“لا تسلها فهي حلم عابر” حسين بازرعة.. شاعر الواقعية والسحر

الخرطوم – محمدعبدالباقي
لو قُدِّر لأحد أن يضع ترتيبا لشعراء الأغنية بحسب إجادتهم وتأثيرهم في الوجدان العام منذ أن عُرفت الأغنية السودانية بشكلها الحالي تحت مظلة الغناء الحديث، لما طرف له جفن وهو يضع الشاعر الكبير حسين بازرعة على رأس القائمة. فـ(بازرعة) وحده مَثل حالة خاصة وفتحاً غير مسبوق في الأغنية الحديثة حيث منحها ألقاً بهياً من خلال أعماله التي قدمها في نهاية أربعينيات القرن المنصرم بأصوات شابة حينها أبرزها (عثمان حسين، أحمد المصطفى، عبدالعزيز أبو داود، وآخرون).
قُوبل (حسين بازرعة) بادئ أمره بتوجس مريب بسبب أشعاره المخالفة للسائد في ذلك الوقت، إذ جاءت مزيجاً من الفصيح و(الدراجي) في قوالب مبتكرة ومعان مستحدثة لم تشخ إلى يومنا هذا. ورغم أن حياة (بازرعة) أُكتنفت بالترحال، لكنه استطاع أن يطوع ترحاله لمصلحة مشروعه الغنائي الذي شيده على أرض صلدة لم ولن تهزها عواتي الدهر وسنواته المتطاولة.
تفرد في كل شيء
لم يكن الشاعر حسين بازرعة مُتفرداً في نظمه فحسب، بل استطاع أن يمنح مُفردات مثل، النجوى، البكاء، والوشاية، والهجران، والشكوى، الضنى، النكران، الحسرة، والعتاب، والنهاية بعداً جمالياً تمثل في عاطفة دافقة تخطت المتاريس المجتمعية قبل أكثر من خمسين عاماً، فأنتجت شعراً غنائياً لم تجُد به قريحة أحد من قبله ولم تشهد له الساحة الفنية مثيلاً قط!!
“لمتين يلازمك في هواك مر الشجن/ ويطول بأيامك سهر ويطول عذاب/ ياقلبي لو كانت محبتهو بالتمن/ يكفيك هدرت عُمر حرقت عليه شباب/ لكن هواه أكبر وماكان ليه تمن/ والحسرة مابتنفع وما بجدي العتاب”.
وعلى هذا النهج عاش (بازرعة) يحمل مشعل رسالته يطوف به بين العالمين ينثر الحبور ويزرع الخير في الأرض اليباب.
“كل زادي في ضياعي/ قلبي مفتوح للأحبة/ للجمال الأشجى روحي/ في شعوري سحره شبه ورسالة فني سامية/ تدعو للخير والمحبة”.
بجانب رسالته السامية ونثره للحب ظل شاعرنا يمزج بين الضدين في سلاسة وواقعية دون الإخلال بتوازن مفرداته أو تزييف لعواطفه، فهو السائر دون هوادة على نهجه الذي خطاه لنفسه بيقين رغم التعرجات العاطفية التي لم يستقم طريقه بدونها حتى تظهر أمامه على مرمى خطوة.
“ما بإيدي، لو ضباب الغيرة أعماني وزيف لي الحقيقة/ إنت نبع حناني، إنت كياني، إنت الدنيا، بهجتها وشروقها/ وإن حصل زلت خطايا معاك، أو ضلت طريقها/ هل تصدق تنـتهي قصتنا، يا أجمل حقيقة”.
العيش بمقدار
حفلت حياة الشاعر حسين بازرعة بالكثير من الحوادث الجسام وعلى رأسها الاغتراب الذي خطف أنضر سنواته، مما كان له الآثر الكبير على إنتاجه الإبداعي .
