفرك! المترجم). وتعود تلك القوافل إلى مصر ببضائع سودانية تشمل الصمغ العربي وريش النعام وسن الفيل، والجمال والمسترقين.
ووصل الخرطوم في نهاية عام 1820م الفرنسيان كلود وليتوزيك (في رفقة ستة رجال)، وعبرا بصعوبة بالغة النهر (لم يحدد الكاتب المقصود بالضبط من كلمة النهر هنا. المترجم) إلى نقطة أطلقا عليها “رأس الخرطوم”. ووصف كلود في كتاب له صدر عام 1826م تحركات جيش محمد علي باشا لاحتلال السودان. وخلال ثلاثة أيام كاملة استطاع ذلك الجيش (بعربه وتركه، وإبله وخيله) عبور النهر إلى الضفة الأخرى في عملية عالية الصخب، وشديدة الارتباك، وبالغة الفوضى. وعبر بعض الجنود النهر سباحة، بينما انبطح بعضهم على قطع من الخشب أو قرب (جمع قربة) جلدية منفوخة، بينما تشبث البعض الآخر بذيول خيولهم، أو ركبوا على ظهور جمالهم. وبتلك الطرق المتباينة عبر نحو 5500 جندي ذلك النهر، وغرق منهم نحو 30 رجلا و150 من الإبل والخيل. وتعجب الكاتبان من قلة الخسائر في الأرواح مع كل تلك الفوضى العارمة.
وكان خليفة/ حاكم الخرطوم عند وصول جيش محمد على باشا لها هو شيخ أرباب ود كامل ود الفكي علي، حفيد الفكي أرباب العقائد، والذي كان قد هاجر من توتي للخرطوم في نحو عام 1691م. وعندما قتل المك نمر لإسماعيل باشا في شندي، قام الدفتردار محمد بيه الإسطنبولي (ذلك القائد الشهور بشدة القسوة) بمجزرة لكل كبار رجال السودان ومشايخه، وأمر بتدمير مسجد شيخ أرباب، وجاء بالشيخ، وأوثق رباطه بالحبال في فوهة مدفع، وأمر به فأطلق في الهواء، وتناثرت جثة الشيخ في الهواء (هل من حاكم سوداني يطالب تركيا الحالية بالاعتراف بمجازرها في السودان، مثلما يطالبها العالم الآن بالاعتراف بجرائمها في حق الأرمن، أم أن الاستثمار في مجال المطاعم والحلويات أهم؟ المترجم). وكان عبد الرحمن ود محمد (ابن أخ شيخ أرباب) هو آخر خليفة للخرطوم من نسل الشيخ الكبير، وهو مدفون في الخرطوم بحري.
وتثبت خريطة أفريقيا في أطلس d?Anville?s General Atlas الصادر في عام 1729م جزيرة توتي في موضعها الجغرافي الصحيح، بينما تم حذف تلك الجزيرة في خريطة لأفريقيا صدرت بعد ذلك في عام 1800م للبريطاني ويليامسون، ولكنها ذكرت موضع “أمدرمان” و”الحلفايا”!
وليس هنالك اتفاق بين المؤرخين حول من هو أول من أسس الخرطوم الحديثة، إذ أن المدينة وكل وثائقها قد دمرت بالكامل في عهد المهدية. وظهرت خريطة إنجليزية لـ “أفريقيا وما تم اكتشافه فيها” في عام 1817م، لا تشير لأي مدينة تقع في ملتقى النيلين الأبيض والأزرق. ويتفق كثير من المؤرخين على أن محمد عثمان باشا، والذي عينه محمد علي باشا كقائد عام للسودان في عام 1822م، اختار الخرطوم كمركز لإدارته، ولم يكن فيها آنذاك غير عدد قليل من “العشش”. وقام ذلك الحاكم بإنشاء مبان من الطوب اللبن كمقرات لإداراته المختلفة، وبنى أيضا مساكن للموظفين فيها. وقليلا قليلا بدأت الخرطوم في التوسع وغدت مركزا تجاريا هاما وسوقا عظيما للرقيق. وقيل في ذلك الزمان إنه كان في تلك البقعة قرية عظيمة في المنطقة المجاورة للخرطوم (لعل المقصود هو منطقة سوبا. المترجم)، وأن الشلك /الفونج انقضوا عليها وقضوا على سكانها قضاء مبرما. وكتب الفرنسي برن رولييه (والذي عاش في السودان في حوالي عام 1840م) أن كرتوم (Carthum) كانت مدينة كبيرة في زمان مضى، حتى غزاها الشلك ذات ليلة من ليالي عام 1770م وقضوا على ما / من فيها من أخضر ويابس. وأضاف الكاتب أن جنود محمد علي باشا لم يجدوا في البلدة عندما دخلوها غير ثلاث عشش ومقبرة. وقدر رولييه عدد سكان البلدة في حوالي عام 1840م بنحو أربعين إلى خمسين ألف نسمة.
وكان الرجل الشركسي “عثمان بيه شركس” حاكم السودان في 1825م هو أول حاكم عام تركي يدفن في السودان. ويقال إنه مات بمرض الجدري، ودفن في الخرطوم، إلا أن قبره ما يزل مجهولا حتى الآن. وخلفه محو بيه عرفلي في عام 1826م (ورد أن محو بيه حكم السودان بين مايو 1825 ومايو 1926م. المترجم)، والرجل كان مسئولا عن المنطقة التي عرفت بـ “شجرة غردون”. وشاهد كثير من زوار الخرطوم، أو سمعوا عن شجرة حراز كبير على النيل الأبيض على بعد ثلاثة أميال من (وسط) الخرطوم. كانت تلك الشجرة تعرف بشجرة غردون (أو شجرة محو بيه عند كثير من الأهالي، نسبة لأنها تظلل قبر محو بيه). ونسجت الكثير من الأساطير حول تلك الشجرة، والتي ظلت واقفة حتى عام 1840م حين جاء الطبيب الألماني فيردناند فيرني مستكشفا للنيل الأبيض. ونمت شجرتا حراز فوق القبر وحجبته عن الأنظار، حتى جاء فيضان في عام 1878م وابتلع القبر والشجر معا.
وواصل خالد باشا (1826م) والمشهور بالاستقامة والأمانة ما بدأه سابقوه من الحكام الأتراك، فشيد مبنى للمديرية، وعلم الأهالي البناء بالطوب عوضا عن الجلود والقصب.
