قراءة نقدية في «ثلاثية» السوداني عباس عبود: رواية تنبأت بانفصال الجنوب وصراع السلطة والثروة

الخرطوم :صلاح الدين مصطفى
شهد المركز الثقافي الفرنسي في الخرطوم منتدى حول روايات الكاتب السوداني عباس علي عبود، قدم فيه الناقد عز الدين ميرغني ورقة نقدية، تعرّض فيها لمشروع الكاتب الروائي متمثلا في «ثلاثية طقوس الرحيل، مرافي السراب وأساطير الأنهار»، مؤكدا أن هذه الروايات تمثّل رؤية واحدة وممتدة.
في مفتتح حديثه أشار عزالدين ميرغني إلى العناوين، مبينا أن كل عنوان له علاقة وثيقة بمضمون النص، وتدل العناوين الثلاثة مجتمعة على حكاية واحدة. وفي رواية «طقوس الرحيل» يقول إن الكاتب نجح منذ البداية في رسم هذه الطقوس من خلال تجذر المكان في دواخل الراوي والشخصيات، وأشار إلى أن المكان الواسع الذي ينفتح عليه فضاء النص هو (الوطن). ويرى ميرغني أن المكان هو أيقونة هذه الثلاثية، التي كتبت بتقنية الراوي العليم، الذي يرجع دائما للمكان ليسلط الضوء عليه قبل دخول الشخصيات إلى مسرح الرواية، موضحا أن المكان هنا (جغرافي، ثقافي وإنثربولوجي). ويقول الناقد إن المكان في أعمال عباس عبود دائما متسامح، وهو ابن الطبيعة البكر، تتلاقح فيه ثقافات متجانسة، وكأنما هو صورة مصغرة للوطن، وتتمظهر فيه الثقافة النيلية بأساطيرها الموروثة والمتمثلة في صراع الإنسان مع التمساح ومع الكائن الخرافي (السحّار).
ويشير إلى سطوة المكان في الروايات الثلاث، فكل شخصية تتحرك في اتساق مع مكانها الذي يمثل (البطل) ومن خلال ذلك تتشكل بانوراما تتجسد فيها القيم والعادات والتقاليد، وإذا رحلت الشخصيات، فإنها لا تجد الأمان إلاّ في الرفيق الذي هاجر من المكان نفسه، طلابا، صحافيين، شبابا وشيوخا يتقاسمون الشاي والكتب والساندوتشات. ويرصد عز الدين ميرغني تقنية الإيواء في الروايات الثلاث، حيث تجد الشخصية من يأويها داخل المكان ويقول إن هذا ناتج من ثقافة موروثة، حيث يأوي المكان (الغريب) من دون أن يسأله أحد عن أصله وماضيه، ويرى أن ثلاثية عباس أكدت مبدأ ثبات القيم في المجتمع السوداني.
ويصف الروايات الثلاث بأنها روايات المنافي، يتجسد فيها السفر والرحيل، لكنه رحيل مؤقت، فالشخصيات ليس هائمة للأبد ولديها ? دائما ? مكان تعود إليه في أزمان أخرى، ويتأكد ذلك من خلال الإشارة الواضحة لثقافة الإنسان النيلي، الذي يمثل (القارب) صمام الأمان له، فهو يحلم دائما بالرجوع لوطنه عبر الماء، ويقول إن الرواية الثانية «مرافي السراب» تتبلور من خلالها حقيقة أن كل رحيل عن الوطن لا يوصلك إلاّ للسراب.
ويعدد ميرغني مزايا المشروع الروائي للكاتب، الذي يتمثل كتابة التاريخ السياسي برؤية فنية، من خلال تعرية الأنظمة والسلطات الشمولية التي تعاقبت على السودان، ويتم ذلك من دون هتاف أو طغيان أيديولوجي. ويقول إن أعمال عباس عبارة عن مشروع كاشف للمستقبل، فقد تنبأت الروايات بانفصال جنوب السودان وبالنزاعات والانقسامات وصراع السلطة والثروة، وقدمت إشارة واضحة إلى أن الوطن لم يتسع للجميع.
ويرى عزالدين أن الكاتب استخدم تقنية الراوي العليم، الأمر الذي أتاح له تثقيف النص بمعلومات تنداح وسط السرد، من دون وصاية أو ترهل، وكذلك استخدم الكاتب بطاقة السيرة الذاتية، فلكل شخصية بطاقة مكتملة ترصد تاريخها وحركتها في المجتمع، كذلك استخدم تقنية الشخصية المدورة التي تعود كلما اختفت، ولكل شخصية دلالاتها الكبيرة ودورها، ويقول إن هذا ناتج من إيمان الكاتب بأن كل إنسان ? مهما قلّ دوره- يمكن أن يخدم الوطن.
ومن التقنيات الأخرى التي أشار إليها الناقد، تقنية الحكي داخل الحكي، ولحم الأحداث مع بعضها بعضا، لتصبح الروايات الثلاث رواية واحدة، مؤكدا أن الثلاثية ظاهرة نادرة في الأدب العربي، وأن عباس عبود حاز قصب السبق في المشهد الروائي السوداني.
وأضاف أن الثلاثية اشتملت على واقعية اجتماعية، من حيث المكان، وواقعية اجتماعية نقدية وواقعية سحرية مستمدة من الثقافة الأفريقية (الغابات، الطقوس، والسحر). ويرى عز الدين ميرغني أن الكاتب استفاد من كتابته في المسرح والقصة القصيرة والشعر، مؤكدا أن اللغة هي البطل الخفي، فقد جاءت واضحة وغير مدرسية واستمدت روحها من عمق الثقافة السودانية.
“القدس العربي”