حلم ليالي الخرطوم.. “سيلفي” مع الراحل محمود عبد العزيز.. الأسطورة تعود من جديد

الخرطوم – الزين عثمان
حين اشترى ياسر محمود، صاحب الثماني عشرة سنة، هاتفه الذكي المدعوم بكاميرا أمامية، كانت فكرة واحدة تراوده، وهي أن يلتقط لنفسه صورة (سيلفي) وهو يضع يده على كتف (الجان) محمود عبد العزيز، الذي لا يزال صوته يشغل كل المساحة المتاحة ويعبئ الذاكرة بأغنياته التي لا يطالها النسيان. رحل (سيد الغنا) قبل أن يحقق الفتى أمنيته بالتقاط صورة تجمعه بفنانه الوحيد كما يقول.
ما مات الذي وهب حياته للأغنيات. جاء ياسر أمس برفقة آخرين من (الحواتة) إلى نادي ضباط قوات الشعب المسلحة، وهم يعلمون منذ البداية أن محموداً لن يأتي هذه المرة، فالمساحة تبدو بعيدة بين مثوى الراحل في بحري، وبين مسرح الضباط القريب من مطار الخرطوم، آخر ما وطأته أقدام (الحوت) قبل مغادرته الوطن والحياة.
(1)
عند غروب شمس الخميس، أول أمس، كانت الخرطوم كعادتها تحاول سرقة فرحها من حزن شوارعها، ها هم (الحواتة) يحتلون شارع المطار في جولة الوفاء الثانية، كانت جولتهم الأولى قبل عامين في التاسع من يناير، وهم ينتظرون وصول جثمان حبيبهم. الآن يعاودون ذات الهتاف بأيديهم المتشابكة (الجان ملك السودان)، البعض يضيف إليها هتافا آخر (لا سودان بعد الجان)، لكن ما يفعلونه عكس ما يقولونه، فسودان الجان لا يزال حاضراً، سودان الوفاء والمحبة والإقبال على الحياة.
(النوارس) تعزف المقطوعات الموسيقية والحواتة يغنون: (كل الحصل ما بتوصف لا بحرف لا بغنا غائب سنة وفي لحظة بس نلقاك هنا).
وكانت صورة (السيلفي) الغائبة تخرج من بين الناس، المذيع بقناة النيل الأزرق محمد محمود، وهو يقدم الليلة يقول إنه كان في كل لحظة يراوده إحساس بأن محمود سيخرج إليهم من أحد الأبواب أو من كواليس نادي الضباط.
أسطورة محمود بدت وكأنها تقاوم النهايات، تعود عبر فعل أسطوري، فلأول مرة في العالم يقام حفل والكل يعلم أن الفنان غائب، يعلمون أنه لن يحضر فيحمل الجمهور عبء غناء الروائع (سمحة الصدف، وعد اللقيا، عمري، الفات زمان، الوسيم، في ستين، لهيب الشوق، غلبنا الهوى، منو القال ليك، بعد الفراق).
(2)
لم يكن الحفل وليد لحظته وإنما تم ابتداره من بيت محمود المتسع حين بدأت مجموعة (محمود في القلب) زيارة تخللتها دندنة ومن ثم طلب بضرورة استمرار المشروع بحفل في نادي الضباط يعود ريعه لصالح أسرة محمود ولصالح الأعمال الخيرية التي تقيمها المجموعة في اتجاهات متعددة. ليخرج صوت الجمهور في أوبرالية تشبه ما يحدث في ملاعب كرة القدم. في الأغنية الأولى أخبرتهم الفرقة باسمها، وفي بقية الأغاني كان عليهم أن يبتدروا العزف لتذرف الدموع لهيب شوقها، في انتظار وعد اللقيا، وحين غلبها الهوى لم تجد سوى الصراخ بـ(منو القال ليك بنتحمل فراق عينيك).
(3)
تطلق والدة الراحل محمود، الحاجة فائزة، صوتها مطالبة مجموعة (محمود في القلب) و(أقمار الضواحي) بالتوحد من أجل الروح التي تسكنهم، ومن أجل استمرار هذا النوع من الأنشطة. المسرح الذي غرق في دموع الغياب مقرونة بفرحة الحضور، لا تكتمل صورة (السيلفي) فيه إلا حين تصعد للمنصة وتجد صورة محمود مرتدياً قميصه الأبيض وخلفه صورة الطفل الكردي أيلان، مع عبارة (زادت في أعماقي الجراح). استعادة صوت الغائب في حفل (محمود في القلب) استعادة الأحزان، مع الحفاظ على قيمة التميز وأسطورة (الحوت)، وانتهاء مراسم الحفل بنجاح منقطع النظير، جعل محمد بابكر، أحد الناشطين في المبادرة يقول: “كانت تجربة صعبة جد واجتزناها
اليوم التالي