كيف يصل الشاعر إلى قول ما لم يقل بعد

رغم الثنائيات التي يفرضها الشعر العربي فإنه كان أحاديا عندما يتعلق الأمر بالمرأة الشاعرة، حيث لا نجد غير كلمة فطحل أو فحل، في دلالة على إجادة كتابة الشعر. فأن تكون المرأة شاعرة يعد أمرا غير مفهوم من قبل المجتمعات العربية، حيث تتحول المرأة من شاعرة أو كاتبة إلى متهمة. «العرب} التقت الكاتبة والشاعرة المغربية رجاء الطالبي وكان لنا معها هذا الحوار حول واقع الشعر اليوم.

العرب عبدالله مكسور

الشعر عند الشاعرة المغربيّة رجاء الطالبي طريقة للعيش وللمقاومة وسط مدّ الخراب والبشاعة والإقصاء والقتل، تحمله في أعماقها ليمنحها كلّ شيء بعد أن تفقد كل شيء. الشعر يتغذى من الخسارات، لا بطولات يدّعيها الشعر ولا فتوحات، هو فقط صنو الهشاشة، صوت التصدّع ولسان الخسارات التي تتيه من منفى إلى منفى، الشعر حنجرة الوحيد يقول جرح إقصائه، وحدته وانكساره في عالم الوحشية المتفاقمة والتقتيل الممنهج والجشع المتفاقم، والرداءة المتسلطنة والجبروت الواقف على أقدام الجبن والتواطؤ والمنفعة، الشعر عند ضيفتنا يتيم ما لم يقعد في الواجهات ويبارك الجلاد ويتحاب الأضواء ويلبس قميص التكسب والانضمام والدفاع عن العشيرة، والشعر أيضا يمكنه أن يكون لسان الجرح والشتات والتغريبة في صحراء المنافي المتفاقمة.

الكتابة اتهام

تقول رجاء إنّها ما دامت تكتب فهي متّهمة للتتابع إنَّها لم تختر الكتابة إلَّا لأن هنالك حواجز ومسكوتات عنها، وصموتات قديمة هنا وهنالك، لم تختر الكتابة في مجتمعات متخلفة تدعي التقدم واحترام قيم الحرية والاختلاف إلا لتواجه الجلاد المرائي المتخفي وراء ألف قناع وقناع في انتظار إدانتها والقضاء عليها بينما هو يحتضن المبدع ويدّعي صداقته، نحن في مجتمعات منافقة وجبانة تتبنى ما لا تقدر أن يكون سلوكها اليومي وفعلها المغيّر هكذا تراها رجاء التي ترى فعل المجتمعات سهل مراكمة وحياكة الشعارات الوضاءة، الاختبار أمامها هو الواقع، منذ أن بدأت الكتابة تتشارك هذا الإحساس وتقتسمه مع مجموعة من الكاتبات والرقيب ملتصق بجلدها يقلّب في كلماتها وفيما تكتب ليلصق الاتهام بها، فالكتابة عندها وجدت لتتصادم مع روح القطيع.

حديثها عن الصدام قادنا للحديث عن المجتمع العربي بجانبيه الرسمي والشعبي ومواءمته لحالة الإبداع، لتقول إنّ المجتمع العربي اليوم ومنذ أشكال الاستقلال خاصة غير التامة مشغول بذاته، أي أنه يعاني من قضايا كبيرة تهدّد وحدته وكيانه واستقراره، وهو ينعكس على وتيرة تطور الإبداع بالبطء، وحتى مؤسسات المجتمع المدني تساهم، كثير منها كما ترى ضيفتنا، في تشرذم الرؤى الشعرية بخلق تجمعات لا تقوم على أساس المعيار النقدي والتحديد النظري والتوجه الجمالي، فالمؤسسات الثقافية الرسمية وغير الرسمية -بحسب ضيفتنا- لم تتمكن حتى الآن من خلق تيارات أو مدارس أو مذاهب أو نظريات عربية سواء تعتمد على التراث الإبداعي العربي أو من الواقع، لذلك نجد حتى اليوم ما تزال التجارب الفردية هي الرافد الأساس في الإبداع وفي إغناء الكتاب وتطوير أشكال الكتابة، تتابع رجاء توصيفها بأنّ الإبداع في المجتمع العربي يحميه المبدعون الحقيقيون الذين آثروا على أنفسهم تحمل هذه المسؤولية الثقافية والحضارية الجسيمة بدل مؤسسات الدولة وكثير من مؤسسات المجتمع المدني ذات الطابع الشكلي.

