هكذا تكلم الدكتاتور في ليلته الأخيرة

كل رواية للكاتب ياسمينة خضرة تشكل حدثا في ذاتها، لكن روايته الأخيرة “الليلة الأخيرة للريّس” تمثل حدثا خاصا، فبعد سنة من صدور كتابه “ماذا ينتظر القردة”، ها هو يدخل الموسم الأدبي بروايته الجديدة، رواية أشبه بضربة وازنة، ملتحفا بجلد العقيد الراحل معمر القذافي الذي مثل مادة سردية دسمة، تداخل فيها المؤلف مع شخص بطله وتحدثا بلسانيهما عن عوالم الذات الخفية، حتى أن القارئ لا يكاد يفصل بينهما.

العرب رشيد أركيلة

رواية ?الليلة الأخيرة للريِّس? للكاتب ياسمينة خضرة هي ?غوص عجيب في هامة طاغية دموي مصاب بجنون العظمة، من المرجح أنها ستمكننا من تكوين نظرة أخرى على الدكتاتور الليبي?، حسب كلمات ناشره جوليار. ففي هذه الرواية يتقمص ياسمينة خضرة بالفعل شخصية القذافي ويحكي بضمير المتكلم، فيقول ?منذ زمن، ظننت أنني أجسّد أمة، وأنني سأجعل أقوياء هذا العالم ينحنون على رُكبهم. لقد كنت الرجل الأسطورة بما تحمله الكلمة من معنى. لقد كان المشاهير والشعراء يدغدغون يدي. اليوم، ليس لي ما أترك لمن سيرثونني سوى هذا الكتاب الذي يسجل الساعات الأخيرة لحياتي العجيبة?.

بذور النرجسية

?الليلة الأخيرة للريِّس? رواية جريئة بشكل خاص تبرز شخصية القذافي الدكتاتور الذي يكلمنا ويحدثنا عن ساعاته الأخيرة قبل أن يتم إخراجه كجرذ من الجحر، وقتله ثم رميه. من يقرأ هذه الرواية، من المرجح أنه سيقول في نفسه بأن مؤلفها، وهو يخوض هذه المغامرة الأدبية قد أصيب هو نفسه بجنون العظمة وبالذهان العصبي متماهيا مع شخصية العقيد التي يتقمصها.

وعن هذه الملاحظة ردّ ياسمينة خضرة حين استضافه برنار لوهو في إذاعة ?ر.ت.ل.? ضمن برنامج ?الكتب لها الكلمة? بالقول ?لست أعرف إن كنت أنا الذي انغمست في هامته أو أنه هو الذي سكنني، فأثناء الكتابة كنت مرفوعا إلى حالة تشبه الغيبوبة، حتى أنه قد دار بيني وبين شخصيتي التي أكتب عنها وأتقمصها جدال عنيف، إذ لم يكن يوافقني الرأي في بعض النقاط، وقد عشت ذلك بشكل مادي، فتلك الشخصية كانت دائما تثير فضولي?.

استطاع ياسمينة خضرة أن يعيد الروح إلى لسان زعيم سلطوي ميت، كان في حياته على حافة الجنون. ولم يكن الأمر صعبا بالنسبة إلى المؤلف الذي يعتبر أن شخص القذافي مألوفا جدّا لديه، وأنه لم يشعر قط بالغرابة تجاهه، مشيرا إلى أن الشيء الذي يميزه ربما عن الآخرين هو أنه بدوي مثله، ومثله ينتمي إلى قبيلة، حيث يعرف جيّدا معنى الشرف لدى تلك القبائل، وكذلك معنى عدم احترام القواعد.

بالتالي لم يجد الكاتب عناء في تفحص كيان شخصيته التي كتبها، بل وحتى أن يسمح له بأن يسكنه خلال مدة الكتابة، خاصة أنه في بداية الثمانينات خلال إقامته في روسيا، يقول ياسمينة خضرة إنه صادف ضابطا ساميا بالجيش الليبي برتبة عقيد، نشأت بينهما صداقة جيدة، وقد روى له العديد من الحكايات عن الزعيم أو ?المرجع? كما كان يسميه، وهكذا احتفظت ذاكرته ببعض النوادر حول طفولته، إحباطاته، خيبات آماله العاطفية، وحول لحظات غضبه، وقد حاول استرجاع كل ذلك عبر هذا النص الروائي.

علاوة على مزاجه الحادّ وميوله السلطوي، من المدهش في شخصية الزعيم المخلوع نرجسيته، التي تمثل خاصية يعزوها المؤلف إلى نشأته، حيث كان طفلا بائسا من إحدى القبائل المهمشة، وكان يعيش بـ?الفزانات?، وهي منطقة فقيرة وأرض يباب ينخرها الجدب، وقد شب في الإقصاء منبوذا من الآخرين، فنظرة الآخر التي كانت دوما تطارده كانت تحطمه وتُجَرّحه، ولهذه الأسباب كان دائما يحاول إعادة بناء صورة له، قوية قادرة على ردع أي نظرة متجاوزة لكل المخاوف والتوجسات.