وذكر لورد برودو Prudhoe (بحسب مقال نشر في العدد الخامس من مجلة الجمعية الملكية الجغرافية عام 1935م) أنه قام برحلة من القاهرة إلى سنار في عام 1829م ، وعندما وصل للخرطوم، وجدها تتكون من ثلاثين بيتا طينيا وعدد من العشش ، وشبهها بخلايا النحل أو أكوام القمح. سكن اللورد ومرافقوه خلال تلك الرحلة في خيمة، بينما كان الحاكم يعيش في بيت طيني “يمكن احتماله”. ولم يكن في الخرطوم أثر حتى لشجرة واحدة، إذ لم يكن للخرطوم من وجود إلا منذ أربعة أو خمسة أعوام خلت. وقيل إن الحاكم السابق (مك سنار) كان يعيش فيها متبطلا كملك محال للتقاعد بمعاش قدره 500 قرشا في الشهر (لم يكن يدفع له أبدا!). وكان العبيد يباعون بالمزاد العلني في دار الحاكم العام في عام 1829م، حين كان العبد يباع بتسعة دولارات (ريالات؟)، بينما كانت المرأة مع طفلها تباع بذات القيمة.
وكان القائمقام الذي يقود كتيبة الخرطوم في عام 1829م مشهورا بالكسل الشديد. وكان مفرط السمنة، لا يتحرك من مجلسه في الديوان طوال اليوم، ولا يفعل شيئا غير اللعب بحبات خرز في يده. ولما مات رئيسه الأميرالاي لم يكلف نفسه مشقة إخطار قيادته بذلك النبأ، وكان أن وصل خبر موت ذلك الأميرالاي للحاكم العام في أثناء محادثة عابرة مع أحد التجار!
وعبر لورد برودو النيل الأزرق إلى سوبا، حيث لم يجد شيئا يذكر غير بقايا كثيرة لطوب محروق.
وبحسب ما رأى م. كومبز، والذي زار الخرطوم في عام 1834م، فإن تعداد سكانها كان لا يتعدى 15000 نسمة. وكانت عملة البلاد في ذلك الوقت خليطا من عملات متنوعة. فقد كان متداولا فيها دولار ماريا تريزا (وهو يعادل 20 قرشا)، والمحمودية (وهي عملة ذهبية تركية تعادل 18 قرشا مصريا)، والبيوث Bayuthe وهي عملة ذهبية مصرية تعادل 5 قروش مصرية، والسفرتة Safrita أو الفلورينFlorin النمساوي وهو يعدل 4.5 قرشا مصريا. كان هناك أيضا القرش المسمى مسافني Massafani .
وبدأت الحدائق في الظهور في الخرطوم في عام 1837م، حيث كانت قد أقيمت حول بعض المنازل الكبيرة المنعزلة. وأقيم بقرب سوق الخضروات مكان لسجن ومقصلة للمحكوم عليهم بالإعدام. في تلك الأيام أفاد رحالة زار الخرطوم أنها كانت تخلو من الأشجار. ومع مرور السنين تزايد عدد السكان في المدينة، مما أضطر حاكمها خورشيد باشا لهدم مسجدها ليقيم مكانه مسجدا أكبر يسع جموع المصلين. وبعد سنوات قليلة من ذلك انتشر وباء الكوليرا، فانتقل خورشيد باشا مؤقتا إلى شندي إلى حين انجلاء الوباء. وفي عام 1839م كتب الرحالة الفرنسي فرانسوا جومارد أن الخرطوم كان بها ثكنات عسكرية ومستشفى ونحو 400 ? 500 بيتا.
إن تاريخ الفونج والحكم التركي، كما سجله ماكمايكل في مقال له صدر عام 1923م في مجلة “السودان في رسائل ومدونات” يوضح أنه وحتى عام 1830م لم تكن الخرطوم غير مجرد معسكر حربي، ورئاسة أركان مؤقتة. وكتب أحدهم في عام 1830م أن خورشيد باشا أمر الناس بأن يبنوا بيوتا، عوضا عن الخيام المصنوعة من حصير الشعر وجلود الأبقار. ولم يكن هنالك بيت واحد مبني من الطوب غير بيت الفكي أرباب بقرب المسجد، وبيت القاضي، والفكي حمدنا الله، وبيوت البدناب (من قبيلة المحس). ووصف النمساوي فون كالوت (والذي سمى نفسه آرشان بيه) والذي كان في خدمة محمد علي باشا، الخرطوم في عام 1831م بأنها مدينة صغيرة من “العشش” في بقعة هي “أهم منطقة استراتيجية في شرق أفريقيا”.
ويتضح من كل ما سبق ذكره أن معسكرا حربيا دائما كان قد اتخذ عند النقطة التي نفذ منها اسماعيل باشا أو من خلفه مباشرة إلى شبه جزيرة سنار في 1821م. وفي عام 1830م أو نحوها، اتخذها خورشيد باشا مركزا رسميا له. وتقاطرت إلى عاصمة السودان الجديدة أفواج من الفجرة والمشاغبين والعاهرات. وكان هؤلاء هم أول من سكن المدينة. وكان بالمدينة أيضا آلاف الجنود الشعث تحت إمرة كثير من الضباط المنشقين عن جيوش بلادهم الأصلية، مع عبيدهم وتوابعهم وغيرهم من حثالات المجتمع (هكذا وردت! المترجم). وشيد هؤلاء بيوتهم من الرواكيب والتكلات (جمع تكل، وهي بمثابة المطبخ)، وانتعش المكان (والذي كان صحراء جرداء) بوجود حيوانات كثيرة مثل الحمير والإبل والخيول.