“كل طائر مرتحل عبر البحر قاصد الأهل/ حملتو أشواقي الدفيقة/ ليك يا حبيبي للوطن لترابه لشطآنه/ للدار الوريقة”.
وبسبب هذه الغربة القاسية لم يكن (بازرعة) مقبلاً على الحياة بفوضوية، فهو دقيق في كل شيء، ولايتحرك إلا بمقدار، يكاد يحصى أنفاسه، فهو مقلٌ في الحديث ومقلٌّ في صداقاته وعلاقاته الاجتماعية، حتى يكاد يعيش حياته داخله، ولذا يمكن القول إن (بازرعة) في هجرته وضع مقدارا لكل شيء في حياته عدا واجب الحب الذي أفرط فيه حتى كاد أن يسقطه عن الآخرين من خلاله تجوال عاطفي لم يخفه عن من يحب مطلقاً.
“في حياتي قبلك إنت/ عشت قصة حب قاسية/ لسى مازالت بقلبي/ ذكرياتها المرة باقية/ لما هليت في وجودي/ وقلت بيك سعادتي باقية/ لكن أنت هدمت أملي/ بعد عشرة نبيلة سامية”.
وحالة العشق التي تمثلها (بازرعة) جاءت باذخة بعطائها الإبداعي، صادقة في مضمونها الإنساني من منطلق الرسالة التي تحملها ولهذا ظل على حالته الوجدانية كواحد من القلة الذين ساروا على نهجه دون نكسة حتى نهاية رحلة إبداعه.
الحب العذري والروح الملائكية
انضباطه في الحياة جعله واقعياً في شعره، رومانسياً في مفرداته وعذرياً في حبه، يتضح هذا بجلاء في الكثير من أشعاره التي كشفت عن صفاء سريرته ونقاء نفسه، فهو الذي لم يعرف عنه ساقط القول ولا فاحش الشعر.
“عشقتك وقالوا لي عشقك حرام/ يا مجدد نور عيوني /يا مبدد نار شجوني/ ليتهم عرفوا المحبة/ وعرفوا أسرار الغرام”.
وهذا التمني النبيل يلحق به رجاء واستعطاف آخر شبيه بالتوسل غارقٌ في الشجن، محسورٌ بلا فجيعة وقائماً بلا انحناء “لا تسل عني ليالي ياحبيبــــي لاتسلني/ لاتسلها فهي حلم عابر طاف بذهني/ لاتسلها كم تعانقنــا علــى رقة لحن/ وقضينا الليــلة الأولـى حديثا وتمني/ لاتســل عنــى ليالــي فقد بتنا حطاما/ كم حرقناها شعـــوراَ وأماني وغراما/ وســـل الشاطئ لما كنت ألقاك دواما/ ونذيب الليل همسا وعناقـــا ومـــلاما”.
شاعر الأناقة والحضارات
و(بازرعة) المولود بمدينة بورتسودان في العام (1943) غير أنه ولد وفي فمه بيت شعر كذلك كان وسيماً أنيقاً، شديد الحرص على مظهره، مهتماً بملبسه منذ طفولته حتى هجرته الطويلة إلى المملكة العربية السعودية التي ابتدرها في العام (1986) وعمره دون الثلاثين بكثير، ولم يعد منها إلا في السنوات القليلة الماضية إلى وطنه بعد أن رفض التابعية السعودية التي منحت له إكراماً له على إثرائه للوجدان الإنساني. وترجع الجذور الباكرة للشاعر (بازرعة) إلى الجزيرة العربية، فهو ذو جذور يمنية من (حضرموت)