لقد كان العقيد الليبي غارقا في خضم هذه الجماليات، جمالية نفسه، طريقة تأديته للتحية، انتصاره الذي لا مفر منه وغير ذلك من التفاصيل التي أسسها لنفسه وسط هذا الهوس المتعدد. كل شيء نشأ من ذلك الجرح النرجسي الذي قضى حياته بأكملها في تضميده محاولا ملء الفراغ الذي أفرزه، وبغض النظر عن نظرة الاحتقار التي كان يعاني منها وهو طفل صغير، فتلك النظرة نفسها طاردته حتى بعد أن أصبح ضابطا في الجيش، لأن كل زملائه الضباط من الطبقة البورجوازية، وكانوا ينعتونه تارة باللقيط، وتارة بالعشوائي، والمتخلف. يبدو جليا الإقصاء الاجتماعي وذلك البؤس الحاد الذي تعرض له القذافي، بالإضافة إلى الشك حول والده الحقيقي، الذي روّجته الشائعات.

وهم الكونية

قبل لحظة النهاية عاش الزعيم المزعوم في انقطاع تام عن الواقع، لكنه بقي أعمى محتفظا بالأمل بل ومقتنعا بالخروج من المأزق حتى آخر لحظة. لقد كان يرى نفسه شخصا مكلفا بمهمة كونية حيث كان دائما يردد ?كنت في السابعة والعشرين من عمري وخلعت ملكا من عرشه لأحل مكانه?، ورسخت لديه القناعة أن ذلك ما كان ليقع إلا لأنه قدر المشيئة الربانية، وقد كان واثقا من كونه في حماية تامة، واستمر إيمانه بحدوث المعجزة حتى نهايته، وبشكل عام فكل الدكتاتوريين الذين انقلبوا على الحكم السابق يرفضون رؤية الواقع حتى آخر المطاف.

في هذه الرواية يجعلنا الراوي نبتسم خاصة حين يصدر أحكاما على بعض زملاء بطل روايته ?الدكتاتوريين العرب?، كوصفه لبن علي ?ذلك البائس المزهو بمتاجره الكبرى التي تشتغل يوم الأحد والمسرور بدعارة بلاده للذي يدفع أكثر، لم أستطع يوما أن أستلطفه، ذلك المنفوخ المهذب، لم أكن أحب لا تسريحة شعره ولا كاريزما أبناء الماما التي كان يبديها، ذلك المخنث ببزة القائد?. وهو يقرأ هذه الفقرة تساءل برنار لوهو بشيء من الدعابة:

إن كان ياسمينة خضرة هو الذي كان يمتع نفسه بهذا الحديث أم أنه القذافي؟ ضحك المؤلف لفترة قبل أن يردّ ?إنه القذافي? لقد كان يحتقر كل الحكام العرب وبن علي على الأخص?.

هكذا يرسم لنا ياسمينة خضرة صورة كونية لكل الطغاة المخلوعين ويكشف عن الشؤون الخفية للهمجية الآدمية. صورة لا يراها سلبية في مجملها، فحين سُئل كيف يبدو له الوضع الراهن في ليبيا، أجاب أنه وضع لا يسرّ، ولا يدعو أبدا للاطمئنان، فالقذافي على الأقل -وهذا وارد على لسانه في المؤلف- قد نجح بأن يصنع من أرخبيل من القبائل دولة، والمشكل أنه هو نفسه من كان يشكل الدولة الأمة، أما اليوم فباختفائه هناك عودة عنيفة إلى العصر القبلي، واليوم أيضا كل القبائل تطالب باستقلالها.

ويختم الكاتب باستعارة تشبيه من الميثولوجيا الإغريقة وهو ?صندوق باندورا? الذي يتضمن كل شرور البشرية حيث يقول: في تاريخنا نحن البدو، القبيلة ليست سوى أكوام مكومة من الضغائن والأحقاد المترسبة التي لا يطالها النسيان أبدا، والغرب لم يستوعب ذلك أو ربما هو يتجاهله. لقد تمّ القضاء على الطاغية، ولكن الآن هناك الآلاف من الطغاة الذين يجوبون الأنحاء، ويفعلون ما يحلو لهم.
لقد كانت ليبيا دائما تثير مخاوفي فهي الحافة أو لنقل ?صندوق باندورا?، فالسيد القذافي كان يحتضن كل المتمردين حتى القرن الأفريقي، أما الآن فقد أطلق العنان للكل كي يزرعوا الرعب، والمخيف أكثر الآن هو ذاك ?الداعش? الذي دعا نفسه إلى الحفل، فيتمّ التساؤل الآن من جديد ?إن كان الانقلاب أمرا جيّدا أم هفوة شنيعة؟?.

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..