وليس للخرطوم من مزايا جاذبة في حد ذاتها، فلم يكن فيها صناعات ولا مصدر داخلي للثروة. وكان سكانها يحملون قدرا كبير من الكره والحقد والضغائن على أسيادهم الجدد “الأتراك”. كذلك كان حاكم مصر قد بعث للعمل بهذه الأراضي الصحراوية الشاسعة التي سماها البعض “مقبرة السودان” جنوده الأرناؤوط عديمي الانضباط، وضباطه وموظفيه المدنيين الساخطين على أوضاعهم، إضافة إلى المجرمين المحكومين بسنين طويلة. ورغم كل ذلك جذبت المدينة المغامرين والتجار للعمل والاستثمار فيها حيث تقفز الأرباح إلى 200%. تقاطر نحوها التجار من جميع أرجاء العالم… من مصر واليونان وإيطاليا ومالطا وفرنسا وغيرها من الدول. ما أن حل عام 1840م حتى كان عدد سكان الخرطوم نحو 30000 نسمة. وتضاعف ذلك العدد في سنوات قليلة. جاءها صانعو المراكب من دنقلا. وفي البدء وفدوا للعمل في أعمال شريفة، ولكنهم سرعان ما قاموا ? بالاشتراك مع غيرهم – بأعمال نهب وقرصنة، انتهت بعملهم في تلك التجارة المربحة: تجارة الرقيق، حيث كانوا يغزون مناطق في النيل الأبيض ويجلبون منها من يستعبدونهم. وانضم إليهم لاحقا تجار من بربر والنيل الأزرق و”رجال البحر”، حيث كون هؤلاء طبقة كبيرة. كذلك احتاج الجيش الرابض في الخرطوم لبناة المراكب، وصانعي الشراعات، وصانعي بودرة البارود وصناع السروج والخياطين. ونمت أيضا طبقة من صاغة الذهب والسمكرية والحدادين والخبازين والسقايين والحمالين (العتالة). وظهرت بالخرطوم حتى مصانع للصابون والزيت وبعض الصناعات الصغيرة الأخرى. بيد أن كل هذه القشرة الخارجية للحضارة كانت تخفي تحتها ركاما ضخما من الفساد والهمجية.
وفي البدء لم تبن المدينة وفقاً لأي تخطيط معلوم سوى أن الحدائق التي زرعت كانت تقام بالقرب من مصادر المياه، وأن المكاتب الحكومية شيدت قرب أماكن تجمع الجيش بغرض توفير الحماية الفورية. وفيما عدا ذلك شيدت بقية أبنية المدينة بطريقة بالغة العشوائية. وعلى شاطئ النيل الأزرق زرع شريط ضيق جدا، مثل أول محاولة للزراعة في تلك المنطقة. ثم توالت بعد ذلك زراعة بعض الحدائق وأشجار النخيل في القصر وفي الديوان وغير ذلك من المباني، وسمع لأول مرة صوت ساقية تئن على الشاطئ، وتقذف بالمياه ببطء. وظهرت أيضا وسائل نقل بالحمير أو الجمال يقودها رجال من الأهالي وهم نصف عراة. ومن النهر يشق وسط المدينة شارعان متعرجان ضيقان، ومن الشرق للغرب يتعرج شارع ضيق يبدأ قرب القصر، ويمر بهذا المكان أو ذاك عبر مساحات مفتوحة. وغدت تلك المساحات المفتوحة حفرا كبيرة كان يؤخذ منها الطين لصناعة الطوب اللبن. وكانت تلك الحفر العميقة تمتلئ بالضفادع والأسماك في فصل الأمطار، وعندما تجف المياه تتحول المنطقة إلى مستنقع كريه الرائحة.
وبدأت الحركة التجارية في المدينة بباعة متجولين يجلسون القرفصاء في الهواء الطلق، ثم تطور الأمر تدريجيا فقامت صفوف منتظمة ومسقوفة في سوق منتظم، به كثير من البضائع المتنوعة، وانتهت بمحلات أشبه بتلك التي توجد في أوروبا.
وبنيت كل البيوت على الطراز الشرقي، حيث يوجد حوش خارجي، وديوان، ومخازن، وإسطبلات، وحوش داخلي، وغرف للحريم بعيدة عن سكن الخدم والعبيد والمطابخ. كان الرجل الفقير يعيش عادة في غرفة واحدة أمامها حوش صغير غالبا ما تعيش فيه ماعزه وغنمه أو حماره. وسادت في المجتمع الأخلاق الشرقية، حتى بين غالب الأوربيين من سكان الخرطوم، فصاروا يداومون على الجدال حول أسعار العبيد والبضائع المتنوعة وهم يدخنون الشيشة ويحتسون القهوة. ثم تأتي فترة نوم القيلولة عند الظهيرة، لتعقبها جلسات الغيبة و”قيل وقال” عند سهرات المساء، وتناول العشاء على أنغام الموسيقى وغناء ورقص الفتيات. لم يكن للفقراء غير فرص قليلة في الأعراس والمآتم لشرب المريسة. وكان العبيد يتعرضون لمعاملة بالغة السوء والقسوة، وسادت أخلاقيات الغش والخداع والإتاوات والعداوات بين السكان، وكان ذلك مما صب في مصلحة قلة قليلة من المستفيدين.
وذكر طبيب فرنسي وصل الخرطوم من القاهرة في عام 1839م مع أخيه بعد رحلة استغرقت ثلاثة شهور، وعاش في المدينة لعام كامل، لم تفارقه خلالها الحمى، بأن طقس الخرطوم يستنزف صحة المرء ويسرق عافيته ببطء، بل ويتلف عقله. وانتقد الرجل الأطباء والصيادلة المصريين انتقادا مرا، فقد وصمهم بالغش والاحتيال، فزعم أنهم يختلسون الأقمشة الكتانية التي كانت تخصص للمستشفيات ويصنعون منها زيا لخدمهم، ويسرقون السكر المخصص للمرضى، ويبيعون دواء الملاريا (كوينين) والأدوية الأخرى، ويصفون للمرضى عوضا عنها أدوية مغشوشة يصنعونها بأنفسهم. وذكر الطبيب الفرنسي بأن هؤلاء “الصيادلة” كانوا في حقيقة الأمر دجالين ? منهم حرفيون وخياطون وصاغة ذهب، تم “تدريبهم” لمدة ثلاثة شهور في القاهرة ليصبحوا “صيادلة”. فلا غرو إذن إن ارتكب هؤلاء الكثير من الأخطاء الطبية الفادحة.
وكان الأقباط يمثلون السواد الأعظم من الموظفين والعاملين في دوائر الحكومة. وأتخذ هؤلاء الأقباط تدابير كثيرة لحماية عائلاتهم، فكانوا يحكمون إغلاق أبواب دورهم عند مغادرتهم لها عند الصباح، ويحملون معهم مفاتيح تلك الأبواب الخشبية الضخمة بمساميرها الحديدية، حيث لا يمكن فتح الأبواب من الخارج بغيرها. ويقوم من يبقى في الدار من النساء والأطفال بإحكام قفل الأبواب الداخلية بالدار حتى عودة رب البيت عند المساء، حيث يقوم بإضافة قضبين حديدين ضخمين يضعهما على الباب من الداخل شكل حرف X . لم تكن المفاتيح والأقفال الحديدة معروفة في ذلك الحين بعد. لازالت هذه المفاتيح الخشبية تستخدم في كثير من البيوت إلى الآن في أمدرمان (المقصود بالطبع عام 1935م. المترجم).
