الثقافة العربية بين مسدس غوبلز وسيف الفقيه

واسيني الأعرج
هل نحن أمام ثقافة الكيتش الاستهلاكية إلى درجة أصبحت فيها تشبه منتجيها؟ لا تقدم شيئاً، ولا تسهم إلا في تعميق الوعي المزيف وإعطائه شرعية الوجود؟ وهل نحن شعب لا يقرأ، وإذا قرأ لا يفهم؟ أية صفة يتصف بها المشهد الثقافي العربي في ظل العدمية ونفي كل جهد معرفي وتسيد الجهل الذي كثيراً ما يتحول فيه الجاهلون إلى سادة للمشهد الرسمي؟
ثم، ماذا يفعل الإبداع أمام معوقاته الكبيرة والثقيلة، والتي تكاد تكون طبيعية في ظل الاختلالات الديمقراطية التي لازمت كل التجارب السياسية والثقافية العربية الرسمية. هناك شعور عميق بالحيف في الكثير مما يقال عن الثقافة العربية. ثقافة الكيتش موجودة وأحياناً هي سيدة المشهد من خلال ما نراه في يوميات البلاد العربية.
لكن بجانب هذا، لا يزال المثقف العربي يجهد نفسه لينتج ثقافة مقاومة، حية وغير مستسلمة للسهولة المستشرية. حتى فكرة أن العربي لا يقرأ تتبطن شيئاً قريباً من العنصرية. جوهر الفكرة هي حالة الاستغباء التي كثيراً ما يُخصّ بها العربي تحديداً. لهذا هو شبيه بما تصنعه السينما وثقافة الكيتش الغربية، عنصري وعدمي إلى حد بعيد، ويصنع صورة للعربي قريبة من رتبة الغباوة الجينية. هذا لا ينفي مطلقاً وجود معضلة قرائية كبيرة ومستفحلة، لكنها معضلة اجتماعية تاريخية لها ما يبررها. لا توجد إحصائيات دقيقة، ميدانية، لكن المؤكد أن العرب كبقية الشعوب يقرأون. السؤال الكبير هو ماذا يقرأون؟
يمكن القيام برصد أولي لهذه القراءة ونوعيتها. يقرأ التلميذ والشاب العربي المقرر المدرسي الملخص في سلسلة من الكتب المفروضة عليه، والقراءة هنا قسرية لأنها غير مسبوقة بتكوين يوجه القارئ نحو الكتاب المراد والمفيد والجيد أيضاً. بعض المكتبات والمعارض تقدم مادة أدبية وقصصية ولو كانت محدودة، تتيح للمتعلم العربي فرصة أن يقرأ. يقرأ العربي أيضاً المواد التي تنشر في وسائط التواصل الاجتماعي المختلفة بغثها وسمينها، بل ويتفاعل معها بحسب مستواه الثقافي والعلمي والحضاري، وهو في هذا، لا يشذ عن بقية سكان المعمورة الذين يتواصلون بواسطة هذه الوسائط المهيمنة إعلامياً اليوم. ويقرأ العربي الميراث الديني، القرآن الكريم، بفهم متوسط أو محدود، كما يقرأ المجلدات التفسيرية القديمة والحديثة قليلاً، من الطبري إلى المهندس، مع هيمنة الرؤية المحافظة التي ترى أن التاريخ الإسلامي أنجز وانتهى أمره، وما علينا إلا استعادة جهد السلف الصالح لفهم الحاضر، بحثاً عن النجاة من أهوال القيامة، وكأن العربي معني بمشكلات الغيب أكثر مما هو معني بمعضلات الحاضر المتأزم، التي لن تحلها السماء إنما الجهود البشرية. طبعاً، هذا أمر آخر ليس رهين القراءة وحدها في مسار التسطيحات الدكتاتورية.
ماذا يقرأ العربي من ثقافة العصر والفنون المختلفة؟ قراءة مؤسسة على المعطى الديني تتلقى النص ليس بحفاوة ولكن برغبة مترسخة لمحو كل ما لا يشبهها. في هذا يلعب الرقيب الذي استشرى في العالم العربي، دوراً حاسماً، هذا الرقيب الديني أو الفقيه يضع الإبداع في رتبة دون الديني، بل يعاديه لأنه يضاهي الخلق الإلهي من حيث جهد المبدع في خلق النماذج الروائية والنحتية والتشكيلية. هي رؤية قاصرة بكل تأكيد، تحتاج إلى إعادة قراءة الديني وتوليفه مع عصر يسير بسرعة متواترة كما فعل الأوروبيون، الصينيون واليابانيون وبعض الآسيويين في نماذجهم الأكثر تقدما.
