أخبار السودان

مولانا الطيب محمد الطيب : طالبتُ ود الجبل بتحسين وضع عمامته لأنها تسيئ للمحكمة

بحري – محمد غلامابي
يروي لي القاضي الطيب محمد الطيب قصة عميقة الدلالة، يقول: “كنت كبير القضاة بالمحكمة أنظر في قضية أموال كبيرة جداً، وقد مرّ عليّ وقت الإفطار دون أن أتناول الوجبة، ببساطة لأنني لم أكن أملك المال، كنت “مفلّس” جداً، في تلك اللحظة لمحت أحد الأصدقاء بمر من أمام باب المحكمة. تنفست الصعداء وعدوت خلفه حتى أدركته وطلبت منه “ساندوتش” لأنني لا أزال أنظر في تلك القضية”، قصة قد تحدث لأي منا في هذه المدينة المتوحشة، أما أن تحدث لكبير القضاة!! فما كنت سأصدّقها لو لم أسمعها من راويها بأذنيّ هاتين، فأي نزاهة وصدق وتجرّد وأمانة وطيب نفس وكل قيم الخير تجدها في هذه القصة؟ غير أن تمسكه بموقفه لمعرفة من أطلق الرصاص على طلاب جامعة الخرطوم في زمن النميري يبقى هو الموقف المشرف حقاً، فمعاً نستمع لحكاويه.
شهادة في حق الترابي
قدّم القاضي الطيب محمد الطيب شهادة نادرة في حق الدكتور حسن عبد الله الترابي النائب العام وقتها رغم ما بينهما من خلاف فكري، فقال لي: “للتاريخ أقول طوال عملي بسلك القضاء لم يتدخل الدكتور الترابي في عملي قط، ولم يطلب مني أن أحكم بما يراه هو، وعندما نشبت مشكلة بين قبيلتين في غرب السودان كان كل الذي طلبه مني هو أن ينظر الحكم قبل تلاوته وتأجيله حتى تهدأ الأوضاع بين القبيلتين، وقد كان ديوان النائب العام يرسل في تلك الأيام شخصيات سرية إلى مناطق الصراع لتقريب وجهات النظر بين القبائل، وكثيراً ما تنجح وفود النائب العام، لكننا كقضاة ليست لنا بها أي صلة، تقوم تلك الفرق بعملها ثم ترجع الخرطوم دون أن نحتك بها”.. ثم التفت ناحيتي قائلاً: “أرجو أن تثبت هذه الشهادة في حق الدكتور الترابي، فنحن قليلاً ما نذكر محاسن من نختلف معهم”.
الصحافة تدس أنفها
يواصل القاضي الطيب محمد الطيب قصصه المثيرة لـ(اليوم التالي)، وهو يحكي عن فترة عمله قاضيا في عهد الرئيس الأسبق جعفر نميري، ويقول: “طوال عملي في القضاء لم يحدث قط أن تعرضت لرشوة، كان العمل يسير وفق القانون ومقتضاه، كنا خمسة من القضاة بالخرطوم في ذلك الوقت، نلتقي كل يوم في المساء عند قهوة (إيتنية) بشارع الجمهورية لنتناول العشاء مع بعضنا البعض، استمر الحال على هذا المنوال فترة من الزمن، ولم يعكّر صفونا شيء سوى الصحافة، والتي حشرت أنفها في تجمعنا هذا وقالت (قضاة الخرطوم يتناولون عشاءهم في إيتنيه)، فغادرناها في اليوم التالي، وتفرق جمعنا كقضاة، ولم أدر حتى اللحظة لمَ حشرت الصحافة أنفها في شأن خاص؟”.
حراسة المتظاهرين
من المدهش الذي حكاه القاضي الطيب محمد الطيب أن القضاء في السودان على أيام نميري كان عليه حماية المتظاهرين السلميين، يخرج مع المظاهرة قاض ليوجه البوليس بضرب المتفلتين الذين يسرقون وينهبون ويحرقون الممتلكات العامة والخاصة بالمواطنين، عدا ذلك لم يكن من حق البوليس أن يطلق النار عشوائياً على المتظاهرين، وكنت أعُد (الطِلق) ببندقية أي بوليس، والذي تنقص (خزانته) طلقة واحدة يكون هو المسؤول الأول عن من يقتل في التظاهرة.
تركه القضاء
ولتركه للقضاء قصة، يقول القاضي الطيب محمد الطيب: “خرجت يوماً في تظاهرة لطلاب جامعة الخرطوم، وكالعادة قمت بتنبيه أفراد الشرطة الذين خرجوا لحماية المتظاهرين بأن يكونوا يقظين، وألا يطلق أحدهم طلقة إلا بتعليمات مباشرة مني، وبمرور الوقت كان هناك طالب قد قتل قبالة طلمبة جكسا بالخرطوم، مما حزّ في نفسي كثيراً، وحاول البوليس دفن الجثمان، لكن كان عليه أخذ الإذن بالدفن من القاضي الذي كان موجوداً وهو شخصي، فرفضت منحهم الإذن إلا بعد تقرير الطبيب الشرعي الذي يحدد سبب الوفاة، تمسكت بهذا الموقف بشدة، وكنت أدرك خطورة تمسكي بهكذا موقف، لكن لأنني كنت أدرك أن البوليس براءة من قتله وأن هناك (آخرين) هم من أطلقوا الرصاص على المتظاهرين، وأصابوا طالب الجامعة في مقتل، تمسكت بموقفي، كنت أدرك أن الثمن المقابل لهذا الموقف هو مغادرة السلك القضائي بالكلية لكنني لم أعبأ بذلك”.