ولم تكن الخرطوم في سنواتها الأولى مدينة صحية أو مريحة للعيش بها أبدا. لابد أن الحياة فيها للأوربيين كانت أمرا عسيرا قاسيا، فهبوبها عاصف، وحرها شديد، ومطرها غزير. وذكر فيردنارد فيرني أنه شهد في 31 أغسطس من عام 1839م أعتى عاصفة هبوب ترابية شهدها في أفريقيا. اقتلعت تلك الهبوب البيوت وهدمت كثير من المباني، وأغرقت نحو 11 مركبا في النيل الأبيض. وحكى عن أخوين كانا عائدين لمنزلهما بعد أن كانا يعومان في النيل عند هبوب العاصفة، وعند عودتهما للبيت وجدا كل غرفة في بيتهما مليئة بالماء، وظلا لساعات يجلسان فوق طاولة حتى انحسار الماء. وكتب أوربي آخر هو ليبسيوس عن هبوب عاصفة حدثت في عصر يوم 25 مارس من عام 1844م، وقال إنها كانت “سحب طويلة سوداء من الرمال تبدو في الأفق البعيد كأنها حائط ضخم”.
وكان الحاكم العام في الخرطوم في عام 1839م هو “ابو اودان”، وكان لا يطيق البتة سماع شكاوي الأهالي. يقف السوداني عنده ليشتكي من أمر ما، فيستمع إليه الحاكم في صبر إلى حين فراغه، ثم يأمره بالذهاب إلى الصراف ليستلم مبلغا من المال. يفاجأ المسكين عند الصراف بأن 500 قرش مثلا إنما تعني 500 سوطا! ومات ذلك الحاكم في الخرطوم في أكتوبر من عام 1844م، ولا يزال قبره موجودا (وعليه قبة) في تقاطع شارع فيكتوريا مع شارع عباس (الآن عند تقاطع شارع القصر مع شارع البلدية. المترجم).
وكانت من نعم الله على الخرطوم وجود الطيور الجارحة (كالنسور) إذ أن تلك الكواسر كانت تتكفل بالتهام جثث الحيوانات النافقة (وكذلك الجثث الآدمية أحيانا). وكانت تلك الطيور أليفة إلى حد ما، ولا تطير بعيدا عندما يقرب منها البشر.
وفي عام 1848م وصلت للخرطوم أول بعثة تبشيرية (مسيحية) نمساوية، وكانت تتكون من الأب رايلو (وأصله من بولندا) ورجلين إيطاليين، وآخرين يسوعيين، ومعهما بعض الخدم. ثم توفي الأب بعد فترة قصيرة من وصوله للخرطوم متأثرا بالحمي، إلا أن الأخرين بقوا، وسافر بعضهم في رحلات في داخل البلاد. تكاثرت من بعد ذلك وفود المبشرين المسيحيين الأوربيين، بيد أن المرض والموت أثرا كثيرا على نشاط فرقهم.
ويجب ملاحظة صعوبة السفر من مصر إلى السودان في ذلك الوقت. فالرحلة للمحظوظ من المسافرين من القاهرة لأسوان تستغرق أسبوعا بالباخرة، وتأخذ الرحلة من القاهرة للخرطوم ما لا يقل عن 33 يوما.
وكانت الأمور غريبة بعض الشيء في مكتب الحاكم العام، إذ أن الباشا كان الحاكم المدني والقائد العسكري في ذات الوقت. وكان عدد جنوده وتابعيه وخدمه يبلغ حوالي 20000 فردا، وكان يدير كل أمور البلاد في مختلف الشئون بمفرده. وكان يرد إلي مكتبه ويذهب يوميا البريد في “جراب” جلدي محمولا على جمل، ويقوم على سكرتارية مكتبه خمسة رجال جميعهم محشورين في غرفة ضيقة في قصره. مما سهل مهمة هؤلاء الموظفين أن الحاكم كان يدير شئون البلاد بصورة ديكتاتورية فردية، فيصدر أوامرا وأحكام لا يستشير فيها أحدا، ولا ترد ولا تستأنف، ولا يعقب عليها أحد، وإنما هي أمور للتنفيذ الفوري، وليس غير ذلك.
كتب جورج ميلي (وهو مغامر قادم من ليفربول) في كتاب أصدره في عام 1851م بعنوان “الخرطوم والنيلين الأبيض والأزرق” وصفا دقيقا للحياة في المدينة في عام 1850م. وصف الخرطوم من على بعد مسيرة ساعة، حيث شاهد بيت الحاكم الأبيض، ومآذن جامعها الوحيد، والنيل الأبيض من بعيد وهو يقترن برفيقه الأزرق. وكتب ميلي إن ذلك المنظر بدا وكأنه “نهاية العالم”. وفي ذلك الوقت كانت المدينة (عندما تشاهد من النيل) وكأنها حائط طيني طويل تطل من فوقه مساكن ومكاتب الحاكم، ومقري الحكومة والبعثة الكاثوليكية وكنيستها.
ودلف ميلي ومرافقوه مباشرة لمقر الحاكم عبر مجموعتين من الحراس، وعلى رأس كل مجموعة يقف ضابط حاملا حربة طويلة. وكان ضابط الفرقة هو من ينال حظوة الرقاد على سرير، إذ كان كل البقية يفترشون الأرض.
وكان للحاكم العام “حامل غليون خصوصي ?confidential pipe bearer فرنسي الجنسية تولى مهمة مرافقة ميلي ومرافقيه. أخذهم أولا لمكان سكناهم بقرب مكان سكن حريم الحاكم، حيث وجدوا بيتا مريحا تحيط به حديقة وأشجار البرتقال والموز والرمان. كذلك زاروا صيدلية الخرطوم وقابلوا كل الأوربيين بالمدينة، حيث دار الحديث معهم حول أفراس النهر (القرنتي) التي كانت تكثر في تلك المنطقة. عرضت “عينة” من ذلك الحيوان في “ريجنت بارك” في لندن في عام 1851م حيث تركت أثرا كبيرا، خاصة في أوساط الجنس اللطيف.