اليوم التالي

تعليق واحد

  1. ﻧﺎ ﻭﺍﻟﻨّﺠﻢ ﻭﺍﻟﻤﺴــــــﺎﺀ

    ﺃﻧﺎ ﻭﺍﻟﻨﺠﻢ ﻭﺍﻟﻤﺴـــﺎﺀ ﺿﻤَّﻨﺎ ﺍﻟﻮﺟﺪ ﻭﺍﻟﺤﻨﻴﻦ
    ﺟﻒَّ ﻓﻲ ﻛﺄﺳﻲ ﺍﻟﺮﺟﺎ ﻭﺑﻜﺖ ﻓﺮﺣــﺔ ﺍﻟﺴﻨﻴﻦ
    ***
    ﺁﻩِ ﻳﺎ ﺷـﺎﻃﺊ ﺍﻟﻐــﺪِ ﺃﻳــﻦ في الليل مقعدي
    ﺃﻳﻦ ﻓﻲ ﺍﻟﻠﻴﻞ ﻣﻘﻌﺪﻱ أين ﺑﺎﻟﻠﻪ ﻣـﻮﻋــﺪﻱ
    ***
    ﻳﺎ ﺧﻄــﺎﻫﺎ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺮبى ﻋﻄﺮ ﺃﻧﻔﺎﺳﻬﺎ ﺻﺒﺎ
    ﺗﺤﻤﻞ ﺍﻟﺸﻮﻕ ﻭﺍﻟﺼـﺒﺎ ﻭﺍﻟﺨﻴـﺎﻻﺕ ﻣﻮﻛﺒﺎ
    ﻭﺃﻧــﺎ ﻛﻠﻤــــﺎ ﺩﻧـــﺎ ﻃﻴﻔﻬﺎ ﺍﻟﺤﻠﻮ ﻭﺍﻧﺜﻨﻰ
    ﻋﺎﺩﻧﻲ ﺍﻟﻬﻢُّ ﻭﺍﻟﻀﻨﺎ
    ***
    ﻓﻲ ﺍﻟﺪجى ﺷﺎﻕ ﻣﺴﻤﻌﻰ ﺻﻮﺗﻬﺎ الحلو النغم
    ﻓﻲ ﺍﻟﻬﻮﻯ ﻫـﺎﺝ ﻣﺪﻣﻌﻲ ﺣﺒﻬّﺎ ﺍﻟﺨـﺎﻟﺪ ﺍﻷﻟﻢ
    ﻛﻠﻤــــــﺎ ﻻﺡ ﺑـــﺎﺭﻕ ﻣـﻦ ﻣﺤﻴــﺎ ﺧـــﺎﻓﻖ
    ﻣﺎﺕ ﺑﺎﻟﻬﻢِّ ﻋﺎﺷﻖ
    ***

    ﺇﻧﻬـــــﺎ ﺭُﻗﻴــﺘﻲ ﺍﻟﺘﻲ ﺧﻠــﺪﺕ ﻟﺤـﻦ ﺷﻬﺮﺗﻲ
    ﺃﺳـﺮﺟﺖ ﻟﻴﻞ ﻭﺣــﺪﺗﻲ ﺑﺎﻷﺳﻰ ﻭﺍﻟﺼﺒـــــﺎﺑﺔ
    ﻳﺎﺭﺅﻯ ﺍﻟﺒﺤـﺮ ﺍﺷﻬﺪﻱ ﻫﺎﻫــﻨﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻮﻋــــــﺪﻱ
    ﻫﺎﻫــﻨﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻮﻋــــــﺪﻱ ﻭﻫﻨﺎ ﻛﺎﻥ ﻣﻘﻌﺪﻱ

    ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ? ?
    والله لو لم يكتب الشاعر العبقري حسين بازرعة غير “أنا والنجم والمساء”، لتبؤأت له مكانا بهيا في صالة شرف شعراء الأنسانية جمعاء، منذ ان قال الله “كن” والي ان ينفخ في الصور ويرث الله الأرض وما عليها. فشكرا لمن من خيوط غزله بعض من نسج وجداننا ونبض القلوب الاستاذ حسين بازرعة (مد الله في عمره ومنحه الصحة والعافية) والاستاذ عثمان حسين (سلام ورحمة وغفران وسكينة ورضاء الله عليه في الخالدين)

  2. ي سلام عليك محمد عبدالباقى لك التحية وللأستاذ الكبير شاعر الحب بازرعة الذى اتحفنا بكلماته الرقيقة نسال الله ان يمتعه بالصحة والعافية

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..