بعض الأفكار

أمير تاج السر

في أحد النصوص الروائية التي قرأتها يوما ما، يقول الراوي، إن الحب لم يعد يصلح لكتابته قصصا أو روايات، بعد أن أصبح فعلا متداولا بسهولة ويسر، نشاهده في الشوارع مثلما نشاهد الشوارع نفسها. فلم يعد هناك ما يمكن تسميته لغة العيون، ولا الهمس الموحي، ولا تحين الفرص للحصول على نظرة أو مجرد لمسة سريعة.
هذا الكلام النظري، فيه الكثير من الصحة، وقد أحسست به وأنا أقرأ نصا روائيا يعتمد على لغة الحب القديمة تلك، وكنت شخصيا كتبت نصا فيه انتحار عاطفي، ولغة هامسة، واستجداء للمحبوب، بناء على معطيات حقيقية، حصلت عليها ذات يوم، وأنا طالب في المدرسة، فقط كان نصي قصة حدثت في الماضي، وأحداثها تدور في زمن سيطرة العواطف وليس الآن. فالذي يراجع المواضيع المسيطرة على الحياة بالكامل في هذا الوقت بالذات، يعثر على أشياء لم يكن المحبون الهامسون، والذين تبكيهم مجرد تلويحة بالفراق تصدر ذات يوم، يتوقعون أن تحدث، الآن يسيطر فعل القتل والتعذيب وصياغة الشر بأي وسيلة متاحة، ولا بد أن تلك التقاليد القديمة التي تمنح المرأة شرف أن تكون رقيقة وراقية ومحبوبة، والرجل شرف أن يكون حاميا وفارسا، وملبيا لنداء المنادي حين يحدث، قد تلاشت كلها أو لعلها ذابت وسط بحار الشر التي حفرت عميقة وواسعة في عالم اليوم.
كنت منذ فترة مغرما بأدبيات البادية، خاصة باديتنا في السودان، حيث نشأ الشاعر العظيم: الحردلو، الذي كان يكتب بمفردات بيئته، وربما لا يعرفه أحد من الجيل الجديد المبتعد عن كل ما يقربه من الماضي الجيد.
لقد كانت في البادية تقاليد راسخة في ما يختص بالحب والجمال، وجدتها مرصوفة في شعر الحردلو، الغزل له دوافع عربية أصيلة، هي جزء من الاهتمام بالمرأة الجميلة، التي كانت عاملة أيضا في مجالها وبيئتها الضيقة هناك، وليست مجرد امرأة راكدة في بيتها أو خيمتها، كما قد يظن الكثيرون، فلا أحد يتغزل اعتباطا، ولا أحد يحصل على فرصة للغزل، من دون أن يبذل مجهودا لغويا مثل، نظم الشعر، وعمليا، مثل محاولات اقتناص المحبوبة في فضاء رحب. ومن الأشياء التي كانت لافتة فعلا، تلك المسابقات التي تشبه مسابقات ملكة الجمال التي تجري الآن، وكانت تحدث في العصاري، حين تكون البادية مخضرة، والضروع مترعة باللبن، والشبع مسيطرا، تلك الأيام تخرج الفتيات متزينات وزاهيات، يتمشين وسط الشبع، ويصوت الشباب، لاختيار ملكة جميلة في ذلك اليوم.
كتابة قصة مثل هذه، أي الكتابة عن مباريات لاختيار نساء جميلات، في بادية بعيدة، وفي زمان لم تكن فيه حداثة عقلية مثل الآن، ثم ما قد يتلو ذلك من قصة حب ربما تنتهي بالزواج، أو تظل قصة حب فقط، بلا إشارة لأي سيف مسنون في وجه أحد، أو سكين تتربص بنظرات وابتسامات ما، تبدو لي استثناء من المواضيع التي ربما سقطت عن الجاذبية الكتابية الآن، وأن تناولها مع إضافة بهارات معينة، من الخيال طبعا، قطعا