“بهدلة السجل” تعبر إحداهن عن سخطها بالقول : “السقط شديد والأطفال صغار والمواصلات مافي ولما يجي دوري ألقى الأرانيك كمان مافي”

أم درمان ـ درية منير
يحكي الرجل الستيني بنبرة أسى أنه نهض من سريره الثالثة صباحا. بدا محدثي بلا خيار تقريباً؛ فأمس الأول (الخميس) كان موعد سحب أورنيك الرقم الوطني لبناته الثلاث.. تدثر إسماعيل بملابس الشتاء الدافئة؛ لف حول عنقه شالاً وأتممها بـ(ملاية). لمدة عشرة أيام كان يأتي بشكل راتب إلى مباني السجل المدني بأمبدة الحارة السابعة. حضرنا بعده بساعات ونابنا من معاناته تلك التصريحات؛ ففي السادسة والنصف صباحاً، والصباح يتوسل الشمس للشروق لتدفئهم من برودة الطقس كنت وسط الصفوف التي انقسمت بين الجنسين. حسناً، سأدلف وأنا أدون بعض الملاحظات؛ أغلب الحضور من النساء.. الزحام على أشده ولا نجاة إلا أن يأتي حظك لاستلام الرقم الوطني، أو سحب أورنيك.. ثمة أطفال رضع، وآخرون في مقتبل العمر.. هنا تلاميذ مدارس وطلاب جامعات، مثلما يتوافد العمال وربات المنازل.. يقف شرطي متوسطاً الحشد.. لن أنسى أن أدون الآتي: صوت الشرطي يعلو.. لاحقاً سيدلي بعبارات محبطة للجميع.. تحديداً عند السابعة وخمس دقائق ينهي الشرطي إلى مسامع الحضور ما مفاده: “إنتو وين من الصباح؟ تاني مافي أرانيك.. لو قسمناها ليكم حتة حتة ما بتكفيكم.. وتاني شي الصالة ما بتشيلكم زاتو”..!!.. ثمة ثرثرات جانبية يتناهى منها إلى سمعي: “ياخ ما تخافوا الله فينا.. ياخ نحن جينا في زيفة ما يعلم بيها إلا الله.. حرام عليك يا ولدي”..!! تصرخ إحداهن بالجوار تنادي طفلها ذا العامين: “يا حمودي أعمل حسابك ما تقع”.. على مدار أربعة أيام متتالية كانت منى إبراهيم، صاحبة النداء عاليه، حسبما علمت.. تأتي منذ الرابعة صباحاً وتنتظر حتى التاسعة لتعود إلى حيث أتت (بخُفي حنين).. منى افترشت ملايتها تنتظر أختها التي تقف في الصف والتي جاءت من دار السلام، بعد أن فقدت الأمل في استخراج رقم وطني لطفليها من السجل المدني ببانت، وتم توجيهها إلى أمبدة حيث دائرتها.. توجهت نحوها.. وكأنها كانت بانتظاري لبث الشكوى.. تعبر محدثتي عن سخطها بالقول: “السقط، والأطفال صغار، والمواصلات ما في، ولازم نجي أنا وأختي عشان تقيف لي في الصف وأنا أحرس الشفع، ولما يجي دوري ألقى أرانيك مافي، أو العدد اكتمل، وراسنا يلف.. كل يوم ياهو جنس ده حالنا”..!! تمضي منى في سرد معاناتها بالقول: “سمعنا إنو الرقم بداية السنة حيكون بقروش”، قبل أن تندب عاثر حظها، وأنها لن تستطيع سحب استمارة اليوم، فاليوم ليس للأطفال..!!
ثمة ستيني يتلفح عمامته ويتلثم بشاله حذر البرد.. حدثتكم عنه في المفتتح، أما زلتم تذكرونه؟ حسناً، إليكم حكايته.. يقول إسماعيل: “جيت من أمبدة الحارة (16)، وأصبحت أداوم يومياً، ولمدة (10) ليالٍ متتالية بلا فائدة، تم توجيهنا على أنه سيتم سحب الأورنيك يوم الخميس.. أتى الخميس ولا زلنا عالقين في دوامة السحب، حتى نفد صبرنا.. ندفع تكلفة ضعف التي ستقرر بداية العام، علماً بأن كل الأسر التي تقف هنا متوسطة أو محدودة الدخل، ولا يقل أفرادها عن الخمسة أشخاص بمختلف أعمارهم”. ينفث ما تبقى من بخار البرد تحت ملفحته وهو يردد: “لسة كمان في صفوف تانية منتظرانا أكان رغيف ولا غاز ولا علاج أو غيره”..!!
