طقوس الزار بين السودان والخليج العربي

أصل هذا المقال بحث محكم يقع في سبعين صفحة نشرته جامعة المنوفية بمصر في مجلتها العلمية في مارس 2015،بعنوان (الثقافة الشعبية من الثابت إلى المنقول ،دراسة في قصيدتي (الظار) للهادي آدم ،و(جوقة الزار) لسعد الحميدين. وكان قد قدم كسمنار في أروقة كلية التربية والعلوم بجامعة الطائف .
في خلاصته يذكر الباحث د.عبدالله حسن إدريس إن كثيراً من أشكال الثقافة الإنسانية تتغير وتتطور حسب ظروف معينة يتعرض لها المجتمع الذي تنشأ فيه، والثقافة الشعبية ركن أساس من أركان الثقافة الإنسانية تتأثر بهذه التطورات التي تطرأ على المجتمع.
ويعد الزار من أكثر طقوس الثقافة الشعبية التي كانت تسود المجتمعات العربية وغيرها حتى أواخر القرن الماضي. إلاّ أن هذه الظاهرة على وجه العموم بدأت في التلاشي أو التغير نتيجة للتطور الذي طرأ على المجتمعات التي انتشر فيها ،وقد تحول الزار في منطقة واسعة من الخليج العربي إلى مجرد رقصات شعبية مصاحبة للأفراح وتخلص من كثير من المظاهر والممارسات التي سادت زمناً، وقد جاء هذا التحول نتيجة لأسباب يأتي الوعي الديني في مقدمتها.
قصيدة(الظار)للشاعر السوداني الهادي آدم تصف الزار في شكله الأول كما وصفه الباحثون، بينما قصيدة الشاعر السعودي سعد الحميدين(جوقة الزار) تأتي وصفاً للزار بعد انتقاله إلى رقصة شعبية تخلصت من الكثير من الممارسات.
يدرس البحث هذين النصين مبرزاً كيفية تناول كل نص للظاهرة، ، راصداً ذلك من خلال الدراسات النظرية التي تناولت طقس الزار ،كما يتناول تحول الزار في الخليج العربي إلى مجرد رقصات شعبية مصاحبة للأفراح وأثر ذلك في نص الحميدين ،وأسباب ذلك التحول ،مقارنة بتمسك المجتمع في السودان بطقس الزار في صورته الأصلية وأثر ذلك في نص الهادي آدم .
من ثم يدلف البحث إلى تعريف الزار وأصله مما ذكره الباحثون العرب والمستشرقين من ذلك أنه نوع من الاحتفال الذي يستهدف طرد الأرواح واسترضائها عن طريق إجراءات طقوسية خاصة تشتمل على تقديم الأضاحي والقرابين وأداء بعض الرقصات سريعة الإيقاع”.، ويعرفه محمد سيد محمود بأنه”حفلة نسائية فيها الإسراف،يمحى فيها الاحتشام، وأكبر الباعث عليها الآن التقليد والفخر والمباهاة والاستمتاع بالكثير من الشهوات الحسية والمعنوية”.
ويؤكد أن أصله أثيوبيا منكراً ما ذهب إليه بعض الباحثين من أن أصله فرعوني، وعلى حسب ما يرى سيلجمان فقد انتقل هذا الطقس إلى الأثيوبيين الأمهرة من شعب الجالا(الأرومو) الذين يرجع تاريخ ظهورهم في أرض أثيوبيا إلى القرن الخامس عشر الميلادي. وترجع بعض الدراسات وجود مثل هذا الاعتقاد والطقوس المتعلقة به عند العرب إلى نهايات القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر مع ازدهار تجارة الرقيق على السواحل الأفريقية، وجلب أفارقة بسطاء بمعتقدات بدائية وطقوس وثنية، وشحن نفوسهم بالقهر والعبودية والامتهان الذي يرسخ حالات كبت نفسي شديد تولد انفجارات عاطفية داخلية، ووساوس شيطانية لا يمكن التعبير عنها إلاّ بمثل هذه التشنجات العصبية مع تحميل نتائجها فعل فاعل آخر يأتي من الغيب لا دخل لمن يؤديها فيها.
يورد البحث تفاصيل طقس الزار في السودان مقارنا ذلك بتفاصيله الأولى في مكة معتمداً على ما فصله المستشرق الهولندي ( ك.سنوك هور خرونيه ) في كتابه (صفحات من تاريخ مكة)الذي دوّن فيه رحلته إلى مدينتي جدة ومكة والتي استمرت عاماً كاملاً(1884-1885م)، ويؤكد خرونيه أن الزار في مكة مصدره الحبشة فيقول “إن الزار يحدث بين جميع الطوائف التي تستوطن مكة .ومع أنه في الأقطار التي قدم منها هؤلاء قد يكون للزار اسم آخر ،إلاّ أنهم جميعاً يستخدمون هذا الاسم المحلي “الزار”، والكلمة مشتقة من الأثيوبية ،ويظهر أن هذا الاعتقاد الخرافي مصدره الرقيق الحبشي ،غير أن هناك فوارق محلية موجودة ويجب أخذها بعين الاعتبار فيما يخص الزار.
هذه التفاصيل التي يذكرها خرونيه تكاد تتطابق مع الزار المعروف في السودان كما وصفه الدارسون ،لكن الأمر يختلف بدرجة كبيرة عما هو معروف وممارس اليوم في منطقة الخليج حيث يذكر أحد الباحثين وصفاً للزار اليوم فيقول:” غالباً ما تحدث حالات الزار في مجتمعات الرجال أو النساء ، في الإعراس أو الحفلات الخاصة و المناسبات المختلفة التي يكون فيها طرب و رقص ، و ما يحدث هو أن الطرب يسبب لبعض الأشخاص حالة اندماج شبه هستيرية مع أجواء الطرب ، فتجده يقوم بممارسة الرقص برشاقة متناهية ، حتى يصل إلى درجة الزار ، و في هذه المرحلة لا يتحكم الراقص بجسمه ، بل يسيطر عليه -أي الجسم- قرينه من الجن . و عندما يقترب ( المنزار )- هكذا يقال عامياً- من الجمهور ، تجدهم يقومون بزيادة حدة التصفيق له ؛ خشية أن يؤذيهم . فهناك اعتقاد بأن ( المنزار ) يؤذي من لا يصفق له ، و بالتالي فإن هذا ( المنزار ) يسقط مغشياً عليه في الأرض ، فتجده في حالة من الإرهاق و التألم ، فيقترب الآخرون منه في محاولة لإيقاظه مرة أخرى ، و من هنا يتم سؤاله عن بيته، و السؤال هنا للجن المتلبس للشخص ، فيخبرهم بالبيت الذي من شأنه إيقاظه ، فيقومون بتأدية هذه الأغنية ، فينهض ( المنزار ) ، و يرقص بذات الطريقة السابقة حتى يعود إلى حالته الطبيعية . و هذه الطقوس متشابهة إلى حد كبير في معظم مناطق المملكة و دول مجلس التعاون الخليجي .
تأتي بعد ذلك الدراسة التطبيقية التي تقارن بين النصين حيث يجد الباحث أن نص الهادي آدم يصف الزار السوداني الذي يكاد ما وصفه خرونيه في مكة سنة 1884 يتطابق معه ،بينما يأتي نص الحميدين وصفاً للزار في شكله الحديث الذي تغير بدرجة كبيرة من شكله السابق ،وقد استنتج أن أسباب هذا التحول يعود إلى الوعي الديني بدرجة كبيرة ثم انتشار التعليم الذي أسهم في التخلص من الكثير من الجهل الذي كان يسود المجتمعات .
مما أورده البحث التطابق في بداية النصين حيث يبدأ الهادي آدم نصه بقوله (دف يتهدج) ويبدأ نص الحميدين بقوله (تدق طبول)،كذلك التطابق في كثير من الشخوص فالشيخة عند الهادي آدم هي الحادي عند الحميدين ،والحضور هم ذات الحضور ،والمريض هو ذات المريض ،والأدوار تكاد تتطابق في كلا النصين .
النصان يهدفان إلى نقد المجتمع ويكادان يتفقان في عكس الاتجاه الواقعي باستخدام الكثير من التقنيات المعروفة كاستخدام اللغة العامية في كثير من المواضع كما عند الحميدين في اختيار أغنيات الزار العامية ،واستخدام الكثير من الألفاظ المحلية التي تناسب الزار عند الهادي آدم مثل (جالون محاية)،(كاني ماني )،(الله على الظار) ..الخ. ويلحظ أن الهادي آدم يلجأ إلى أسلوب التصوير الساخر الذي يجعل النص أقرب إلى المسرحية الكوميدية ،كما لا يخلو نص الحميدين من ذات السخرية وإن كان تركيزه على الجانب الموسيقى بصورة أكبر من جانب التصوير الساخر.