يواصل الطيب محمد الطيب حديثه، ويقول “في صبيحة اليوم التالي جاءتني عربة بمنزلي هذا، وكنت أقيم فيه بالإيجار، وسبق أن فشلت في حق الإيجارة لمدة ستة شهور، المهم قالوا لي إن الجنازة في انتظار تسريح منك لتُدفن، فذكّرتهم بموقفي السابق، وهو ضرورة إحضار تقرير الطبيب الشرعي عن سبب الوفاة، خرجت عربة البوليس مغاضبة من عندي، ورفع الأمر للرئيس نميري الذي أمر بشيئين، الأول دفن الجثة، والثاني فصلي من القضاء، غير أن نائبه عمر محمد الطيب راجعه في الأمر، وطلب منه تأجيل فصلي، حيث صادف ذلك إضراب القضاة الشهير، فمكثت عدة أيام لأجد بعدها اسمي ضمن كشف المغادرين”.

قصة إضراب القضاة

يحكي مولانا الطيب عن إضراب القضاة الشهير، ويقول كان عدد القضاة نحو 600 قاض بكل مديريات السودان تقدموا جميعا باستقالاتهم يوم 4/6/1983م، وذلك على إثر الإساءة البالغة التي وجهها نميري للقضاء السوداني بمدينة الفاشر، عدا خمسة قضاة فقط، يقول مولانا الطيب “بعد انقضاء تلك السحابة حمل نائب الرئيس اللواء عمر محمد الطيب أسماء هؤلاء القضاة الذين لم يضربوا مع زملائهم، وقال للرئيس لولا هؤلاء القضاة الذين لم يضربوا لانهار النظام القضائي، فكان ردة فعل النميري، بحسب مولانا الطيب مختلفة، إذ انتفض في وجه نائبه الأول، وقال له: يجب فصل هؤلاء القضاة فوراً، لأن القاضي يجب أن يكون رجلاً، أي صاحب موقف متفق مع زملائه، فكان نصيبهم بدل الترقية الطرد من القضاء، بينما عاد زملاؤهم المضربون إلى مزاولة أعمالهم”.