هنا أطفال في العاشرة من العمر يلتحمون بالحائط.. يتدفأون به من لسعات البرد القارسة. ثمة صبي ضاق به الانتظار فضل أن يعبيء صدره بالسجائر عساه يمنحه بعض الدفء.. على مبعدة هناك تلميذة بمدرسة خاصة ترتدي زيها الرسمي.. اقتربت من ومضة، فعلمت أنها في الصف الثامن.. كانت تستعجل استخراج القيد المدني للحصول على رقم جلوسها.. بالنسبة لسلوى إبراهيم التي تسكن على مقربة من المبنى فلها نفس الغرض، وعانت ذات المعاناة لمدة أربعة أيام، فهي في انتظار الاستلام.. أخرى طال انتظارها ففضلت الجلوس على طوبة (بلوك).. عرفت أن اسمها آمنة وعرفت أيضاً أنها كانت لا زالت ممتعضة من عبارة الشرطي التي سبق التنويه لها.. وجدتها تقول: “نجي بدري ما ينفع.. نجي متأخرين برضو ما ينفع.. تاني إلا نجيب واسطاتنا في يدنا بعد كده”..!! تضيف آمنة بعد أن وجدت (اليوم التالي) مصغية لشكواها: “استخراج الرقم مجاناً لكن التكاليف المصاحبة ليهو أكثر من مواصلات أكل وتصوير مستندات.. تستطرد: “إذا كان متوسط دخل الفرد في اليوم (20) جنيهاً، بحكم أننا من الطبقات محدودة الدخل، فكيف يكون التصوير براهو قريب حد العشرين جنيه؟! تطالب محدثتي بتقليص سعر التصوير، وبالإجمال تدعو لتخفيف الضغط على المواطن.
بالنسبة لحسن فهو شاب في الخامسة والعشرين، ضاعت بطاقته القومية، ففضل أن يقضي ليلته مع أحد أقاربه، كسباً للزمن، ومواصلة للأرحام. حسب مقتضيات (ونسة) دارت بينه وجاره في الصف بدأ من الصفر.. يسترسل موجهاً حديثه إلى جاره بأنه يعاقب نفسه على الإهمال: “ففي البلد دي لا بد أن تكون حريصاً على مستنداتك أكثر من أي شي تاني، خشية (البهدلة)”.
أما مجدي الذي يأتي يومياً ولمدة أربعة أيام مع ابنتيه ليستخرج لهن أرقاماً سقط اسم إحداهن، وأخرى تم استخراج الرقم لها أكثر من (4) مرات نسبة للأخطاء التي وردت بالاسم. بضحكة ساخرة يقول: “المستفيد الوحيد ستات الشاي والأكل بس”..!!
المعاناة متكررة منذ فترة ليست بالقصيرة.. الأيام قسمت بين الأطفال وتلاميذ الصف الثامن.. ما تبقى منها على المواطن الكادح الذي يعمل باليومية فيقضي أسبوعه بين جرجرة الرقم الوطني، قبل أن ينتهي العام فيصبح بمبلغ وقدره، وهو حتماً لا يستطيع تحمل أعباء جديدة عليه، فيستغني عن قوت يومه متوكلاً على الله، وهو حسبه.

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. والله نحن شعب غريب وعجيب ،، انا ضد الحكومة ،، لكن كمان كلمة الحق بسالنا منها ربنا ،، اكتر حاجة اجتهدت فيها الحكومة دي هو الرقثم الوطني .. جابتو محل العمل حكومي وخاص وجابتو الاحياء والمدارس وتحنس في الناس حنيس ما دايرين يمشو يطلعو الرقم .، هسع لامن قالت الحكومة انو في السنة الجديدة حيكون برسوم واجراءاته ستصعب بدا الناس الجري ورا الرقم الوطني ،،، نحن شعب نحب اي حاجة نعملها في اللحظات الاخيرة ،، ياوهم الحكومة ماعندها اي ذنب جابتو ليكم في بيوتكم ومجان بالحنيس ما دايرين تجو تتطلعو ،، انشاءالله يبقي بمليون جنيه يا طير

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..