التخلص من ذهنية التحريم القاسية والصعبة، جزء من مهمة المثقف والسياسي ورجل الدين، والعالم. بل حتى الدولة العربية التي ما تزال تنظر للثقافة بوصفها العجلة الخامسة، تحتاج إلى إحداث ثورة في بنيانها الداخلي والفكري. ميزانيات وزارات الثقافة في العالم العربي لا تتجاوز في عمومها 0,1٪، مقابل ميزانيات الأسلحة المرعبة التي لم تحرر أرضاً ولم تحم العرب. بل كثيراً ما استعملت ضد العدو القومي والديني؟ ردة فعل الفقيه المتزمت والمنفصل عن الزمن الذي نعيشه، الملتبس بالجهل والتحريم، لا تختلف مطلقاً عن فكرة وزير الدعاية النازية غوبلز الذي كان يقول كلما زعزعت الثقافة ثقته في نفسه وفي المشروع النازي: كلما سمعت كلمة ثقافة تحسست مسدسي. فهو يعرف جدواها وقوتها الداخلية. وعانى المثقفون المعادون للنازية، الأمرين في زمان غوبلز. في النهاية، كان هو ضحية أطروحاته، فانتحر ونحر معه عائلته كلها. لأن مسدس الاغتيال الذي قتل الكثيرون وصل إلى منتهى إجرامه.
الفقيه في المقابل، في البلاد العربية، لا يفعل أكثر من ذلك. كلما سمع كلمة ثقافة أو رأى صورة فنية جميلة، يتحسس سكينه وسيفه وأدوات الفتك المختلفة التي طورها بما يرعب أكثر. التهمة نفسها لم تتغير أبداً، بل تعيد إنتاج ذاتها باستمرار. وبدل التوجه للديكتاتوريات، المتسببة في كل الانهيارات العربية، تم التوجه نحو الحلقة الأضعف ظناً بأن قتل المثقف يحل معضلة المجتمع. ليس غريباً أن تكبر عند الفقيه رغبة محو المثقف كوجود. لأن وجوده مزعج بامتياز. الإرهابيون يفعلون ما فعله غوبلز في وقته، أو أحفاده من الحكام المهزومين، يغتالون العلماء والمثقفين لأنهم هم من ينشئ الحياة بالمعنى الجديد. هم أيضاً من يمنحوا لنا عالماً آخر مجبرين على أن نكون جديرين به، عالماً موازياً، حياً ودينامكياً مهماً. يمكن للفنان أن يمنح الحياة نفساً جديداً في أشد اللحظات يأساً. هو أيضا الشاهد على عالم يموت، وآخر ينشأ داخل الآلة الساحقة التي اسمها المجتمع. الفنان عموما والكاتب بالخصوص، لا يحل مشكلات عصره بضربة عصا سحرية، لكنه شاهد بنصوصه وجهوده على عالم ينهار أمام عينيه، ومبهم لا يعرف تفاصيله ينشأ مثل النبتة الغريبة التي تخرج من بين فجوات الحيطان.
عندما كان المنتصرون يهللون بإسقاط النازية، كان جورج أورويل في 1984 يكشف عن الآلة الخفية التي كانت تنبت في غفلة من الجميع الغارقين في احتفاليات الانتصار، آلة الرقابة والحروب والموت المجاني. وحده الفن يجعلنا أقرب إلى إنسانيتنا العميقة التي قليلاً ما يتم التعبير عنها بحرية. الكاتب العربي لا يحسد كثيراً على الوضع العربي المنهار الذي عليه أن يحسه ويجابهه بقوة قبل أن يكتب عنه. المثقف يعيش اليوم داخل عصر شديد القسوة، عصر الانفصالات الكبيرة وقسوة التمزق. كيف يكون موقفه. في ظل هذه الغيبوبة العربية المستدامة، التي تحولت إلى حروب أهلية مدمرة، أعادت الديكتاتوريات ترتيب شؤونها من جديد، ولبست جلد الحداثة والتجديد، والظهور بمظهر المنقذ.
المهمات اليوم صعبة وتكاد تكون مستحيلة لكن لا مستحيل أمام العقل البشري الخلاق. هناك ممكنات ما تزال قائمة، منها إعادة ترتيب الدولة والحكم، والاستفادة ولو قليلاً من الانتكاسات التي دمرت بلداناً كانت قائمة إلى وقت قريب، وإعادة ترتيب البيت العربي وفق المعطيات الجيدة والاستفادة منها، أمر ليس مهماً فحسب، بل ضروري أيضاً.
القدس العربي