أحب أسألك.. أشوفك تتيه.. أخاف أخجلك لأنك نبيه.. في حضرة ود الريح

الخرطوم – خالدة ودالمدني
كم كانت المعرفة ضحلة تجاه منجز الرجل الشعري، همست بذلك بعد أن اطلعت صدفة على كتاب قيّم يحوي في طياته عدد ٤٣٣ قصيدة شملت أطرب وأبلغ الكلمات التي صدح بها كبار المغنيين، بجانب نشأة وميلاد الشاعر، أهداني أياه مؤلفه البروفيسور أحمد إسماعيل، وكان أحد المقربين للراحل الشاعر والملحن عبدالرحمن الريح حاج حمد، الذي ينتمي لأسرة تمتهن تجارة الأنعام في سوق الماشية بأمدرمان وولد بحي العرب سنة ١٩١٢م.
التحق بخلوة الفكي أحمد ليتعلم القرآن ومبادئ العربية، ومن ثم إلى خلوة الخليفة عثمان، ويقال إنه لن يستمر بها وأخذه والده للعمل معه في متجره وأصبح يدرسه من مصحفه، وبذلك فإن حب عبدالرحمن للقراءة والكتابة غرس والده مذ كان صغيراً، وبعد ذلك سعى الريح ليتعلم مهنة بعينها، حيث انضم لورشة قسم الله الحوري وتعلم النجارة وأيضاً تركها فأرسله والده إلى إحدى محلات السروجية التي تعلّم فيها صناعة حقايب اليد النسائية، وييدو أن هذه المهنة الفنية راقت له بحكم أفقه المبدع، واستقر بها فترة طويلة حتى كتب كل قصائده الغنائية حينها، وترك مهنة السروجية في العقدين الأخيرين من عمره، ليفتتح دكانة صغيرة بمنزله في أمبدة حتى وفاته. اتصف الريّح بالأناقة واهتمامه بهندامه، وكانت تزّين وجهه شلوخ واضحة وربما يعود ذلك كونه جعلياً من ناحية أبيه وشايقياً من جهة أمه، وكان جده لوالدته معلماً مرموقاً حتى سُميت والدته بلقب (بنت الأستاذ).
كرّمه النميري
نتعمّق في حياة الريح الغنية بالفن الفريد ونتذوق عناقيد قصائده التي تطرب كل من يسمعها، وإلى ذلك يقول البروفيسور أحمد إسماعيل أستاذ لعلم الأحياء وتغذية الإنسان بجامعة الأحفاد المحب للفن عامة وصديق مقرب للشاعر عبدالرحمن الريح قال لـ (اليوم التالي) لم أر في حياتي عفيفاً مثله وكعادته يتحدّث بصوتٍ خافت، واستطيع بكل ثقة وصفه بأنه إنسانٌ مهذب ورقيق تخجلك بشاشته وكرمه عندما تلتقيه. وأردف: كان الريح وسيماً تفتتن به المعجبات عندما يذهب بيوت المناسبات لسماع أغنياته، وهو شاعر وملحن لها، كان يفضل الجلوس في مقهى محمد خير أو مقهى يوسف الفكي. يكشف لنا إسماعيل عن كيفية معرفته للشاعر، مضيفاً: ما لفتني تكرار اسمه على إذاعة أمدرمان آنذاك مع الرموز السياسية الاستعمارية منها والوطنية، حينها لم أستطع تقدير مواهبه الفذة لصغر سني، أما التقائي به صدفة غير متوقعة، ومن ذاك الحين توطّدت علاقتي به، وكنت أزوره كل أسبوع واستمرت الصداقة بيننا حتى توفي في ٢٨/٤/١٩٩١م، كرَّمه نميري في مهرجان الثقافة (١٩٧٨-١٩٧٩) وقتئذ كان البروفيسور علي شمو وزيراً للإعلام، هكذا يرى إسماعيل أن عبدالرحمن الريح ظاهرة لا تكرر، لافتاً إلى ما قاله محمد الجقر في شأن الريح بأنه أنشأ مدرسة متفردة في صياغة الأغاني، وقد سبقه فطاحلة غناء الحقيبة فتبع خطاهم، لكنه تفوّق عليهم في مجال التلحين والموسيقى، ليس ذلك فحسب بل كان غزير الإنتاج.