وعرض القنصل البريطاني السيد ولاين مبلغ ألف جنيه استرليني لمن يستطيع من الأهالي أن يقبض على زوجين من أفراس النهر، ولم يكن ذلك بالأمر الهين، فقد كانت تلك الحيوانات متوحشة تماما ولا تخرج إلا في الظلام.
وأعجب ميلي ومرافقوه بحدائق الخرطوم، وسجلوا زيارة للصيدلية مرة أخرى، وتمشوا وسط أشجار العنب والبرتقال والرمان والياسمين والتين وتفاح الكسترد؟ (custard -apples). وعند وصول المجموعة للسوق تدافعت حولهم جمهرة غفيرة من الأهالي وهم يبحلقون في والدة وأخت ميلي. ونال ميلي إعجاب واهتمام الأوربيين عندما قدم لهم في حفل للعشاء سمك سالمون معلب.
وكتب جون بيثريك، والذي عمل بالتجارة في كردفان وكنائب للقنصل البريطاني في السودان، في عام 1861م كتابا عن “السودان ووسط أفريقيا”، ووصف الخرطوم في عام 1846م وسجل أن عدد سكانها كان حوالي 60000 نسمة، وبها المخازن الرئيسة للحكومة وترسانة لصناعة وصيانة المراكب الشراعية. وكانت مباني الحكومة ومساكن موظفيها مبنية من الطوب المحروق، بينما كانت بقية المباني من الطين اللبن. وكان المبنى الوحيد الذي بني من الحجر هو مبني كنيسة الروم الكاثوليك (في المبنى الذي تحتله البلدية الآن). كذلك أقيمت كنيسة قبطية غرب الجامع العتيق. وكان منزل بيرثيك منزلا ضخما ملحق به حديقة حيوانات أليفة وبرية متعددة، وكان به بيانو ضخم. بعد عامين سكن السير صمويل بيكر في ذات المنزل، ولكنه كتب أن ليس في الخرطوم مكان بمثل تلك القذارة والبؤس والضرر بالصحة مثل ذلك المنزل يمكن تصوره. ووصف بيكر الحاكم العام موسى باشا حمدي (والذي كان أول من أدخل عربة نقل carriage في الخرطوم( بأنه نجح في الجمع بين أسوأ ما في الشرق من طباع، مع قسوة حيوان وحشي. كان يبتز كل من حوله، ولا يفعل شيئا إزاء الفساد الذي لوث كل من يعمل تحت إدارته. ويجب القول بإن الأوربيين والمصريين (عدا قلة قليلة جدا) كانوا أسوأ سفراء لبلادهم في السودان.
وأضاف عبد اللطيف باشا (1850م) إلى ما بناه خورشيد باشا من مكاتب وقلاع للحكومة. ومات بعد ذلك بعامين الحاكم العام الشركسي رستم باشا ودفن بالخرطوم. في عام 1856م اندلع وباء الكوليرا بالخرطوم، فتم نقل الحكومة وموظفيها مؤقتا إلى شندي. كذلك توفي الحاكم العام الأرمني أركيل بيه في 1857م، ودفن في مقبرة مسيحية بالخرطوم، ونقلت رفاته فيما بعد لمصر. في تلك الأيام كان هنالك صبي يدعى محمد أحمد (والذي ادعى المهدية فيما بعد) ينال الاعجاب من شيوخه في الخلاوي لعكوفه على الجد والتحصيل.
وكان هنالك وجود أجنبي في الخرطوم تمثل في قناصل للنمسا وأمريكا وفرنسا، بالإضافة إلى نحو 6000 جندي من هذه البلدان. وكان بعض أولئك الجنود من المصريين، بينما كان بعضهم من السود من كردفان والنيلين الأزرق والأبيض. وكان كل هؤلاء لا يتقاضون مرتبات منتظمة، ولذا كان من الصعب أن يكونوا جنودا منضبطين، فكانوا يعيشون على ما ينهبونه من السكان.
وكان السلعتان المربحتان في السودان هما العاج والرقيق، ولم يكن هنالك أحد في البلاد (إلا ما ندر جدا) لم ينغمس في التجارة في هاتين السلعتين. فكل من له رأس مال صغير كان يمكنه عمل فرقة صغيرة تجلب له العاج و/ أو الرقيق من الجنوب. فعلى سبيل المثال استجلب من منطقة أعالي النيل نحو 202700 كيلوجرام من العاج في عام 1858م وحده. وكان من التجار البيض الذين عملوا في تجارة الرقيق السوريين والأقباط والأتراك والشراكسة وبعض الأوربيين (لاحظ محاولة التخفيف من الدور الأوربي في تلك التجارة. المترجم). كان تاجر الرقيق المبتدئ يستدين بفائدة تبلغ 100%، ويدفع القيمة عاجلا بنصف القيمة، ثم يستأجر سفنا و100 ? 300 من الرجال (غالبا من أنذل الخلق). وذكر صمويل بيكر إنه رأي نحو 15000 رجلا يعملون في تلك التجارة، وكان مرتب الواحد فيهم 45 قرشا في الشهر. كانوا رجالا في غاية الوحشية وفقدان الانسانية وهم يقومون بمهمتهم تلك.
وعندما عاد صمويل بيكر للخرطوم بعد رحلته لنيلية عام 1862م وجد أن مرض حمى التيفوس المعدي قد انتشر بالمدينة، ونجا من ذلك الوباء 400 جندي فقط من أصل 4000 رجل. وجد المدينة ? كما قال – أكثر زحاما وقذارة. وزار بيك المدينة مجددا بعد ثمانية أعوام فوجدها لم تتغير كثيرا في مظهرها الخارجي، بيد أن عدد السكان انخفض من 30000 إلى 15000. وصارت المنطقة جنوب بربر (والتي كانت منطقة زراعية) منطقة مهجورة تماما. واختفت قري بالكامل، وتوقف الري وانخفض عدد السكان انخفاضا رهيبا، واختفت معه أصوات السواقي التي كانت تسمع بالليل، وكذلك نباح الكلاب التي كانت تشق عتمة ليل تلك المناطق.