سيحدث تأثيرا ما، وكنت قد أشرت مرة إلى أن العالم أصبح مكشوفا، بحيث لم تعد معظم الخفايا الموجودة في الدنيا، خفايا حقيقية، ستكشفها رواية ما، أو تشير إليها فقرة في كتاب. لم يترك سيل العولمة الجارف، معظم الأشياء البعيدة الراسخة، في بعدها الراسخ، وإنما أخذها معه، وهكذا يكون الكتاب الرواية، أو الكتاب القصة، هو آخر المصادر التي يمكن أن يلجأ إليها أحد الآن لمعرفة شيء جديد، بعكس الماضي، حين كان الكتاب هذا، هو المعلم الأول.
والذي يقرأ سلسلة كتب القراءة التي نظمها الكاتب الأرجنتيني ألبرتو مانغويل، مثل كتاب «تاريخ القراءة»، وكتاب «المكتبة في الليل»، يعثر على تلك الأهمية المشرقة للكتب، وأنها لم تكن مجرد ورق مرصوص على رفوف مغبرة، وإنما أرواح تهمس وتضحك، وتتحرك في البيوت حاملة الأفكار والمعارف كلها. نعم، الكتاب لم يعد المعلم الأول، ولكن هناك قصصا خارج سياق المألوف، يمكن للكتاب أن يحصل على أسبقية التعامل معها وإخراجها للناس، ومعها المعرفة المطلوبة. قصة الفتيات الأنيقات المتمشيات في عصاري بادية الكبابيش في وسط السودان في منتصف القرن الماضي وربما قبل ذلك، وهناك من يرقب ويصوت، قصة تصلح كتابا كما قلت. وتوجد قصة أخرى، وهي قصة صناعة أطباق للطعام، يتذوقها المشاركون في مراقبة الجمال المتحرك ذلك، والتي تفوز في القصة الأخرى، هي التي تصنع أفضل طبق للطعام، يقر الناس بتفرده، لقد أضافت تلك المسابقة الخاصة بالطعام، وظيفة الطبخ التي ما تزال المرأة تضطلع بها في معظم المجتمعات، أو لعلها في كل المجتمعات، إلى الآن، إنها وظيفة مكملة للأنوثة بلا شك، وليست عبئا إضافيا للنساء بجانب أعباء أخرى، لا يهتم بها الرجل عادة.
وسط موضوع الحب غير الجاذب كثيرا، نجد من يمكن أن يلون كتابته بشيء من خشونة هذه الأيام، كأن يجعل قصة الحب تدور في قارب مطاطي يحمل الرعب والأمل معا، ويستقله مهاجرون فارون من بلادهم نحو المجهول، ويصادف أن يجلس شاب بجانب فتاة، ويبدأ الاثنان في تبادل رعبهما.
أعتقد أن قصة كهذه، وبشيء من الخيال النافذ، قد تصبح عملا جيدا، فقط يحتاج الكاتب إلى صبر شديد، وأعصاب هادئة، لأن تعاطي الكتابة عن المأساة، ومحاولة زركشتها، يحدث كثيرا من التوتر، هنا لن نلاحق النظرات والابتسامات، ولكن سنلاحق المشاعر المتلاطمة في الصدور، بتلاطم أمواج البحر المستعدة لإنهاء قصة الحب في أي لحظة.
وأخيرا حين تقرأ لكاتب مثل الفرنسي، غيوم ميسو، ستحس قطعا بالحنين إلى الرومانسية الحقة، تلك التي تدغدغ، لكن بالنسبة لي على الأقل، لن يصبح الكاتب الرومانسي، كاتبا مفضلا أبدا.

كاتب سوداني

القدس العربي

تعليق واحد

  1. انت ياللخو طوالي داخل نصوصك دي لا بترفع راسك تعزي ولا بتهنئ يازول مرة مرة كدا اطلع من دنيا الخيالات دي وشوف أرض الواقع عشان تكتب فيه ونقرا فهمك ليهو

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..