قصته مع رجل الأعمال ود الجبل

يحكي القصة بمتعه يقول “كنت أجلس للفصل في إحدى القضايا، وجاء رجل الأعمال المعروف ود الجبل شاهداً في هذه القضية، لم أكن أعرفه، فلما رأيت طريقته في وضع عمامته على رأسه طلبت منه تحسين وضعها، فقد رأيت فيها إساءة لهيبة المحكمة، فكان رد ود الجبل أنها طريقته المعتادة في وضعها على هذا الحال، فتمسكت بموقفي، وتمسك بإجابته، فطلبت تحرير ما يعرف بـ (الأورنيك الإيجازي)، وهو الوحيد الذي يمكن التراجع عنه في المحكمة، وطلبت جلد الرجل، لكن تدخل معارفه من زملائي، وأقسموا أنها طريقة الرجل المعتادة في وضع العمامه، فأخليت سبيله”.

محطات متفرقة

في حي كوبر يجلس اليوم مولانا الطيب محمد الطيب في فناء منزله يحكي قصصه وينثر حكاياته على جلّاسه من الأصدقاء والمعارف، يلتفت ناحيتي في تلك الجلسه، ويقول لي هل تصدق يا بُني أنني كنت أسكن في هذا المنزل بالإيجار، ولم أستطع دفعها لمدة خمسة أشهر، لأنني لم أكن أملك المال في ذلك الوقت، غير أن صاحب المنزل سيد عثمان الأمين كان يقول لي “لا يمكن أن أشتكي قاضياً لأنه فشل في دفع أجرة المنزل، والغريب بعد تركي للقضاء الجالس وتوجهي للقضاء الواقف (المحاماة) أستطعت شراء ذات المنزل بعد أربعة شهور فقط لتركي القضاء، حيث كنت أكسب جيداً مستفيداً من شهرتي السابقة قاضياً، وقد ترافعت عن العديد من القضايا المشهورة”.

أسرار اتحادية

مولانا الطيب محمد الطيب من الاتحاديين الديمقراطيين، يحمل في صدره العديد من الأسرار الاتحادية، التي رفض الكشف عنها، ومنطقه في ذلك أن أطرافها لا يزالون أحياء، ويخشى من أن يصيبهم الحرج، لكنه قال على أي حال “لن يتقدم الحزب الاتحادي الديمقراطي إن لم تبتعد الطائفة عن الحزب”، وهو الموقف الذي ظل متمسكاً به كما قال، وسبب له الإبعاد من مراكز الحزب، يسأل مولانا الطيب عن تلك الفتاة، يقول “قمت يوماً بحبس بعض الطلاب والطالبات إثر تظاهرة لهم، ثم قررت إطلاق سراحهم، فخرج الطلاب والطالبات فرحين عدا تلك الفتاة، فقد رفضت الخروج من الحبس، وقالت لي: أود أن أعرف لم نحن هنا، ولم قررت الإفراج عنا؟ أعجبت بتلك الفتاة جداً وبموقفها ذاك، فمن تكون وأين هي الآن؟”.

قصة كافوري

رفض مولانا أن يحوز على مائتي ألف متر في مدينة كافوري، حيث رفض تنفيذ حكم قضائي صادر عن المحكمة العليا بشأن إزالة مباني أهالي سكان قرية قريبة، وقال: “منطقي في ذلك أن كافوري صاحب حق، لكن في ذات الوقت لا يمكن تشريد الناس هكذا، كان يجب أن يكون هناك تعويض لهم، على أي حال احتفظت بتنفيذ حكم الإزالة، وجاء من بعدي من نفذه”.. يحتفظ مولانا الطيب بعلاقات صحفية طيبة مع كل من عبدالباقي الظافر، والصادق الرزيقي، ورحاب طه وآخرين، لكنه يداوم على قراءة كلمات عثمان ميرغني.

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. بهكذا موقف؟ معقول قالها هكذا مولانا الطيب؟ كان القاضي المقيم ببحري في أواخر السبعينات

  2. مولانا الاستاذ الطيب محمد الطيب رجل موسوعة في مجال القانون تشرفت بالتدرب في مكتبه ببحري رجل مرتب في عمله وعصامي .. له مواقف عديدة كان يحكيها لنا .. علمنا حب العمل والمثابرة والتجرد .. اعطانا الثقة بالنفس .. ربنا يحفظه ويطول في عمره

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..