د.عبدالله حسن إدريس /جامعة الطائف
[email][email protected][/email]

تعليق واحد

  1. تمام ….. بس ذكرتني قصة الجماعة الذين دعاهم الخليفة للقتال ضد المستعمر قال لرسول الخليفة( ماجايين هذه الايام لاننا مشغولين عند مهر حمير) فرجة على الحمير وهي تمارس حقها الطبيعي (قلة ادب يعني) فجاء المثل السوداني (الناس في شنو وانتم في شنو؟).
    ايها الباحث النحرير انت تكتب من الطائف حيث وجدت لقيمات اقمن صلبك وكمبيوتر تنشر عبره مقالات في التراث والثقافة وتمارس الترف الفكري .. بينما القراء يبحوث عن من يكتب عن ضحايا الانتوف وابناء الحزن الاوفياء المعذبين في الارض.
    عبدالله حسن.. جميل ان تاخذنا في رحلة ذهنية تجوب بنا محاريب الزار وتسمعنا صوت ام كيكي والزمبارة والطمبور ودبايوا وهلم جرا … لكن ليس الان ياعزيزي لان هذا ترف لا يلزمنا الان …ربما قراء لك روادالراكوبة بعد ذهاب المغول الجددلان الراكوبة ملتفى اصحاب قضايا جوهرية ومفصلية ..

  2. بعض الإخوة المعلقين للأسف يفتون بما لا يعلمون
    هذا الموضوع نحن درسناه في مقرر الانثربولوجيا اذا كان الاخوة قد سمعوا به أصلاً ،اما مجال القصائد فلا اتدخل فيه لآني لست من هواة الشعر
    ويدخل كذلك في مجال الطب النفسي ويدرس في كل الجامعات الغربية وجامعات امريكا

    المفروض الواحد قبل ما يكتب يثقف نفسو وبعدين ينتقد الناس والله انتو ناس عجايب

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..