المبدع وحيدا

بالموازاة مع ذلك المشهد الذي يقف فيه المبدع وحيدا نسأل رجاء الطالبي عن كون الشعر العربي صورة عن الواقع قديما وحديثا وما مدى صحّة المقولة الشهيرة بأنّ أصدق الشعر أكذبه، لتقول إن المقولتين تحضر في الشعر العربي، فكما قيل أعذب الشعر أكذبه، قيل أيضا الشعر ديوان العرب، حتى من يدعي أن قصيدته بعيدة ولا تترك للواقع وأشيائه أن تعبرها هي طريقة أيضا لقول ذلك الواقع، عندما تهرب القصيدة للتجريد ونكران أناها والتعبير في ?هو محايد?، فذلك المحايد الذي تكتبه هو أشد حدّة، ولذلك فهناك دائما كما ترى الطالبي أمام الشاعر أماكن غير مطروقة لتجربة قول قصيدته، ثمة دائما ألغاز، عمل القصيدة أن تغذيها وتخدمها لتضاعف جودتها، شيء ما من سيزيف ومن رواق في الشاعر يطوّران في قصيدته المعنى واللامعنى، مهدّد الشاعر دائما بالانهيار، بالاستسلام، على طريقة معلّم قديم للظلمات، هو من علَّم القيمة الثمينة للعلامات وهو من سقط في العدمية متهما اللغة بكونها مجرد كذب، الشعر تجربة إنسانية بالأساس، وأعماق الإنسان عوالم متشعبة متكاثرة متعددة وغير مطروقة، وتلك المغامرة التي تشغل الشاعر في كل الأوقات والأزمنة كما تراها ضيفتنا هي: كيف يصل إلى قول ما لم يقل بعد، وكيف بطريقته يقول ما سبقه غيره لاختباره وقوله بآلاف الطرق؟.

حديثها قادنا للدخول في قصيدة رجاء الطالبي التي نجد الطبيعة بمفرداتها حاضرة بقوة عندها، لتقول إنّ الطبيعة في قصيدتها توظَّف فكريا، عندما تتكلم عن الشجرة فهذا يعني محاولة للتفكير عبرها في حالة وجودية تتملك فكرها، فكما لو أن الطبيعة مجرد معبر، انفتاح متروك للنفس.

وعن مفردات البيئة المغربية ترى رجاء أنّ الالتصاق بها لا يعني نقلها حرفيا في القصيدة، لأن الشعر عندها يبتكر لغته الخاصة التي تذيب في بوتقتها كل الأشياء المحيطة بنا، لذلك فحضور البيئة المغربية بعناصرها ومكوناتها وخصوصياتها المميزة كامن في قلب الشعر، لغة وصورا وتركيبا وموقفا ورؤية، فالإنسان مهما كان لا يمكنه الانسلاخ عن محيطه، لكن يبقى الفرق في صورة تجلي البيئة في النص بين شاعر وآخر، حسب ضيفتنا.

خلال السنوات الماضية فرض الشعر المحكي باللهجات الوطنية المحلية نفسه في الساحة الشعرية حتى غدا في بعض المطارح أهم من الشعر التقليدي، عن هذه الثنائية تقول رجاء الطالبي: للقصيدة العامية حضورها في الساحة الشعرية المغربية وفي فترة من تاريخ الشعر المغربي استطاعت القصيدة العامية أن تحقق قدرا كبيرا من الإبداع في الوقت الذي كان الشعر التقليدي منشغلا بتكرار وإعادة إنتاج نماذجه القديمة.

فالقصيدة العامية كما تراها ضيفتنا لا تخلو اليوم من كثير من الدهشة في صياغة موضوعاتها حيث استطاعت في كثير من التجارب الإبداعية خلق الصدمة وشد المتلقي إليها، بنظرة بانوراميّة على الساحة الشعرية المغربية، كما تؤكّد الطالبي، فإنّها تحتوي الغث والسمين، هناك شعراء وشاعرات يأخذون الشعر بقوة، يجددون ويقاومون أشكال الرداءة والاضمحلال، وهناك من يستسهل الشعر ويتخذه مطية لأغراض غير شعرية، لكن على العموم الساحة الشعرية المغربية زاخرة بقول الشعر وبأشكال متعددة، والأجمل في الشعر المغربي بحسب ضيفتنا هو تنوع أجياله وتعايشها.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..