تقاليد الغناء لدى الأبَّالة.. بخيت الفي المُراح ساعيها.. حداء على سروج النُوق

الخرطوم- محمد عبدالباقي

سيظل لغنائهم وحدائهم مذاق مختلف طالما أنهم يسيرون خلف قطعانهم، كما أن لا أحد يمنعهم من ذلك.. طبيعة حياتهم جعلتهم لا ينصاعون لأي سلطات مهما امتلكت من القوة، دائماً تجدهم خارج مركز السيطرة، تسير حياتهم وفقاً لثلاثة فصول في العام ولا يحتفون بالثالث – أي الربيع- وأيضاً من الأعياد يهمهم الأضحى ورمضان. لا يعترفون بالحدود الولائية ولا يعبهون للإقليمية كذلك، يتخذون الأنجم دليلاً في ترحالهم ويرافقون الطيور في هجرتها شمالاً وجنوب. لا يبيتون وفي صدورهم ضيم، جُبلوا على حسم خلافاتهم بـ (الزندية) ورد الصفعة بعشرة أمثالها.

إيقاع الإبل

على هذا النسق تسير حياة الأبالة منذ العصر الجاهلي، لم تتبدل، ولم يرغبوا هم في تغييرها، يجوبون البلدان ويقطعون الفيافى يتساوى لديهم الليل والنهار، سيمتهم الصرامة والشجاعة وطبعهم الخشونة والمروءة والصبر. يحتفون بالموت، ويحتقرون الحياة إذا أرادت لهم أن يرتشفوا من كأس الذل.

يتميز الأبالة دون غيرهم من الرعاة بخصوصية لا مثيل لها، فهم لا يزالون يعيشون في بيئة بدوية ولهم طريقتهم في معرفة الفصول، والتطير بالأشياء والحيوانات والطيور والأيام، وكذلك لهم أغنياتهم، وطريقتهم في ابتداعها وفقاً لأفراحهم وأتراحهم ومواقيتهم، إذ لكل فصل من فصول العام أغنياته ولكل مناسبة شعراؤها وحكاماتها، فهم لا زالوا يتخذون الهجاء وسيلة للتعريض بالآخر والطعن في مكانته الاجتماعية ووصمه بأقذع الصفات، كما تجدهم يبذلون أشعارهم في ليالي ترحالهم المستمر دون هوادة، يتشببون بالنساء ويذكرون محاسن أبلهم، ويعددون الصفات الحميدة المتوارثة.

حداء رائع

سعاية العز والقدارة تاريخها مسجل أقوال/ من زمن القيمان والمغارة قبل فرعون وعيال، قبل التُرك والنصارى/ هي كاتلة كليب خالية داري وبجانب الحداء الذي يمجدون فيه إبلهم ونسلها كذلك ينظمون أشعار الغزل، يعرضون فيه محاسن محبوباتهم، ويعبثون فيه نجواهم وحبهم من على البعد، ويكشفون فيه عن الفرص التي أتيحت لهم لمقابلة المحبوبة. الليلة لقيتها تشبه الدودرت بجديها/ تمشي الكي حرن قدم الحمامة مشيها نقول محظوظ أنا اللاقتني عاين فيها/ ولا نقول بخيت الفي المُراح ساعيها!

عادة متوارثة

للأبالة عادات وتقاليد ونهج تربوي لا يحيدون عنه البتة، إذ صار ضمن منظومة قيمهم النبيلة التي يحضون عليها عبر الأشعار والأغاني، كما توضح حكامتهم من خلال الأبيات أدناه، وهي تُعرض بمن يلجأ للحياة الناعمة التي لا تشبه طبع أسلافه وأجداده الذين كانوا لا يهتمون بالنظافة مطلقاً ويعدونها نذير شؤم عليهم، لأنها – بحسب معتقدهم – تتسبب في إزالة الحيوانات من (مراحها) كما يزيل الصابون (العرق) من الثوب، فتقول الحكامة في سياق نظم طويل تحث من خلاله على عدم الاهتمام بغسل الثياب: ناس الصُوبن دِلقو لا بِعقلو ولا بِطلقو. ومعنى هذا البيت هو أن الذين يستخدمون الصابون (صُوبن) باستمرار في غسيل ثيابهم يجب منعهم من الاغتراب من قطيع الإبل لأنهم لا يستطيعون رعايتها بصورة جيدة، وأنهم لا محالة سوف يتسببون في موتها لأن ثيابهم البيض ستكون فألاً غير حسن عليها.

تدليل واعتزاز

لا حدود للأشعار التي يسخر شعراؤها من الذين يخالفون نهج كبارهم من خلال لجوئهم لطرق ونظم جديدة في الحياة كغسل الثياب أو عدم أشعال النار عند مغيب الشمس أو الأكل مع النساء في إناء واحد، أو استشارتهن في أمر من أمور الحياة أو السفر في أيام يتشاءم الأبالة بالسفر فيها كاليوم السبت والأحد والأربعاء. بجانب هذا هنالك أشعار كثيرة يتشبب فيها الأبالة بحيواناتهم ومنها: جقلة الطنة حوارك.. كان الغرب ما شالك/ أدلي (أذهبي إلى) السافل دارك!! والإشارة أعلاه واضحة لتعدد الخيارات التي يمنحها الأبالة لقطعانهم، وهي خيارات لا رجعة منها، إذ يستطيعون الذود عنها بأرواحهم التي تصبح رخيصة ولا قيمة لها إذا لم يفدوا بها جقلة – أي الإبل- فيقول: جقلة العقو حوارك.. شيلي السافل دارك يوم تتوكري كارك.. رخيصة الروح فدالك..

اليوم التالي

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..