وكتب سفاين فيرز في العام الذي تلى ذلك أن الأحوال الصحية في الخرطوم بقيت رديئة جدا، وعزا السبب لعدم وجود تصريف فعال للمياه الراكدة. ففي يوليو من عام 1871م كتب الرجل إن البرك تملأ الخرطوم، وتنبعث منها روائح كريهة تجعل مجرد الاقتراب منها أمرا عسيرا. ووجد كثيرا من معارفه السابقين قد سقطوا نتيجة أمراض لها علاقة بسوء الأحوال الصحية في المنطقة، خاصة مع توالد البعوض من نوع الأنوفليس ناقل الملاريا. وظلت تلك الأوضاع مستمرة حتى عام 1905م حيث كانت برك المياه التي تتكون من أمطار ساعتين مثلا تظل باقية لنحو ثلاثة أسابيع. ولعب إسماعيل باشا أيوب دورا كبيرا في تطوير الخرطوم، وكان متفائلا بأن لها مستقبلا عظيما، فبنى فيها قصرا للحكومة مكونا من طابقين بالطوب والحجر. وشيد إسماعيل باشا أيوب كذلك محلجا للقطن في كسلا، وبذل جهدا كبيرا لتطوير صناعة القطن بالبلاد، وفي مكافحة الفساد، فقام باعتقال حاكم الخرطوم ممتاز باشا بتهمة الاحتيال.
وكانت الحياة في الخرطوم تدور حول البازار (السوق) والشوارع المحيطة به. وكانت هنالك أزقة متعرجة عديدة تؤدي لذلك السوق، وحولها مبان صغيرة مبنية بالطين اللبن ذات أسقف مسطحة. ولم يكن هنالك مبنى كبير أو معلم بارز سوى الجامع ومئذنته الصغيرة. وفي سوق الخرطوم كانت تباع الملابس الأوربية والأقمشة والأحذية والمنتجات الفخارية. وفي بعض المحال الصغيرة يجد المرء كل أصناف المشروبات الكحولية. وللأغاريق محال تباع فيها منتجات رديئة الصنف ولكنها غالية الثمن مثل المربى (وغالبها متعفنة) ومكرونة مغبرة وملوثة بفطريات، وسكر رملي الشكل، وبيرة ومشروبات كحولية أخرى عديمة النكهة ورديئة الطعم. وعجبت جدا ممن وصفوا لي السوق للمنتجات أي ذكرللبضائع المحلية مثل العناقريب والمراكيب.
[email][email protected][/email]
هذة وثائق مهمة توثُق وتوضح بجلاء سيرة الخرطوم القذرة منذ القدم
قذارة في الطرقات, بيوت دعارة منتشرة اندايات , نهب مسلح تجارة رقيق , حر خانق اعمدة غبار كثيف منتشرة في السماء كتاحات برك مستنقعات باعوض ملاريات جُذام
صفات ملازمة لها الى الآن
اي تأريخ مشرف للخرطوم ؟؟!!الخرطوم أول من سكنها (( أفواج من الفجرة والمشاغبين والعاهرات. والجنود الشعث والضباط المنشقين عن جيوش بلادهم الأصلية، مع عبيدهم و غيرهم من حثالات المجتمع)),,,؟؟؟!!! ههههه
الخرطوم كرش الفيل هذة المدينة المغضوب عليها منذ أن قامت تأريخها ملطخ بالقذارة ماذا تغيًر اليوم ؟؟!!
لا تصلح عاصمة للبلاد يجب أن تمسح بالارض,,,,
( ويعملوا فيها زريبة بهائم كبيرة)لأنها محصورة بين نيلين وهي سياج طبيعى للحيوانات
رمضان كريم كل عام وانتم بخير
وشكرا للكاتب
مشكور اخ بدر الدين حامد الهاشمي طرح رائع و أنيق
يا ريت لو تتحفنا بكامل مقال الكاتب سي أي جي وويكلي في اجزاء لتعم الفائدة أو تتحفنا برابط لمرجع المقال الاصلي “باللغة العربية او الانجليزية.
صراحة استمتعت و استفدت كتير من طرحك الرائع. طرح يدعو للتفكير و التأمل و مراجعة ما رسخ في أذهاننا من الحقائق التاريخية.
قصة الخرطوم التاريخ المفقود ….. Khartoum Story The Lost History
وبعد مئات السنين لا زلنا لغاية اليوم نعيش فى نفس التخلف وعدم التطور ومواكبة (المدنيه) وننجرف وراء كل ما هو سيئ من فكر ومعداة النظام والانضباط والنظافة….
الخرطوم عاصمة السودان الحديث وريث مجد سوبا عاصمة مملكة علوة المسيحية وقرى عاصمة العبدلاب عندها يلتقي النيل الأبيض والنيل الأزرق ومنها يبدأ النيل الكبير مجراه المبارك إلى الشمال. وفد إليها مع غروب شمس سوبا جماعة من المحس فعمروا توتي ومن توتي عَبرَ وليٌّ من أوليائهم النهر ونزل الخرطوم ليبني فيه منزلا وخلوة يرتادها الصبيان و مع نار العلم التي أوقدها هذا الولي بدأ عمران الخرطوم. وظل المكان لعقب الوليّ من الولد والجيران ومن اجتمع إليهم حتى غربت شمس دولة الفونج ولما جاء الترك بنوا عاصمتهم في الخرطوم عوضا عن سنار عاصمة الفونج الأولى ). هكذا ابتدر المؤرخ السوداني د.محمد إبراهيم أبو سليم كتابه تاريخ الخرطوم ويقول في فقرة أخرى من كتابه هذا (وقد ظلت الخرطوم نفسها منطقة غير مأهولة تغطيها الغابات وتأتيها مياه الفيضان فتغرق أجزاء كبيرة منها وكان يأتيها المسافرون ليعبروا عندها النيل ويرتادها صيادو السمك في مواسم الصيد يقضون حاجتهم ثم يعودون أدراجهم بما اصطادوا وفي حوالي عام 1691 ترك الفقيه أرباب العقائد جزيرة توتي التي اشتهر فيها وعبر النهر لينشئ في هذا المكان أول قرية مأهولة وكان من عادة الفقيه الذي يشتهر أمره وينشد الاستقلال أن يبحث له عن مكان جديد يبدأ فيه حياته الدينية ويجد فرص الاستقلال والشهرة المتاحة). لا يختلف اثنان من المؤرخين على ما أورده د.