لا يزال محدثي يكشف الكثير والمثير عن حياة الريح وعبقريته في نظم كلماته، ووصفه بأنه فلتة في مجال الألحان، مشيراً إلى أن الشاعر استخدم تعبير (الروح) في كثير من قصائده، وهذا مقطع من أغنية خداري: “من بعده في هواه لروحي كم أداري.. إيه قصدو من عذابي لوما يقصد وداري”.
بروحي وعيوني أنا أخدم جنابه
أما في قصيدة المحبوب يقول: “مهما قلبي نابه من فرط اجتنابه.. بروحي وعيوني أنا أخدم جنابه”. وفي العيون يقول الريح: “بنورك المتوقد الأخضر الليموني.. خطفت موية بصري وعميت على عيوني”. وهنا أشار أسماعيل إلى ثقافة الشاعر حيث رمز إلى جفاف العين من الدمع بسبب كثرة البكاء، وبالتالي لن تستطيع الرؤية، أما استلهامه السحر والجمال في وصف العيون قال: “يا زهرة حياتنا وحياة زهرنا.. من أهداب عيونك أسباب نصرنا.. قسماً بجمالك أن طرفك رنا.. يهلك ألف فارس في رجال عصرنا”.. كان الريح يتأمل عندما يكون جالساً بين الورود والأزهار والأشجار الوارفة مع امتزاج أصوات مياه النيل الأزرق وأنين السواقي آتية من جزيرة توتي، فكل هذه العناصر شيّدت في وجدانه أحساساً مرهف، حيث ارتبطت جل أغنياته بالطبيعة، رغم أنه ولد بحي العرب غرب أمدرمان التي يسكنها أعراب يمتهنون تربية الماشية وتجارتها، ولا يوجد بها زهور ولا ورود وخمايل لتزكي النفوس وتلهمها. يؤكد مؤلف الكتاب أن ذكاء وفراسة الريح الشعرية لهما دور كبير في تغيير بيئته، حيث كان يرتجل إلى منطقة المقرن وحديقة الحيوان بالخرطوم عندما كانت هذه المناطق رياضاً غنَّاءة آنذاك. وأجمل قصائده استوحاها من الطبيعة، كقوله: “مرات في الحديقة يكون جالس براه الأزهار أمامه والأنهار وراه.. من الورد والياسمين عامل ضراه دا محجب دا نافر دا الزول كيف يراه”.. وفي أغنيته أنت نور قال د.نصر الدين شلقامي إن هذه الأغنية مدرسة متفردة في الغزل والوصف الجمالي في الحب.
مفتون الجمال
ربما أن الشاعر عبدالرحمن عاصر شعراء حقيبة الفن هذا العصر الذي وصف شعره بعض النقاد بالحسية والغزل المكشوف، لكن نجد أشعار الريح تنفي هذه الفرية على أشعار ذلك العصر. واستطرد إسماعيل بقوله: “عندما يمتلك الإنسان فتنة الجمال قد يظل حائراً كحيرتي هذه في تحليل أغنية أنت نور”، فهذا مطلعها: “أقول أنت نور ولا أقول زهور ولا أقول نسيم فواح بالعطور.. أقول أنت نور في أفق الوجود ولا أقول زهور في روض الخلود ولا أقول نسيم من عطر الورود.. أقول أنت أيه.. محيرنى ليه.. أحب أسألك أشوفك تتيه أخاف أخجلك لأنك نبيه وكلك شعور”.. هذا القدر الذي أسلفناه عن سيرة ومسيرة الشاعر عبدالرحمن الريح الغنائية فهو قليل من كثير، أما إذا أدلفنا الحديث عنه وأشعاره لجفت الأقلام، ولو كانت مداد البحر، ويكفي إبداع البروفيسور أحمد إسماعيل في توثيقه لحياة الشاعر عبدالرحمن الريح الفنية بهذا السرد الرايع والممتع، وليت يحذو حذوه الكثيرين لتوثيق حياة كل شعراء ومبدعي بلادنا بذات النهج الفريد

اليوم التالي

تعليق واحد

زر الذهاب إلى الأعلى

انت تستخدم أداة تمنع ظهور الإعلانات

الرجاء تعطيل هذه الأداة، فذلك يساعدنا في الأستمرار في تقديم الخدمة ..