محمد إبراهيم أبو سليم على أن بداية عمران مدينة الخرطوم كان بارتحال الشيخ أرباب العقائد من توتي إليها وبنائه مسجدا وخلوة ومنزلا له بها. فمن هو هذا الشيخ الذي تمر 400 عام على ذكرى ميلاده هذا العام. نسبه و قبيلته :- هو أحمد بن علي بن أرباب بن علي بن عون بن عامر بن صبح بن فلاح بن شرف الدين بن محمد الملقب بعجم بن زائد بن محمد محس (الذي تنتسب إليه قبائل المحس) بن مرزوق بن الملك سعد بن الملك جامع بن الملك حسن بن الملك أحمد بن الملك عامر بن عبد الله بن عبد الكريم بن يعقوب بن جابر بن سعد بن موسى بن أويس بن جامع سكر بن سالم بن عبد الرحمن بن علي بن سليمان بن محمد بن زيد بن قتادة بن حارثة بن عبادة بن أبي بن كعب البدري الأنصاري الخزرجى أحد كتاب الوحي على عهد الرسول صلى الله عليه و سلم. إذا هو عونابي محسي خزرجى ولد بجزيرة توتي وقد أورد هذا النسب الشيخ النسابة الصديق حاج أحمد حضرة في كتابه المنشور بعنوان العرب التاريخ والجذور خلافا لما أورده صاحب الطبقات فقال أنه أرباب بن علي بن عون بن عامر بن أصبح بن فلاح مسقطا( أحمد بن علي ) والراجح عندي أنه كما أورد الشيخ النسابة الصديق حضرة . ولقب بأرباب العقائد و أرباب الخشن لخشونة أطرافه من كثرة الوضوء و إسباغه على المكاره. وقد اشتهر من أبائه أبناء فلاح الأربعة صبح وقنديل و مرزوق و غردقة . أما صبح فهو جد عالمنا الخامس مؤسس مدينة الخرطوم . أما قنديل فهو الجد الثالث للعارف بالله الشيخ إدريس ود أرباب محمد( 1507 -1650 ). أما مرزوق فهو جد إبراهيم ولد توتي البداني و لمن أحفاده الشيخ حمد ود حتيك و غيرهم من أهالي بري المحس. أما غردقة فهو أخيهم من أبيهم و أمه شايقية كندكابية وهو جد الغردقاب بتوتي ومناطق أخرى بالسودان و منهم الشيخ الأمين الضرير مميز علماء السودان في التركية السابقة. أما والد فلاح فهو شرف الدين أو شرف جد المشيرفية و أحد أبناء محمد الملقب بعجم التسعة الذين يشكلون محس وسط السودان في توتي وشمبات و بري والعيلفون و واوسي وغيرها من قرى السودان الممتدة على طول النيل الأزرق من منطقة واوسي شمالا إلى كركوج في النيل الأزرق و على النيل الأبيض وفي كردفان ودارفور ومناطق كثيرة داخل الجزيرة. و للفائدة فان أبناء محمد عجم هم:- (1) شرف الدين والذي فصلت ذريته سابقا و يقال أنه كان فقيها وعالما . (2) سعد الله وهو جد السعدلاب بتوتي وشمبات ومنهم الشكرتاب والعجيماب والعصملاب وغيرهم. (3) كباني أو محمد كباني وهو جد الكبانية ومنهم العارف بالله الشيخ خوجلي أبو جاز و الشيخ أمام بن محمد الشهير بابي جنزير. (4) عبودي جد العبودية ومنهم الآن بتوتي دار صليح و ضو البيت. (5) سادر جد السدارنة مع الشكرية بأرض البطانة . (6) زايد جد الزيادية مع قبيلة الحمر بكردفان . (7) مزاد أبو شامة جد الشامية ويسكنون أم قحف بالقرب من العيلفون. (8) شعبان و هذا قد نزل مع الجعليين بالسافل و لذلك ذابت ذريته مع أخوالهم الجعليين و لم يعد لهم وجود منفصل. (9) صادر وهو جد الصواردة. ويلتقي محس الشمال مع محس الوسط عند الملك جامع بن الملك حسن بن الملك أحمد فهم أبناء الملك ناصر و حسن و حسين و جلال أخوان الملك سعد و الملك مكن. هذه قبيلة الشيخ أرباب العقائد والتي تنحدر من شمال السودان من منطقة سدلا بالقرب من مدينة دلقو وهي قبيلة كبيرة وممتدة على امتداد السودان الكبير منذ فجر دخول الإسلام وهم حملة مشعل العلم والمعرفة جاءوا يحملون هم الدعوة إلى الله و يعلمون الناس الإسلام الحق فكان منهم العلماء الشيخ إدريس ود الأرباب محمد (1507 -1650) وأرباب العقائد (1609 -1691 ) والشيخ حمد ود أم مريوم( 1645-1729 ) و الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن (1655م-1742م) فأناروا طريق الحق و العدل في القرنين السادس عشر والسابع عشر و الثامن عشر الميلادي مما أثبته لنا التاريخ و لكن نقول أنهم قبل ذلك كانوا أئمة يهدون للإسلام. ميلاده وكسبه وأثره العلمي :- ولد بجزيرة توتي ويرى بعض المؤرخين أنه ولد في 1009هجرية و آخرون في العام 1017هجرية وتوفي على غير خلاف في العام 1102هجرية ولعل اللبس في هذا الاختلاف أن العام الهجري 1017 يوافق العام الميلادي 1609 فأخذه المؤرخون على أنه عام هجري وقالوا أنه 1009 ومما يؤكد ما أخذنا به أن الروايات الوطنية تقول أن عند ولادة أرباب العقائد كان عمر الشيخ إدريس ود أرباب أكثر من مائة عام وهو مولود في 913 هجرية التي توافق العام الميلادي 1507. وعند ولادته كان سلطان الفونج السلطان عدلان (مدة حكمه 1605م-1612م) وعلى مشيخة قرى الشيخ محمد العقيل بن الشيخ عجيب الما نجلك بن الشيخ عبد الله جماع ( مدة مشيخته من 1608م-1648م ). حفظ القرآن على يد والده هو في العاشرة من عمره ودرس الفقه على يد الشيخ الزين بن الشيخ محمد صغيرون وأخذ علم العقيدة عن الشيخ على بن بري وخدمه ودعا له بصفاء و صدق نية خالصة فاستجاب الله دعوته فنفع الله بعلمه خلقا كثيرا خاصة في علم العقيدة حتى لقب بأرباب العقائد لتفرده في هذا العلم و ألف كتابا في أركان الإيمان سماه (الجواهر الحسان في تحقيق أركان الإيمان) أنتفع به شرقا وغربا وقد قال البروفسير يوسف فضل في تحقيقه لكتاب الطبقات أنه لم يعثر على هذا الكتاب والحمد لله فقد عثر الدكتور أحمد البدوي على نسخ منه بباريس في فرنسا وهو مكتوب بخط مغربي و أعلمنا أن هناك ستة وعشرين نسخة منه بباريس و نسختين بغرب إفريقيا في السنغال. وقد بلغ عدد طلبته أكثر من ألف من دار الفنج إلى دار برنو كما أورد صاحب الطبقات و قد شدت إليه الرحال في علم التوحيد ومن تلاميذه الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن (أبو جاز ) والشيخ حمد ود أم مريوم والشيخ حمد بن حتيك والشيخ محمد بن ضيف الله والشيخ هارون بن حصي والشيخ فرح ود تكتوك والشيخ القرشي الصليحابي والشيخ عبد الرحمن بن الشيخ صالح بان النقا والشيخ غانم أبو شمال الجامعي الكردفاني . الشيخ خوجلي بن عبد الرحمن أبو جاز أخذ علم الكلام والتصوف من الفقير أرباب العقائد. وقد بدأ الشيخ أرباب العقائد التدريس بجزيرة توتي يبث العلم و العقيدة الإسلامية ثم انتقل إلى الضفة الجنوبية من النيل الأزرق محل مبنى مديرية الخرطوم الذي تحول الآن ليصبح وزارة مجلس الوزراء حيث أسس خلوة وبني دارا للطلاب امتدت إلى المكان الذي يقوم فيه مسجده الآن وهو ما كان يعرف بجامع فاروق. والذي ظل يدرس فيه الطلاب حتى استدعاه سلطان الفونج السلطان أونسة الثاني بن ناصر أن يفد إلى سنار عاصمة الفونج في العام 1090هجري الموافق 1679ميلادي ومكث بسنار حتى وافته المنية في العام 1102 هجري الموافق 1691 ميلادي في عهد السلطان بادي الأحمر بن السلطان أونسة الثاني. وقد ظل جامع أرباب العقائد يقوم بدوره في هداية الناس إلى دين الله القويم بعد أن سافر العلامة أرباب العقائد إلى سنار فخلفه على المسجد ابنه الفقيه علي صالح أبي نجيلة وعاونه على التدريس أخواه الفقيه بساطي والفقيه فرح ثم من بعدهم الفقيه أرباب بن الفقيه فرح بن العلامة أرباب العقائد الذي أعاد حلقة جده من حيث الاتساع. أما الفقيه محمد الأمين بن العلامة أرباب العقائد فهو أصغر الأبناء فقد درس العلم على أخويه الفقيه بساطي و الفقيه فرح و قام بالتدريس بخلوة والده ثم انتقل إلى البشاقرة غرب بطلب من أخواله ليقوم ببناء المسجد والخلوة و التدريس هناك إلى أن وافته المنية و قبره عليه قبة الآن. وما يجدر ذكره أن مسجد أرباب العقائد قد تعرض للهدم مرتين مرة عند مرور حملة الدفتردار الانتقامية على الخرطوم في عام 1821م فقد هدم جامع أرباب العقائد وقتل حفيده الفكي أرباب ولد كامل ولد الفكي علي بن أرباب العقائد بمدفع كما نكل بأهل توتي و قتل منهم خلقا كثيرا. أما المرة الثانية فقد كانت عند تحرير الخرطوم و انتصار المهدي على غردون باشا فقد قتل الخليفة عبد الرحمن بن محمد بن الكامل بن أرباب بالمسجد وهدم المسجد مرة ثانية على أيدي الأنصار بعد أن أدى الإمام المهدي أول صلاة جمعة له بالخرطوم فيه. هذه شذرات من سيرة هذا العالم الجليل العلامة أرباب العقائد مؤسس مدينة الخرطوم على أننا لا نرى الآن بالخرطوم ما يشير إليه البتة فقد غفل علماؤنا الأجلاء الذين وكل إليهم بتسمية الشوارع أو الأماكن العامة أن يزينوا أحد الشوارع باسم مؤسس المدينة و قد أطلق مؤخرا أسمه على الشارع الذي يقع غرب الهيئة القومية للكهرباء و الممتد من كبري توتي إلى الجنوب باسمه و لكن اختفت اللافتات بعد حين من الدهر . لا ندري من أخفاها. وفي الختام أتوجه بالنداء لوالي ولاية الخرطوم ومعتمد محلية الخرطوم و أحفاد العلامة الشيخ أرباب العقائد والعلماء الأجلاء المهتمين بتاريخ السودان أن لا تمر هذه الذكرى دون تخليدها باحتفال يليق بهذا العالم الجليل نذكر الأجيال اللاحقة بتاريخ هؤلاء العظماء بناة السودان الحديث على الدين و التقوى . بعد أن فاتنا الاحتفال بمرور500 عام على ميلاد العارف بالله الشيخ إدريس ود أرباب الذي صادف العام 2007م.
دا تاريخ مشوه انتو كل كتاب تقراءوه تصدقوا
شكرا للكاتب مجهود رائع ما شاء الله رغم الفضائح
وأعجب ميلي ومرافقوه بحدائق الخرطوم، وسجلوا زيارة للصيدلية مرة أخرى، وتمشوا وسط أشجار العنب والبرتقال والرمان والياسمين والتين وتفاح الكسترد؟ (custard -apples).
للفائده
ال custard -apples هو فاكهة القشطه
العبد اللاب الذين قطعوا اشجار العنب في سوبا
بحجة استخدامها في صنع الخمر
ونهبو وسرقو ذهب كنائس سوبا
واقامو بها اول دولة اسلامية في السودان
تماما كالانقاذ سرقة وقتل
ثم يزعمون بان الحكم اسلامي.
تشاد أنظف من السودان هسة نروح نعيش فى التشاد
بعض المعلومات واقعية و معظمها متناقضة و متضاربة تفتقر للمصداقية
ترجمة غير امينة لمذكرات سي جي ويكلي لم ثذكر وجود الشلك بالخرطوم وانهم من اعطوها الاسم (علي الاقل كواحد من الاراء ) وان هجوم الشلك علي الخرطوم كان نزاعا مع الوافدين الجدد
انا كان بقراء الكلام دا كلو ماكنت قريت عدادات العيكورة